الفريق بكر صدقي يقود اول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي عام ١٩٣٦/ ج٢

عودة ثانية الى بكر صدقي -الفريق بكر صدقي يقود اول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي عام 1936

في الموضوع السابق تحدثنا عن الفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية ونهايته الامأساوية وقلنا كيف ظهر الجيش كعامل مهم في السياسة العراقية وخاصة عندما قضي على عصيان الاشوريين عام 1933 بقيادة بكر صدقي قائد المنطقة الشمالية انذاك. ومن هنا شعر الضباط باهميتهم السياسية وقدرتهم على التاثير في مجرى الاحداث عندما اكتشفوا بعد ذلك انهم استغلوا ببشاعة حينما استخدمهم السياسيون المتناحرين على السلطة كجهازللوصول الى السلطة كما استخدم حكمت سليمان وجماعة الاهالي من اقناع الفريق بكر صدقي بالقيام بالانقلاب عام 1936 لقيادة اول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي


وكما استخدم العقداء الاربعة صلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وكامل شبيب وفهمي سعيد رشيد عالي الكيلاني ليقود اول انقلاب عسكري ويخوض حربا مع القوات البريطانية التي عادت الى العراق مرة ثانية بعد دخولها العراق عام 1914.


من هو بكر صدقي
ولد بكر صدقي بن شوقي العسكري في بغداد 1890 من ابوين كرديين وكان قد ابدى احيانا عواطفه نحو الاتراك ونحو الاكراد وحكمت سليمان – تركي – من اتباع مدرسة كمال اتاتورك الذي كان بكر صدقي قد خدم تحت امرته في الحرب العالمية الاولى وحبذ حكمت سليمان فكرة الانقلاب بسبب طموحه السياسي واراد ان يكون الانقلاب العسكري فرصة تتاح امامه كما كان حكمت وبكر صدقي كلاهما يحبذان قيام دولة موحدة وطنية تحت حكم فردي على غرار النظامين السياسيين التركي والايراني او الانظمة القائمة انذاك في كل من ايطاليا واسبانيا وكانا قليلي الاكتراث بالتطلعات سواء على النطاق العربي او النطاق الاسلامي اذ انهما لم يكونا متعاطفين مع افكار القومية العربية بصورتها السائدة انذاك. ورفّع الى رتبة فريق في نيسان 1936 .
على اثر انفصال العراق عن الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الاولى واصبح تحت الانتداب البريطاني بدا العراقيون يقاومون الاستعمار الجديد بكل عزيمة وتصميم. فقد قام الطلاب المثقفون بمظاهرات صاخبة ونشاط سياسي معاد للحكومة العراقية الموالية للبريطانيين وخاصة عقب توقيع المعاهدة البريطانية العراقية عام 1930 وتالفت في تلك الفترة مجموعة سياسية غير متجانسة سميت بـ (جماعة الاهالي) واصدرت صحيفة – الاهالي – في الثاني من كانون الثاني 1932 تنطق باسمها وتعبر عن اهدافها الداعية الى حقوق الشعب في الحرية والتنظيم والرفاه الاقتصادي.
وقد قادت الصحيفة خلال فترة صدورها الفكر الديمقراطي وخلقت رايا عاما بين المثقفين تبلور الى تيار سياسي متميز فقد اخذ بعض المفكرين من اعضاء الجماعة امثال عبد الفتاح ابراهيم ومحمد حديد وحسين جميل وعبد القادر البستاني يدعون الى الوطنية لا القومية وبدأت هذه الجماعة تتقرب من بعض السياسيين القدامى المتنفذين الذين عرفوا بوطنيتهم وتفتحهم وتحررهم الفكري لضمهم الى كتلتها فانتمى اليها جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي وحكمت سليمان الذين عرفوا باستقامتهم ووطنيتهم وايمانهم بالنظام الديمقراطي وميلهم الى الاراء الحرة والاصلاح.

وقد لعبت جماعة الاهالي دورا مهما في التحريض ضد حكومة جميل المدفعي اثناء العصيان العشائري عامي 1934 – 1935 .
وحينما توسعت دعوة جماعة الاهالي بدوا يفكرون في الوصول الى السلطة التي هي الوسيلة الوحيدة لتطبيق ارائهم في الاصلاح وتطوير المجتمع طبقا لما يؤمنون به. ولما كان من المتعذر تحقيق ذلك تحت ظل حكومات استخدمت كل وسائل البطش الاسكات المعارضة وسدت جميع السبل الديمقراطية امام خصومها وجماعة الاهالي بالذات للتعبير عن ارائهم والمساهمة في تسيير شؤون البلاد قررت ان تحقق اهدافها عن طريق الجيش.
وفي هذا الجو ظهرت امام الفريق بكر صدقي مطامع كبيرة جعلته ينظر الى افق اوسع لتحقيق مآربه مستغلا غياب القيادة المدنية الحكيمة القادرة على الامساك بكل الخيوط ووضع الحلول السليمة لكل معظلة ، واطماع بكر صدقي هذه شجعته على القيام باتصالات ببعض اصدقائه ومنهم العقيد شاكر الوادي الذي صور له سهولة العمل وعظمة المجد الذي سيفوز به اذا نجح في عمله وخلف قيادة طه الهاشمي رئيس اركان الجيش الذي كان يكن له حقدا كبيرا.

لعب حكمت سليمان دورا بارزا وحيويا في اشتراك الجيش بالنشاطات السياسية فهو الذي اخبر جماعة الاهالي بان بعض الضباط ارادوا الانضمام الى الاهالي وان اخرين قد ادوا اليمين بالاخلاص لمبادىء الاهالي المتمثلة في – الشعبية -

حيث اتصل بالفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية اللواء عبد اللطيف نوري واقنعه بالقيام بانقلاب عسكري يطيح بوزارة ياسين الهاشمي القائمة وتؤيده بذلك جماعة الاهالي وفئات الشعب المتبرم من حكومة الهاشمي .
وقد لاقت الفكرة ترحيبا من الفريق بكر صدقي الذي كان هو ايضا متبرما وبقية ضباط الجيش بسياسة الحكومة التي استعملت الجيش الة بيدها لضرب خصومها من رؤوساء العشائر الثائرين ناهيك عن الدوافع الشخصية ورغبة الضباط في اقامة حكم عسكري قوي على غرار الانظمة السياسية التي استندت الى الجيش ونجحت في فرض الاصلاح الاجتماعي في كل من ايران بقيادة رضا شاه وتركيا بقيادة كمال اتاتورك.

لقد تعرف بكر صدقي بجماعة الاهالي في حزيران 1936 بواسطة حكمت سليمان في دار كامل الجادرجي فقد كان بكر صدقي طموحا وكان قد وضع نصب عينيه منصب رئيس اركان الجيش الذي كان يشغله طه الهاشمي.كما كان مدركا بان الجيش كان في مكانة تسمح له بان يلعب دورا هاما سواء عن طريق تاييد الحكومة او باسناده للفئات السياسية الاخرى .
كانت مطامح بكر صدقي في الواقع تتركز في توجيه ضربة تضمن للجيش بان يصبح هو الاداة المسيطرة على امور البلاد، وان تصبح قيادة هذا الجيش في يد بكر صدقي نفسه. ويبدو ان احدا من المغامرين لم يكن يتطلع في اي وقت الى الحصول على الدكتاتورية الشخصية او الرسمية. وفي شهر تشرين الاول/اكتوبر 1936 غادر طه الهاشمي رئيس اركان الجيش في زيارة الى تركيا وعهد الى بكر صدقي قائد الفرقة الثانية بان يتولى رئاسة الاركان نيابة عنه. وحدث ان هيأت المناورات التي يجريها الجيش خلال فصل الخريف في اواسط منطقة ديالى الفرصة لتكيز كل القوات العراقية المسلحة تقريبا خارج العاصمة بغداد.
حينذاك امكن ابلاغ المؤامرة التي حاكها بكر صدقي مع حكمت سليمان الى عدد من الضباط الموجودين في ( قره غان) وعلى الاخص عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى ولهذا وضع القائدان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري مسودة رسالة موجهة الى الملك غازي يطلبان فيها تأليف وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان.

حيث ذكر في حينه ان حكمت سليمان كان صبيحة يوم الانقلاب يحمل تلك الرسالة داخل بطانة (سترته) وكان ينتظر وهو في بيت عبد الله الصافي اليعقوبي ظهور الطائرات العراقية في سماء بغداد والقاء قنابلها عليها حتى اذا ما ظهرت والقت ثلاث قنابل على مبنى مجلس الوزراء وغيره اسرع حكمت سليمان بالذهاب الى القصر الملكي لايصال تلك الرسالة.
ان بكر صدقي كان يعتقد ان اي انقلاب لا يمكن ان ينجح دون تاييد او غطاء سياسي مدني واقتنع ايضا انه لايستطيع تنفيذ ماربه دون تاكيد حكمت سليمان بمساندة جماعة الاهالي له وذلك لقدرتهم على التعبئة وخلق تيار جماهيري كبير داعم له .

لقد عرض حكمت سليمان الامر على جماعة الاهالي التي تضم كلا من حسين جميل وكامل الجادرجي ومحمد حديد وجعفر ابو التمن وعبد الفتاح ابراهيم وعبد القادر اسماعيل وذلك قبيل الانقلاب بفترة قصيرة وقد اعترض كل من جعفر ابو التمن وعبد الفتاح ابراهيم على فكرة الانقلاب العسكري وقال عبد الفتاح ابراهيم انه بتواجد الجيش في السلطة فقد لايكون من الممكن تنفيذ الحزب لبرنامجه الليبرالي لكن حكمت سليمان ذكر بان الجيش سيقوم بالانقلاب على اية حال وانه وافق على اشتراك الاهالي في الحكومة القادمة واخبرهم ان الجيش سينسحب من المسرح السياسي بعد الاطاحة بحكومة ياسين الهاشمي وطرح عليهم عدم تضييع تلك الفرصة النادرة للخلاص من دكتاتورية ياسين الهاشمي والقيام بالاصلاحات.
ومن اجل ضمان نجاح الانقلاب فقد طلب بكر صدقي من جماعة الاهالي كتابة البيان الاول الذي سيعلنه على الشعب اضافة الى كتابة الرسالة التي تقدم الى الملك غازي والتي كتبها بالفعل كل من جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي ومحمد حديد.
لقد وضع بكر صدقي في الخطط التفصيلية للمراحل النهائية للانقلاب بمساعدة اللواء عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى تتضمن تحرك الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي منتصف ليلة 28/29 تشرين الاول 1936 وتبقى الفرقة الاولى بقيادة عبد اللطيف نوري شرق بغداد لتلحق بقوات بكر صدقي بعد بضع ساعات كقوة دفاعية ثانية .

كما طلب بكر صدقي من صديقه الرئيس الاول – الرائد- الطيار محمد علي جواد قائد القوة الجوية بان يرسل طائرات محملة بالوقود والقنابل والمنشورات صبيحة يوم الانقلاب لالقائها فوق بغداد وموقعة باسم بكر صدقي بصفته القائد العام لقوة الاصلاح الوطني.

ففي 29/10/1936 نفذ الفريق بكر صدقي مخططه ودخل بغداد على راس القطعات التي بامرته - وكان انذاك وكيلا لرئيس اركان الجيش – والمتعاونة معه وطلب من الملك غازي اقالة وزارة ياسين الهاشمي وتكليف حكمت سليمان بتاليف حكومة جديدة واذعن الملك غازي لهذين المطلبين واحتل بعض اعضاء الاهالي مناصب فيها وتسلم اللواء عبد اللطيف نوري احد ابرز الضباط المتعاونين مع بكر صدقي وزارة الدفاع بعد مقتل جعفر العسكري وزير الدفاع.

في هذا الوقت كان حكمت سليمان قد توجه الى قصر الزهور لتسليم الملك غازي رسالة الجيش التي اطلق عليها وسلمها الى رئيس الديوان الملكي رستم حيدر وطلب منه ايصالها الى الملك غازي ثم غادر القصر .
في صبيحة ذلك اليوم وبعد ان تسلم الملك غازي الرسالة دعا السفير البريطاني – السير ارجولد كلارك كير – لاستشارته واخذ نصيحته فاخبره السفير بان تدخل الجيش في السياسة امر سيعود بنتائج مدمرة ونصح الملك غازي بمنع الجيش من دخول بغداد وبالفعل فقد كتب الملك غازي رسالة الى بكر صدقي حملها وزير الدفاع جعفر العسكري تطلب من صدقي عدم دخول بغداد الا ان الوزير العسكري لقي مصرعه عند باب المعسكر .



مقتل جعفر العسكري
---------------
يتحدث اسماعيل العارف في كتابه – اسرار ثورة 14 تموز- عن مقتل جعفر العسكري فيقول نقلا عن العميد الطيار كاظم العبادي كشاهد عن تفاصيل مقتل العسكري فيقول العبادي ( انه هبط بطائرته في – كاسلز بوست- اي منطقة خان بني سعد على طريق بعقوبة- ووقف قريبا من هيئة ركن الفريق بكر صدقي وخلال ذلك علم بوصول وزير الدفاع جعفر العسكري الى منطقة القوات الزاحفة الى بغداد وقرب – كاسلز بوست- وسمع بكر صدقي يسال الضباط المحيطين به عمن يتبرع بتصفية جعفر العسكري فاصاب الجميع الذهول ولم يجد احدا الا ان جميل فتاح تمتم بصوت خافت قائلا – سيدي ممكن بدون قتل ؟- ولكن بكر صدقي تظاهر بعدم سماعه فاصدر في الحال امرا الى كل من جمال جميل ولازار برامادوس واسماعيل عبادي الذي الذي تقدم الى جعفر العسكري وتابط يده اليسرى فشعر جعفر بنواياهم واخذ يستعطفهم قائلا انه يعتبرهم اولاده وانه هو الذي انشا الجيش العراقي ولا مانع لديه من العودة الى بغداد)
ويضيف العبادي( الا انه قبل ان يتم حديثه اشهر اسماعيل عبادي مسدسه واطلق عليه طلقة منه اصابت مقتلا في جنبه الايسر عندما كان يتأبط يده فسقط جعفر مضرجا بدمه فتقدم كل من لازار برامادوس وجمال جميل واطلق كل منهما طلقة على جعفر العسكري الذي كان لا يزال يلفظ انفاسه الاخيرة . اما جواد حسين فلم يصوب مسدسه اليه بل اطلق منه طلقة في الفضاء وبعد ان اسلم الروح تولوا دفنه تحت سفح احدى التلال القريبة)

وزارة حكمت سليمان

بعد ما نصح ياسين الهاشمي الملك غازي بمقاومة الانقلاب العسكرية وجد ان الملك الذي اجابه بانه يستطيع معالجة الوضع اذا ما استقال الهاشمي الذي لم يكن امامه غير الاستقالة فقدمها فورا وقبلها الملك فورا وفوض حكمت سليمان بتاليف وزارة جديدة وكانت على النحو التالي:
حكمت سليمان رئيس الوزراء ووزير الداخلية
جعفر ابو التمن للمالية
صالح جبر للعدلية
الدكتور ناجي الاصيل للشؤون الخارجية
كامل الجادرجي للاقتصاد والاشغال العامة
عبد اللطيف نوري للدفاع
يوسف عز الدين للمعارف
اما بكر صدقي فرغم انه كان القائد العسكري للانقلاب فانه لم يتول اي منصب وزاري بل احتفظ بمنصب رئيساً لاركان الجيش
اما عبد القادر اسماعيل البستاني وعبد الفتاح ابراهيم فقد اعلنا عدم قبولهما اي منصب وزاري لانهما كانا ضد مبدأ تدخل الجيش في السياسة وتغيير السلطة في انقلاب عسكري .وقد انهى عبد الفتاح ابراهيم علاقته مع زملائه حين سلمهم مذكرة تنبأ فيه قائلا( انكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة ولسوف تدفعون ثمن ذلك)
لقد وافقت جماعة الاهالي على الاشتراك في الانقلاب على شرط ان يعود بكر صدقي وقطعاته العسكرية الى ثكناتهم بعد نجاح الانقلاب وسقوط حكومة ياسين الهاشمي كما كانوا يعتقدون انه في خضم تلك الظروف ورغم سنين من الجهد ورغم نمو وتطور خبراتهم السياسية فقد وجدوا في اواسط الثلاثينات في حالة من الياس والاحباط ازاء الممارسات الفعلية الى حد انهم كانوا على استعداد للاقدام على التورط في اي انقلاب عسكري وهو اسلوب غريب عن مبادىء الديمقراطية التي امنوا بها كوسيلة لبناء عراق حضاري قائم على العدل والقانون والديمقراطية .

كما اعتقدوا ان الانقلاب العسكري هو الاسلوب الاسرع والاكثر جذرية لتحقيق اهدافهم الوطنية الثابتة في الاستقلال وانتهاج سياسة داخلية تقدمية وبالفعل لم يتدخل بكر صدقي ولا احد من ضباط الجيش في امور الحكومة خلال الاشهر الاولى لوزارة حكمت سليمان وترك بكر صدقي الشؤون المدنية الى رئيس الوزراء بينما ركز هو على دوره كرئيس لاكان الجيش ولكنه بعد مرور ما يقارب من سبعة اشهر على الانقلاب ازداد تدخل بكر صدقي في شؤون الوزارة حيث انه صار يحضر جلسات مجلس الوزراء وبدأ يوصي بمرشحين لوظائف حكومية هامة 

كان الحزب الشيوعي اول من ايد انقلاب بكر صدقي فاصدر بيانا في اول تشرين الثاني 1936 جاء فيه( ان الانقلاب الكبير الذي جرى باتحاد جيشنا الباسل وجماهير الشعب على اختلاف طبقاتها المتوثبة التي ارهقها ظلم افراد قلائل اثروا مصلحتهم الخاصة على المصلحة العامة وقد اثر الانقلاب تاثيرا قويا في النفوس ولاجل الاستمرار على اظهار الشعور بتاييد هذا الانقلاب وابداء الاعجاب بالجيش ولاجل الاشتراك فعليا في اظهار الاشياء من الاعمال الفضيعة التي جرت سابقا ولزيادة التماسك بين الشعب والتعبير الصارخ عن الابتهاج بزوال الطغيان الفردي وعودة الحرية ندعو الاهالي الى القيام بمظاهرة كبرى لتحقيق مطالب الشعب الانية .

وبالفعل خرجت المظاهرات والقى محمد صالح القزاز اول نقابي عمالي ومحمد مهدي الجواهري خطبا في تمجيد الانقلاب فيما هاجم بعض الغوغاء دور بعض الوزراء في حكومة الهاشمي المستقيل بل ودار الهاشمي نفسه .
والغريب في الامر ان في يوم 28 نيسان/ابريل 1937 تقدم بعض الشخصيات العراقية باقتراح لاقامة تمثال لبكر صدقي حيث قدم لفيف من النواب وهم كل من تكليف المبدر الفرعون واحمد عارف قفطان وخميس الضاري وروفائيل بطي ومكي جميل وفرهود الفندي وشعلان الفهد ومظهر الحاج صكب وعبد القادر الطلباني وحامد الجاف ومخيف الكتاب وحسين النفطجي . وكان عبد اللطيف نوري على رأس المعارضين من الضباط لذلك الاقتراح . الا ان هذا الاقتراح المستهجن لم تتم الموافقة عليه.
ولما كان الجواهري صديقا للانقلابيين فقد اصدر بعد شهر صحيفة باسم – الانقلاب – ونظم قصيدة مدح واشادة بالانقلابيين وجهها الى حكمت سليمان رئيس حكومة الانقلاب جاء فيها:
اقدم فانت على الاقدام منطبع وابطش فانت على التنكيل مقتدر
وثق بان البلاد اليوم اجمعها لما ترجيه من مسعاك تنتظر
فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا عما اراقوا وما اغتلوا وما احتكروا
للان لم يلغ شبر من مزارعهم ولا تزحزح مما شيدوا حجر
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
وبعد اقل من عام اغتيل بكر صدقي وسقطت حكومة حكمت سليمان والف جميل المدفعي الوزارة الجديدة فسارع الجواهري الى تبديل اسم صحيفته – الانقلاب – باسم جديد هو – الراي العام -
وقد اكد ذلك يوسف يزبك في كتابه – المحررون – حين قال( لا يخلوا بلد في العالم من اشخاص حقيري التفكير والتصرف ، وبغداد فيها من هؤلاء الاشخاص كما في غيرها فقد اغتنم الاسافل فرصة تحمس الجماهير وراحوا يحرضونها على اهانة فخامة الهاشمي والكيلاني والهجوم على دار الاول ورميها بالاقذار)
واضف يزبك:

( ومن نكد الدنيا ان هؤلاء المحرضين كانوا قبل يوم من ماجوريها واخذ الاسافل يلقون خطب التحريض ويهيجون الشعب للهجوم على دار الهاشمي وينعتون صاحبها بابشع النعوت وينالون من كرامته وحياته الشخصية ويا للاسف)
وقال يزبك( ولم يكن التحريض من الاسافل حسب بل كان من جماعة الاهالي حيث اخذ صاحبها عبد القادر اسماعيل البستاني في مقالاته في صحيفة الاهالي يشن هجوما عنيفا على اصحاب الاتجاه القومي في العراق – ومع ذلك فلم تشفع مقالات البستاني هذه له اذ بعد فترة قررت وزارة حكمت سليمان اسقاط الجنسية عنه وعن شقيقه يوسف اسماعيل ونفيهما الى الخارج في 2آب/اغسطس 1937 - مما دفع الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم الى الانفصال عن الاهالي بعد ان خالف فكرة الاستعانة بالجيش للاطاحة بوزارة ياسين الهاشمي على اساس ان جماعة الاهالي منظمة سياسية تؤمن بالشعبية التي اقسمت يمين التمسك باهدافها دون ان يكون لها اتصال بالمنظمات العسكرية وقد بقي متمسكا برايه هذا بعد نجاح الانقلاب ولم تفد المحاولات العديدة التي بذلت لارجاعه الى جماعته عكس روفائيل بطي الذي كان يمجد وزارة الهاشمي قبل استقالتها ولكنه سرعان ما انقلب هذا الانقلاب السريع ) وكان روفائيل بطي يمجد بياسين الهاشمي ويرى فيه بسمارك العرب الا انه انقلب فجاة ووصف الحركة قائلا- ان ما قام به الجيش العراقي الباسل لم يكن الا وسيلة من وسائل تنحية جماعة مستاثرة بالحكم وافساح المجال لسير الامور في المملكة على اساس النظام القائم-
ويضيف يزبك:

( فالناس في كل امة وفي كل عصر يتبعون القوة لانهم يحسبون ان الحق يدعمها كما تدعمه ويرون انها لا تستطيع ان تقوم وحدها الا اذا كان اساسها الجور والظلم)
كما كانت الصحف العربية تهاجم حركة بكر صدقي وترى فيها خطرا على العرب وخروجا على تقاليد البرلمانية والقواعد الدستورية .واجمعت الصحف العربية كلها على ان خطر هذه الحركة التي اصبحت مقدمة لانقلابات تقع في العراق بين الفينة والفينة
فجريدة القبس الدمشقية قالت في عددها 978 ( الخطر من الدكتاتورية الجديدة ان يزج الجيش في السياسة وان ينصرف عن البلاد الى الدفاع عن الاحزاب والاشخاص والكراسي)
اما العرب الدمشقية فقالت في عددها 4299 (نأمل ان لا يكون حصاد العرب في العراق من هذا الانقلاب الذي حدث ضياع هذه الشهرة التي يتمتع بها في العراق في زمن فيصل الاول والوزارات القومية)
كان لبكر صدقي فعلا الهيمنة المطلقة على اعمال جميع الوزارات فقد اسند الى نفسه رئاسة اركان الجيش العراقي واحال العميد طه الهاشمي على التقاعد فكان الوضع مشوبا بالضغط فلا يقر قانون الا بموافقته ولا يعين رئيس دائرة الا بترشيحه ولا ينقل موظف الا بأمره ولا..ولا.. . وقد دعي ناجي شوكت وزير العراق المفوض في انقرة الى بغداد في 24 /11/1936 للاشتراك في الوزارة الجديدة فلم يوافق على ذلك.
وكانت اول كلمة تفوه بها رئيس الوزراء في حفلة الاستيزار هي" اني اشكر صاحب الجلالة الملك وليس لي شيء اقوله في مثل هذا الموقف سوى اني اطلب الى الشعب العراقي الكريم الذي اولانا ثقته ان يرجع الى حالته الطبيعية من السكينة والهدوء، كما اطلب الى الموظفين ان يؤدوا وظائفهم كما ينبغي . واسال الله تعالى ان يوفقني لتحقيق الغاية التي اتيت من اجلها.
وما كادت الوزارة تنتهي من حفلة الاستيزار حتى ابرقت الى متصرفي الالوية تقول" بعناية الله وجهود الشعب الكريم وعلى رئاسة الجيش الباسل حصلت على عطف جلالة الملك المعظم بتأليف الوزارة بعد ان استقالت وزارة الهاشمي ، فأملي وطيد بجميع ابناء الشعب الكريم في اختلاف طبقاتهم ان يتعاضدوا ويتكاتفوا على كل ما يستوجب طمأنينة المجموع وسلامته وان يعمدوا الى الراحة بعد الذي تجشموه من المتاعب في سبيل مظاهر الافراح ورغبتي الاكيدة في ان يركن كل فرد الى مصالحه واعماله وزراعته ، والله اسأل ان يسدد خطواتنا ويوفقنا الى ما فيه خدمة الجموع ورفاهه واطمئنانه.
وقد نشرت هذه البرقية بشكل رسمي في بغداد ايضا وهي اول تصريح رسمي بان الحكومة السليمانية توسدت الحكم عن طريق الجيش خلافا لصراحة الفقرة الخامسة من المادة 26 من القانون الاساس العراقي التي تنص على (ان الملك يختار رئيس الوزراء وعلى ترشيح الرئيس وتعيين الوزراء ويقبل استقالتهم من مناصبهم).
عندها شعر جماعة الاهالي بقلق عميق حول تزايد تدخل الجيش في شؤون الحكومة فالتقى الجادرجي مع ابو التمن الذي وجد نفسه انه لم يعد له امل في منع رئيس الوزراء من تقليص تدخل بكر صدقي في شؤون الحكومة فقدم الاثنان استقالتيهما بعد ان حثا وزيرين اخرين عليها وهما صالح جبر ويوسف عز الدين .
وهكذا اصبح بكر صدقي واعوانه في شهر تموز 1937 هم القوة الفعلية المسيطرة على رئيس الوزراء وشؤون الحكم كما اصبحت الحياة في العراق تتميز بالاغتيالات وممارسات الاهانة والاذلال للخصوم السياسيين وبدات سلطة بكر صدقي في اتخاذ اجراءات النفي واسقاط الجنسية مع خصومها السياسيين حيث جرد المحامي عبد القادر اسماعيل وشقيقه من الجنسية العراقية كما تم نفي كامل الجادرجي وشخصيات سياسية اخرى الى قبرص فيما اعتزل جعفر ابو التمن الحياة السياسية وتفرغ للاعمال التجارية حتى وفاته عام 1945.
كان ابو التمن يعتقد بداية ان الانقلاب سيعمل على تنفيذ البرنامج الوطني من اجل تطوير البلاد ويبشر بقدوم مرحلة حوار سياسي حقيقي بين كافة الاطراف لكنه عندما تبين له بعد ذلك ان العسكريين الذين نفذوا الانقلاب كانوا في الواقع صورة اخرى لنمط الحكم العثماني القديم فقدم استقالته وترك العمل السياسي وتفرغ للعمل المهني كمواطن عادي .

اسباب انهيار حركة بكر صدقي

تعرضت حركة بكر صدقي لهجمات المعارضة التي تمكنت من الاجهاز عليها ونجحت في اغتيال قائدها الفريق بكر صدقي في الموصل في 11آب/ اغسطس 1937 وانتهت الحركة بموته وعاد السياسيون القدامى الى المسرح السياسي وشنت الحكومات المتعاقبة حملات بطش بوليسية على جماعة الاهالي بالذات وطاردتهم وزجت بعضهم في السجون والمعتقلات .
لقد ادت عدة عوامل الى انهيار حركة بكر صدقي العسكرية منها انعدام الجهاز التنظيمي والعقيدة السياسية التي تربط الجيش باهداف سياسية محددة المعالم واهمالها للمشاعر والكتل القومية التي كانت تلعب دورا نشطا في الجيش ثم لجوئها الى العنف في تصفية خصومها جسديا فانهارت حالما اغتيل بكر صدقي بمؤامرة دبرتها الكتلة القومية من ضباط الجيش بزعامة امر حامية الموصل امين العمري و صلاح الدين الصباغ يساعدهم في ذلك خصوم الانقلاب من المتضررين منه وخاصة الذين ارادوا الانتقام لمقتل جعفر العسكري .
لقد كانت حركة بكر صدقي سطحية مبتسرة نفذت في وقت لم تكن قد نضجت فيه الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية فانعدام وضوح الرؤية السياسية للحكومة الجديدة وفقدان الانسجام بين اراء جماعة الاهالي والقادة العسكريين وطموحاتهم وقوة خصوم الحركة من قوميين وساسة تقليديين وزاد من حدة المعارضة مقتل جعفر العسكري ودخول عامل الانتقام الشخصي من قادة الانقلاب وعلى راسهم بكر صدقي الذي قرر هو والمتعاونون معه من الضباط تصفية خصومهم من رجال العهد السابق بكل الوسائل المتيسرة لديهم كما ان وزارة حكمت سليمان لم تكد تضطلع باعباء الحكم حتى انهالت على بعض الشخصيات العربية رسائل تهديد بالقتل ان لم يغادروا العراق فور تسليمها . بل ان بكر صدقي في تلك الفترة التي يدعو فيها للعنف ضد خصومه وبالذات فقد احتفل بخطوبته من احدى السيدات الالمانيات وتلقى الكثير من الهدايا وخاصة من الجالية اليهودية في بغداد فسادت البلاد فوضى من انتقامات واغتيالات شخصية ففي 21/1/1937 اغتيل ضياء يونس الموصلي سكرتير مجلس الوزراء في حكومة ياسين الهاشمي اثناء خروجه من مسكنه في محلة السعدون حيث انهال عليه الرصاص من كل جانب وتقدم احد الرماة والقى الجثة في الساحة وقيل ان القتيل كان يقود حركة سرية معارضة لبكر صدقي وانه يمتلك وثائق سرية خاصة بالقضية الفلسطينية وان قاتله اسمه اسماعيل توحلة الموصلي .
يقول سليمان فيضي في مذكراته" جاء ضياء بعد الانقلاب بايام قلائل، وهو بادي القلق والارتباك وقال لي ان بعض الضباط دخلوا مكتبه وطلبوا منه احضار اضبارة تتعلق بالتهم التي نسبت الى بكر صدقي في عهد الوزارة السابقة بقصد اتلافها ، فلما اخبرهم بانه لا يعلم من أمر تلك الاضبارة شيئا توعدوه بالقتل ان هو لم يحضرها ثم خرجوا.
في ليلة 10 شباط/فبراير 1937 تصدت عصابة بكر صدقي لمولود مخلص عضو مجلس الاعيان في احدى الامسيات عند المنعطف من وزارة الدفاع الى الشارع الذي يسكن مولود فيه وهو شارع العسكري المحاذي لنهر دجلة- وامام مدينة الطب حاليا- وامطرته برصاصات وهو في سيارته لم تصبه بل رد على المهاجمين باطلاقات من مسدسه. وحين خرج مولود بعد ذلك الحادث بايام قلائل الى مزرعته في ( الحمرة) شمالي تكريت ارسلت اليه ثلة من الشرطة في سيارة مسلحة حيث طلب اليه معاون الشرطة في تلك السيارة ان يرافقه الى بغداد . واستطاع مولود ان يخدع ذلك المعاون بان طلب اليه بان ينتظره في تكريت لكنه اعد العدة للهرب بالتوجه بسيارته الى سوريا يرافقه في ذلك ابن اخيه جاسم امين متخذا طريق شركة النفط العراقية( بيجي) الى( حديثة) ومن هناك عبر الحدود ليستقر في دير الزور.
وبعد مقتل بكر صدقي وسقوط حكومة حكمت سليمان عاد مولود مخلص واقام الدعوى على من اتهمهم بالاعتداء على حياته لانه كان يشجب الانقلاب ويهاجم بكر صدقي.
وفي 16/2/1937 اغتيل الشيخ عبد الله باشعالم الموصلي في ديوانه بقرية تل الشعير في المواصل .
وفي 22/3/1937 وجد علي رضا العسكري شقيق جعفر العسكري وتحسين العسكري ذبيحا في داره .

اول عصيان عسكري في العراق

فقد اعلن امين العمري امر حامية الموصل العصيان على الحكومة في بغداد التي كان يراسها حكمت سليمان ورفض تسليم المتهمين باغتيال بكر صدقي بل ان العمري اصدر بيانا الى الشعب العراقي دعا فيه أبناء الموصل على الانتفاضة على سياسة حكومة سليمان التي وصفها بالجائرة التي تريد التنكيل بالضباط بسبب مقتل بكر صدقي حسبما جاء في البيان. كما أيدت عصيان العمري قطعات معسكر الوشاش في بغداد بقيادة محمد سعيد التكريتي واعلنتا قطع الاتصال بالحكومة المركزية فاضطرت حكومة حكمت سليمان الى الاستقالة وبذلك انهارت اول حكومة اقامها الجيش في العراق بعدها بدأت مرحلة جديدة تزايد فيها استخدام الجيش من قبل الساسة التقليديين انفسهم كاداة لتنفيذ اطماعهم الشخصية في السلطة واشتد الصراع بين كتل الضباط التي استقطب ولاؤها لهذا السياسي او ذاك الى ان تبلور في سيطرة الكتلة القومية على مقاليد الجيش بقيادة صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب وعزيز ياملكي وانضم اليهم اخيرا الفريق حسين فوزي وامين العمري وسيطروا على الجيش بتسلم اهم المراكز القيادية فيه بعد اغتيال بكر صدقي واصبح رضاهم ضرورة اساسية لاي حكومة تنوي البقاء في السلطة .

للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:

https://www.algardenia.com/ayamwathekreat/57358-2023-01-28-09-08-26.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1974 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع