صفحات مطوية من حياة يوسف سلمان .. ايام التأسيس في الناصرية

        

صفحات مطوية من حياة يوسف سلمان .. ايام التأسيس في الناصرية.

   

ظهرت اولى الخلايا الماركسية في جنوب العراق وتحديدا في مدينة البصرة عام 1927 على يد عبد الحميد الخطيب . وضمت في عضويتها يوسف سلمان يوسف(فهد) وزكريا الياس دوكا وداود سلمان يوسف وغالي زويد، فضلاً عن عبد الحميد الخطيب،وهو من مواليد مدينة البصرة عام 1904 ابن عامل بسيط، اكمل الثانوية في بغداد ثم سافر الى بيروت للدراسه في الجامعة الامريكية للمدة ( 1923-1925 ).

عاد بعدها الى العراق وعين مدرسا لمادة الفيزياء في ثانوية البصرة، وكان متحمساً للافكار الجديدة المتحررة.
اما خلية الناصرية الماركسية فقد أسست في بداية الثلاثينات، وكان لكل من بطرس شمعون « بطرس فاسيلي» ويوسف سلمان يوسف(فهد) اثرٌ كبيرٌ في تكوينها. وبطرس فاسيلي آثوري الاصل كان والده يسكن العمادية شمال العراق، ثم هاجر ايام العثمانيين الى تفليس بجورجيا، فتعلم هناك واتقن لغات عدة مثل العربية والفارسية والتركية والروسية، ثم جاء الى العراق عام 1922 عن طريق (ايران) ،وقضى سنوات متنقلا ما بين بغداد والبصرة وبعقوبة والسليمانية، حتى استقر في الناصرية ليفتح له محل خياطة فسمي « بطرس الخياط «.

كسب شعبية في المدينة بتعامله الحسن معهم، فكان يقضي بعضاً من وقته ليعلم الخياطين المنافسين له طرق الخياطة الحديثة. وكان يزور فلاحي مدينة الناصرية باستمرار ويفيض في الحديث معهم بشأن اساليب الحكم والاقطاع السائد وجهل الفلاح والامراض التي تفتك بالطبقات الفقيرة. ويقارن بين اوضاع الناصرية والعراق عامة والاوضاع السائدة في روسيا. ونشط لنشر الفكر الماركسي في المنطقة. متزامنة جهوده هذه مع جهود يوسف سلمان يوسف( فهد) الذي التقى به في الناصرية ، وظل فاسيلي داعية شيوعيا في الناصرية حتى اكتشاف الشرطة امره ونفيه الى خارج العراق عام 1932.

        

اما( فهد ) من مواليد قرية « كرمليس»،احدى قرى لواء الموصل عام 1901 وينتسب الى عائلة كلدانية عمالية فقيرة ، انتقلت الى بغداد، ثم الى البصرة عام 1908 طلبا للعمل، ودخل هناك مدرسة السريان الابتدائية. وبعد تخرجه دخل مدرسة الرجاء الصالح، وقضى فيها سنتين ثم اضطر الى تركها واللجؤ الى العمل ،وبعد وفاة والده عام 1916 انتقل الى الناصرية وعمل في معمل الثلج الذي يملكه اخوه داود، ثم عاد الى البصرة وفي نفس العام عين في مؤسسة الكهرباء التابعة لميناء البصرة بوظيفة كاتب. وشارك في اضرابات عمال السفن وارصفة الميناء عام 1918 ، وشهد احداث ثورة العشرين وتأثر بها وباهدافها وبالقوى التي كانت توجهها، اذ كانت مناطق وسط العراق وجنوبه من المناطق الملتهبة ايام ثورة العشرين .

                

وبعد تأسيسس الحزب الوطني العراقي بزعامة جعفر ابو التمن عام 1922، عمل في صفوفه وأسهم في توجه الجماهير لتأييده. وفي عام 1924 قاد فهد ومعه آخرون، ومنهم صديقه « حسن العياش»، الاضراب العمالي الذي نظم في ميناء البصرة لتحقيق مجموعة من المطاليب العمالية، كان في مقدمتها انصاف العمال بزيادة اجورهم وتقليل ساعات العمل وتحسين ظروف العمل. وبرز عام 1926 في نادي الشبيبة في البصرة الذي كان بمثابة ملتقى ثقافي لاصحاب الاتجاه السياسي. وفي عام 1927 انضم الى اول خلية ماركسية في البصرة وهي خلية عبد الحميد الخطيب ، ثم شارك في تأسيس جمعية الاحرار في البصرةعام 1929.
لم تنقطع علاقة فهد بالناصرية بعد ان غادرها الى البصرة عام 1916،اذ كان يتردد عليها باستمرار حتى استقر فيها ليعمل في معمل الثلج التابع لأخيه عام 1927 ،وكان يتردد باستمرار على البصرة، الا انه استغل وجوده في الناصرية لتثقيف نفسه ثقافة عامة، والتقى هناك ببطرس فاسيلي، فأعجب بأرائه واسلوب كلامه فلازمه كثيراً حتى اخذ فهد نفسه يتحدث عن مشاكل العمال وسوء وضع الفلاح ، وضرورة مواجهة الاقطاع وانصاف اصحاب الاراضي. وانصرف لدراسة اوضاع الناس فكان يجوب المناطق التي تحيط بالمدينة. وقد شمل تجواله هذا مناطق واسعة من الناصرية والبصرة والكوت والمحمرة. ودوّن مشاهداته عن احوال تلك المناطق في صحيفتي « الشباب «و « البلاد «، على شكل رسائل تحدثت عن وضع الفلاحين السيء.
في عام1930 قام فهد بجولة في البلاد العربية، فزار لبنان حيث تعرف على حاييم اورباخ ( عبود) سكرتير الحزب الشيوعي الفلسطيني ومسؤول الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية، الذي رشحه للدراسة في «جامعة كادحي شعوب الشرق». توجه بعدها لدراسة الكتب الاقتصادية الكلاسيكية مثل كتاب «رأس المال» لكارل ماركس وغيره. ثم توجه للكتابة في صحيفة « العمال « وطالب بانصاف الطبقة العاملة العراقية. في عام 1932 عمل فهد مراسلا لجريدة «الاهالي» في مدينة الناصرية، فكتب عن اوضاع السكان بأسم (مراسلكم) ،وتناول احوالهم المعاشية المتردية وسوءالخدمات المقدمه لهم.
اما دوره في تأسيس خلية الناصرية الماركسية، فقد بدأ في مطلع الثلاثينات ومعه» مهدي وفي» الذي انتقل من البصرة الى الناصرية عام 1929، ليفتح مع فهد مكتبة لبيع الكتب والصحف يسهم معه بنشر الفكر الماركسي وتنظيم الناس لغرض العمل الجماهيري ،فجذب اليه عبد الجبار حسون الجار الله رئيس فرع الحزب الوطني العراقي في الناصرية واخيه عبد الكريم حسون الجار الله وعبد الرحمن داود وعبد الجبار الغفوري واحمد جمال الدين وحميد الكسار وحميد مجيد دبه. كما تعاطف معه ضياء شكارة المدرس في ثانوية المدينة والشاعر طالب فليح، وجميع هؤلاء من الطبقة العاملة البسيطة من فلاحين وعمال وموظفين . وراح فهد يوجههم نحو الماركسية بنقاشاته معهم،التي غلبت عليها السمة الماركسية، وزجهم معه بكتابة المناشير الماركسية.
اعتمد فهد في تأسيس خلية الناصرية الماركسية على اعضاء الحزب الوطني العراقي في المدينة، الذين اصبحوا من الناشطين الماركسيين الاوائل دون ان يقطعوا صلتهم بالحزب الوطني العراقي الذي كان يحتل مكانه متميزة عند العراقيين عامة، وانما يمكن القول انهم وجدوا فيه وسيلة للعمل في سبيل تحقيق اهدافهم .
بدأ النشاط السياسي للخلايا الماركسية في الجنوب(البصرة والناصرية) بصورة واضحة أبان الاضراب العام الذي شهدته بغداد عام 1931ضد «قانون رسوم البلديات» الذي سرعان ما بدأ ينتقل الى مدن العراق الاخرى . ففي البصرة بدأ الرأي العام بالهياج في تموز 1931، بتحريض من العناصر الماركسية ضد المراسيم التي اصدرتها الحكومة. وتطور امر الهياج هذا الى صدامات دامية سقط فيها عدد من القتلى، فسارعت بريطانيا الى ارسال آليات مدرعة وقفت على مقربة من البصرة وانزلت قوات عسكرية في المدينة بحجة حماية الشركات الاجنبية . واستطاعت الجماهير الغاضبة من السيطرة على المدينة مدة ثلاثة ايام، مما دفع الحكومة الى نقل قوات عسكرية عراقية بالطائرات والقطار الى البصرة لقمع التظاهرة، وهرع رئيس الوزراء نوري السعيد بنفسه ليشرف على عمليات القمع وينتقم من زعماء الجماهير المتظاهرة منهم الشيوعي «حسن العياش» وهو من اصدقاء فهد ومن الماركسيين الاوائل في البصرة. فقد صدر آمر اعتقاله ثم قتله وهو رهن الاعتقال، فكان اول ماركسي يقتل.

وقد استمرت الجماهير الثائرة في التظاهر ومن ضمنهم الماركسيين في البصرة حتى اخمدتها الحكومة.
لم تكن المواجهات والصدامات الدامية في الناصرية اقل حدة مما كان عليه الحال في البصرة ،فكان الاضراب في هذه المدينة يجري بتوجيه من فهد، من خلال مجلس عبد الجبار حسون الجار الله .فقد اضربت معظم متاجر المدينة ومقاهيها وسارت الجماهير في تظاهرات خرجت من احد الجوامع بعد ان القت الخطب الدينية بذكرى ولادة النبي محمد ( صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ) والخطب السياسية المنددة بقانون رسوم البلديات . ثم ما لبثت ان وقعت الصدامات مع قوات الشرطة وجرت بين الطرفين مناوشات بالعصى والحجارة، واستخدمت قوات الشرطة اسلحتها لتفريق المتظاهرين فقتل اثنان منهم واعتقل عدد اخر من بينهم اعضاء من خلية الناصرية الماركسية.

        

بعد حوالي شهر من التظاهرات ضد « قانون رسوم البلديات «وتحديدا في 24 اب 1931 ظهر في شوارع الناصرية اول بيان ماركسي موقع بأسم « الاشتراكي ح.ج» يحمل شارة المطرقة والمنجل، الصقت نسخ منه على شجرة امام دار ضابط الخدمات الخاصة في المدينة، ونسخة اخرى على (عامود الكهرباء) امام دار المتصرف واخرى على حائط نادي الضباط في الناصرية .

واخذ البيان شكل نداء موجه الى الفقراء من عمال وفلاحين للمطالبة في الثروة التي يملكها التجار لأن هذه الاموال في اصلها اموالهم وسلبها منهم هؤلاء التجار.ودعا الى الوحدة بين الفقراء ،وموجها دعوة صريحة للانضواء تحت لواء الاشتراكيين ليقضوا على هذه الفوارق وعلى تسلط التجار ويحققوا العدالة.
ووزعت في مدينة الناصرية اواخر عام 1932 مجموعة بيانات كتبها( فهد) على ورق احمر،كانت تحمل توقيع عامل شيوعي، ومنها البيان الذي صدر في 13 كانون الاول 1932 وحمل شعار « يا عمال العالم اتحدوا « و» عاش اتحاد جمهوريات العمال والفلاحين في البلاد العربية «.وذكرَ العمال بالبطالة التي يعانون منها والوضع السيء الذي تعيشه عوائلهم ،ووصف الحكومة بأنها» عصابة تعمل ضد الشعب « . ودعا بشكل صريح الى استخدام القوة للحصول على الحقوق التي اغتصبها الاثرياء.
اعقب ذلك بيان اخر وزع في مدينة الناصرية ليلة 23/24 كانون الاول 1932 كتبه فهد ،وحمل شعارات البيان السابق نفسها. وهاجم فيه معاهدة 1930 مع بريطانيا كونها جعلت العراقيين عبيداً للمصالح البريطانية . وهاجم ايضاً وزارة ناجي شوكت ( 3تشرين الثاني1932-18 اذار 1933) وقرارها بحل مجلس النواب القائم واجراء انتخابات نيابية جديدة، موضحا ان هدف الوزارة هو المجيء بمجلس نواب خاضع لها.وانتقد البيان ما جاء في منهاج الوزارة من وعود اصلاحية في ترقية الزراعة ونشر المعارف ، واكد انها وعود كاذبه طالما رددت سابقاً. اما عن خطة الحكومة في تنفيذ قانون الدفاع الوطني لغرض التجنيد الاجباري، فقد اوضح البيان ان الغرض من هذا القانون ليس تعزيز الدفاع الوطني، وانما حراسة المصالح البريطانية وشركات النفط الاجنبية والانابيب التي تنوي مدها عبر الصحراء.
اثار ظهور هذه البيانات ضجة واسعة في المدينة وهرعت قوات الشرطة لمداهمة بعض الدور واعتقال اعضاء الهيئة الادارية للحزب الوطني العراقي في الناصرية اذ كانت قوات الشرطة تعتقد ان افراد هذا الحزب وراء هذه البيانات ، وكان من بين المعتقلين ضياء شكارة وسليم الحريري ومحمد حسن القطيفي ويوسف جبرائيل والمحامي حسين حداد.
على الرغم من حملة الاعتقالات، واصل ماركسيو الناصرية توزيع منشوراتهم ،وعهدت المهمة بعد تلك الاعتقالات الى عبد الكريم حسون الجار الله، الذي وزعها على الحشود في محطات القطار في السماوة والديوانية وكربلاء، الذاهبة للالتحاق بموكب عزاء الأمام الحسين بن علي( عليهما السلام ) واخفت هذه المناشير بين الامتعة وفي( القدور) المعدة للطبخ ، وكانت هذه المناشير تدعو الى الاشتراكية.
في الوقت الذي ظهر فيه البيان الاخير، تناقلت الايادي الترجمة العربية للبيان الشيوعي لماركس وانجلس. وتوسعت الدعاية الشيوعية في المدينة، فأعتقلت قوات الشرطة، فهد مع عدد من اعضاء الهيئة الادارية للحزب الوطني العراقي من بينهم رئيس فرع الحزب عبد الجبار حسون الجار الله.
تصاعدت حملة الاحتجاج لاطلاق سراح المعتقلين ، وبذل جعفر ابو التمن معتمد الحزب، جهوداً كبيرة في هذا الجانب، ونشطت جريدة « الاهالي «وصحف وطنية اخرى لنشر الاحتجاجات والتنديد بالاجراءات الحكومية. وظهر في مدينة الناصرية في 2اذار 1933 منشور كتبه عبد الكريم حسون الجار الله، يطالب باطلاق سراح المعتقلين.
نتيجة لهذا الضغط اطلق متصرف لواء المنتفك سراح بعض الموقوفين وابقى بعضهم الاخر وفي مقدمتهم فهد وعبد الجبار حسون الجار الله. ثم جرى تحقيق مع بقية المحتجزين بحضور المتصرف الذي اصر على ان يقدم كل محتجز براءة من الحزب الوطني العراقي. ولما وصل الدور الى فهد اعلن بكل صراحة وصلابة انه ليس من اعضاء الحزب الوطني وانما هو شيوعي وانه مؤمن بمبدأ الشيوعية ، واسهب بالكلام امام المتصرف و المحققين عن المبادىء الماركسية، ووصفها بالعادلة،وتطرق لعيوب المجتمع بانقسامه إلى مستفيدين ومتضررين، اغنياء وفقراء وبين رأسماليين متنفذين وجماهير كادحة،الامر الذي دفع المتصرف الى احالة فهد الى المحكمة ،وكان حاكم مدينة الناصرية انذاك « عبود الشالجي « الذي عرف بنزاهته ووطنيته، واحيل مع فهد للمحاكمة بعض من ماركسيي بغداد، الذين تم القاء القبض عليهم بتهمة الشيوعية ومن بينهم قاسم حسن . اعترف فهد امام الحاكم عبود الشالجي بانه شيوعي، الا ان الحاكم افرج عنه اذ لم يكن في قانون العقوبات البغدادي ما يحرم الشيوعية، وبعد الافراج عنه سافر الى بغداد هرباً من رجال الشرطة.

عن رسالة ( الحزب الشيوعي العراقي دراسة تاريخية )

المدى/د .مؤيد شاكر الطائي

   

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

569 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع