كان لبنان من أكثر الدول العربية تقدما في حرياته الاعلامية والصحفية , وفي قطاعه المصرفي , كذلك كان الرائد في خدماته السياحية المتميزة وطرق مواصلاته, بالاضافة الى ما يجود به المطبخ اللبناني المعروف .
الشعب اللبناني من أكثر الشعوب العربية ولعا بالتعلم والثقافة والكرم, وهذه الخواص يمكن تلمسها من أي زائر لهذا البلد الجميل .المشكلة الأزلية في لبنان هي التوزيع الطائفي الديني والمذهبي في تشكيل حكومته, وهذه المشكلة لا تزال موجودة ويعاني منها هذا البلد لحد اليوم .
تلك نبذة مختصرة عن هذا البلد الشقيق الذي عانى ما عانى وشعبه طيلة ما يقارب الأربعة عقود وكما شقيقه الشعب العراقي .
بالنظر لكون النظام في لبنان يتسم بنوع من الديمقراطية, وبتنوع الأحزاب السياسية والأديان فيه , فقد كان هذا البلد الملجأ للكثير من أهل السياسة الهاربين من الأنظمة القمعية في بلدانهم وبمختلف أتجاهاتهم , ومحطة للأنتقال الى الدول المختلفة غربية كانت أو أشتراكية سابقا .
كان العراقيون ومن مختلف الطبقات وخصوصا الطبقة الوسطى, يعتبرون لبنان ومصايفه وقسم من مصايف سوريا الملاذ الرئيسي لهم لقضاء فصل الصيف في هذه الربوع ومنذ الثلاثينيات وحتى بدء الحرب الأهلية الكارثية سنة 1975 .
كانت بيروت مختلطة سكانيا ومدينة من أجمل مدن الشرق الأوسط بالنظافة والترتيب . في وسطها كانت ساحة كبيرة منظمة أسمها ساحة البرج , تتوزع عليها خطوط النقل بسيارات الاجرة وعلى مختلف الاتجاهات للمدن والمصايف اللبنانية وقسم منها الى دمشق وحلب وعمان . ( وتسمى النفرات باللبناني سرفيس). تحيط بهذه الساحة العديد من دور السينما ( من الدرجة الثانية ), والمسارح , وشارع المتنبي الذي كان يعج بالموبقات من ناحية الشرق , أما من ناحية الغرب والشمال فيحيط بها سوق سرسق , وباب أدريس , وشارع المصارف والذي يعج بالمصارف العالمية والعربية , و الذي كان يتواجد فيه مصرف الرافدين العراقي , ( أنتقل الان الى شارع الحمرا مع الخطوط الجوية العراقية ) .
تدمرت ساحة البرج وأبنيتها وكل الأماكن المحيطة بها بفعل الحرب الأهلية , ولم يبقى منها الا أثر سينما واحدة وتحولت قسم منها الان الى منطقة السوليدير والتي بنيت بصورة معمارية جميلة جدا ولحفاظها على التراث .
تحول موقف السيارات اليوم الى منطقة الكولا في شارع كورنيش المزرعة ولكن بصورة أقل حضارية ورقيا وكما كانت بيروت قبل أربعين سنة من اليوم .
وصلت الى بيروت في نهاية سنة 2006 وبعد ما يقارب الثلاثين عاما من أخر زيارة لها ...
أول شئ أثار أستغرابي هو التقسيم السكاني الطائفي للمناطق داخلها, فالمناطق المختلطة سابقا مثل الشياح, وعين الرمانة ( موقع الحادث المشؤوم الذي كان سبب الحرب الأهلية ) , وفرن الشباك , والمصيطبة , وكورنيش المزرعة , والبسطة , وبرج أبو حيدر , ومار الياس , وفردان , وعين التينة , والرملة البيضاء والروشة والمتحف , والاشرفية وغيرها , قد تحولت الى مناطق متجاورة ومتداخلة يسكن كل منها طائفة معينة أو مؤيدون لجهات سياسية مختلفة !!!
كذلك توسعت بيروت وبكل الأتجاهات, فشيدت مناطق جنوبها مثل الجناح وعرمون والشويفات وبعد أن كانت تسمى أحراش في ذلك الوقت .
وكان هنالك شارع فرعي يصعد من عرمون لسوق الغرب ( يستعمل كملتقى للعشاق ), وترى أكثر السيارات الواقفة على جانبيه رافعة غطاء المحرك كونها عاطلة لأبعاد الشبهات .!!!
أما من الشرق فقد أمتدت بيروت الى الحازمية وعين سعادة وبعد أن كانت مستديرة الصياد ( دار نشر مجلة الصياد والشبكة وجريدة الانوار ), هي أخر المدينة في هذا الأتجاه الموصل الى الشام .
أما من الأتجاه الشمالي الشرقي والشمالي فقد أمتدت من الدورة وفرن الشباك والدكوانة وسن الفيل , لتشمل جل الديب والرابية وأنطلياس والنقاش لتتصل ببيت مري وبرمانا وبكفيا من أتجاه الشرق, وضبية جونية شمالا .
قد لا أكون مبالغا أذا قلت أن للبنان وبيروت معزة خاصة لدي ولدى أولادي لاحقا( وحتى لدى نسبة كبيرة من العراقيين) , كوني قد درست فيها فترة وجيزة سنة 1975 ومن ثم أولادي لحين مغادرتها بمنتهى الحزن الى ديار الغربة البعيدة منصف سنة 2008 .
عند مغادرتنا بيروت والعائلة أخذ الجيران والاصدقاء بالبكاء وتم توصيلنا الى المطار , وكأني في بلدي ومدينتي بغداد ... لا نزال جميعا على أتصال مستمر بالأخوة الأصدقاء في لبنان .
بالاضافة للاخوة اللبنانيين كان لدي أصدقاء أفاضل عراقيين في بيروت ومنهم الدكتور الصديق فالح عبد الجبار أستاذ علم الأجتماع المعروف, والذي رحب بي وساندني كثيرا كتدريسي وباحث في معهده العراقي للبحوث والدراسات والذي كان يضم عددا من خيرة الأساتذة العراقيين واللبنانيين مثل الأخ الدكتور سعد عبد الرزاق والاستاذ الدكتور الأخ شيرزاد النجار و الاخ الدكتور رشيد الخيون والأستاذ الدكتور الخبير النفطي القدير وليد خدوري من العراق والاساتذة محمد المجذوب وأبنه الدكتور طارق والدكتورة منى فياض والعديد من الاساتذة الكبار والمحاضرين والباحثين اللبنانيين الكرام المحترمين ... ساهم هذا المعهد في تخريج العديد من الطلبة العراقيين وفي مجالات ودورات مختلفة وسنكتب عنه في موضوع منفصل مستقل أن شاء الله .
كانت منطقة الزيتونة,هي المقر الرسمي لدور اللهو والفنادق( والمطاعم ذات المهام العديدة) في بيروت والى نهاية الستينيات , حيث تحولت الى عين المريسة وشارع الحمرا منذ ذلك الحين وتحولت الزيتونة الى درجة ثالثة!!!! , ولتتحول اليوم بأكثريتها الى مناطق الجميزة وجونية والمعلمتين .
( كبرنا على هل السوالف)!!!
كانت بيروت تضم أرقى فنادق الشرق الأوسط وأعرقها ,ومن أهمها فندق السان الجورج الذي أصبح أطلال اليوم وخصوصا بعد تفجير موكب المرحوم رفيق الحريري قربه, وفندق الهوليداي أن الذي لم يهنا بأفتتاحه سنة 1974 وتحول الى هدف أستراتيجي تتنافس على أحتلاله الميليشيات ومعه برج المر ولموقعه وارتفاعه الأستراتيجي وكذلك فندق الكارلتون الذي ترك الان بعد أن تم تصوير عشرات الافلام العربية فيه ...كذلك بقيت بعض الفنادق العريقة القديمة مثل الفينيسيا والكومودور ( الميريديان ), والبريستول التراثي بكل شئ , والجيفينور ( تحول الى روتانا ), والماي فلا ور والكافيليير والريفيرا ونابليون .
أما اليوم فتجد عشرات الفنادق الكبرى الحديثة ومنها , الموفيبيك والرويال والكراون بلازا ومونرو وغيرها , ولكن مع كل هذا التقدم, تبقى نكهة الماضي وحياتها وأصالتها تعشعش في أدمغتنا نحن من غزا الشيب رؤوسنا .
كان للمرحوم فريد الاطرش ملهى ليلي ,في منطقة الروشة, لا يزال يعمل بكل طاقته الانتاجية ..( لو يعرف المرحوم أبو وحيد الورد ما حل بلبنان والعراق والمنطقة قبل وفاته لكان فتح هذا الملهى في السويد ) .
بيروت تضم جامعات عدة, ومنها ذلك الصرح العريق المميز وهو( الجامعة الأميركية في بيروت ) والتي أسست سنة 1866 والتي تخرج منها عدد كبير من علماء وشخصيات العرب, وهذه الجامعة هي نموذج مصغر لجامعة بيريكلي كاليفورنيا بكل شئ , حتى بطلبتها الثوريين والليبراليين واليساريين والمحافظين ,وهي تقع ما بين البحر وشارع بليس الذي يضم والمنطقة المحيطة به عدد كبير من المكتبات ومنتديات الثقافة الراقية والمسارح المحترمة .
الجامعة الاخرى هي جامعة بيروت الاميركية وهي منافسة للأولى ولكن الفرق بالاصالة كبير!!!!!
أما الجامعة العربية في بيروت فهي أول جامعة أسست من قبل جامعة الدول العربية وبتشجيع من المرحوم جمال عبد الناصر وضد الجامعة الاميركية, وهي توأم مع جامعة الأسكندرية.
الجامعة العريقة الاخرى هي الجامعة اللبنانية , وتضم عدة مواقع والدراسة في اكثر أقسامها باللغة الفرنسية .... كذلك هنالك جامعات رصينة جدا ومحترمة وقديمة وتدرس معظمها باللغة الفرنسية مثل الجامعة اليسوعية كمثال لا الحصر .
المطاعم في بيروت كانت ولا تزال من أروع ما يقدم من طعام وشراب, وقد خسرت بيروت عدد من مطاعمها الجميلة وخصوصا الشعبية منها في الحرب الأهلية,
مثل الأوتوماتيك في باب أدريس, وبقى قسم منها مثل أسطنبولي في الحمرا, وافتتحت عدة مطاعم اليوم لم تكن موجودة مثل كبابجي وغيرها ...
سنتكلم عن بقية الحياة في بيروت الجميلة والجبل ولبنان في الجزء الثاني , مع كل التقدير والتهنئة للأخ العزيز الاستاذ جلال چرمگا على الموقع الجديد مجلة الگاردينيا ولكن تبقى مجالس حمدان الأساس الأولي.
1114 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع