( بين الإنكشارية والحشد الشعبي: ظل الدولة الذي التهم جسدها)

ذو النورين ناصري زاده

( بين الإنكشارية والحشد الشعبي: ظل الدولة الذي التهم جسدها)

في دهاليز التاريخ بصمات لا تمحى، تلوح ظلال متشابهة عبر القرون. ها هي قصة الإنكشارية العثمانية - ذلك الجيش الذي تحول من سيف السلطنة إلى سجانها - تعود لتهمس في أذن العراق الحديث عبر تجربة الحشد الشعبي. تشابه مقلق يخترق حاجز الزمان، حيث ولدت القوتان كضرورة دفاعية: الإنكشارية حامية الفتوحات، والحشد درعاً وطنياً ضد داعش الهمجي. لكن نبتة القوة الموازية حين تُسقى بامتيازات السلطة والنفوذ، تتحول إلى شجرة خبيثة تظلّل على مؤسسات الدولة وتخترق عظامها.
تلك القوى التي بدأت كحلّ، صارت مع الوقت مشكلة عصية. فالإنكشارية أكلت قروناً من عمر السلطنة وهي ترفض الإصلاح وتقاوم التحديث، متمسكة بامتيازاتها كدولة داخل الدولة، حتى تحكمت في عزل السلاطين وقتلهم. وفي العراق، فصائل مسلحة من الحشد تشققت عن جذع الدولة الأم، ترفض الانصهار الكامل في مؤسساتها، وتنزف اقتصادها بتمويل مزدوج - رسمي وخفي - بينما ولاءاتها تتشظى بين القيادات المحلية والأجندات الإقليمية. كلاهما تحول من حارس للسيادة إلى ناقض لها، من جيش نظامي إلى عصا تعرقل بناء الجيش الحقيقي، من أداة حماية إلى أداة فساد وابتزاز.
ثم يأتي درس التاريخ القاسي: ثمن التردد. تأخر العثمانيون قروناً في مواجهة الإنكشارية، فدفعوا الثمن ضعفاً متراكماً انتهى بـ"الواقعة الخيرية" الدموية عام 1826، حيث أُبيدت الفرقة في ساحات اسطنبول. لكن الدماء لم تنقذ الدولة العجوز التي سقطت بعد قرن. والعراق اليوم يكرر اللعنة نفسها: كل تأجيل لحل إشكالية المليشيات يزيد الجرح عمقاً. اقتصاد يُستنزف، مجتمع يُفكك، سيادة تُسلب تحت سمع السلطة وبصرها. الفروق موجودة طبعاً: فالحشد وليد لحظة طارئة، والإنكشارية ابنة قرون، والتدخل الإقليمي في العراق يضيف تعقيداً ساماً. لكن الجوهر واحد: حين تفقد الدولة احتكارها للعنف الشرعي، وتسمح بولاءات مسلحة منافسة، فهي توقع على حكم إعدامه حدا البطيء.
السؤال المصيري الذي يطل برأسه من بين سطور التاريخ: هل يمكن للعراق أن يتعلم من "الواقعة الخيرية" دون أن يكرر مأساتها؟ أن يعيد سلاح الحشد إلى حضن الدولة مؤسسياً وقانونياً قبل فوات الأوان؟ أن يفهم أن وجود قوة موازية - مهما تزيّت بشعارات المقاومة أو الدين - هو سرطان ينتهي بجسد الأمة؟ الدولة التي لا تصهر كل السلاح تحت راية سيادتها، تصبح جثة تحيا على تناقضاتها. العثمانيون دفنوا الإنكشارية ثم دفنوا أنفسهم. والعراق على مفترق الطرق: إما أن يقرأ تحذير التاريخ فيقرر أن دولته أقوى من كل ميليشيا، أو ينتظر سقوطاً ستكتبه الأجيال القادمة كحلقة جديدة من مسلسل "دروس لم نتعلمها". فهل من مُتعظ؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

569 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع