في ذكرى رحيله.. من ساسون حسقيل أول وزير مالية في العراق؟ ولماذا لقب بـ"روتشيلد الشرق"؟
أحمد الدباغ/الموصل / الجزيرة: يزخر العراق بمئات الشخصيات التاريخية التي أثْرت العراق وأثّرت فيه على مرّ تاريخه القديم والحديث في النواحي السياسية والاقتصادية وغيرها، ومن هؤلاء من كان من غير المسلمين.
ساسون حسقيل عراقي يهودي برز اسمه في العقدين الأخيرين من الدولة العثمانية، واضطلع بدور في تأسيس الدولة العراقية ووضع ركائزها، إذ كان أول وزير مالية في العراق، فضلا عن كونه من أسس للعديد من الركائر والقوانين في الاقتصاد العراقي التي لا يزال يُعمل بها حتى الآن.
امتاز حسقيل منذ نشأته بحزمه وإصراره في جميع مناحي حياته وكان لتربيته دور كبير في ذلك؛ لحسقيل 4 من الإخوة و4 من الأخوات، غير أنه قضى حياته عازبا من دون زواج، وكان له بيت فخم على شاطئ دجلة في آخر شارع النهر قرب غرفة تجارة بغداد.
ولادته ونشأته
هو ساسون بن حاخام حسقيل بن شلومو بن عزرا بن شلومو بن داود، ينتمي لأسرة (شلومو داود) وهي من الأسر اليهودية الغنية المعروفة، لا سيما في مجال التجارة، وكانت توصف أسرته بـ"عائلة روتشيلد الشرق" ( Rothschild family)، نسبة إلى العائلة اليهودية التي كانت تمتلك أكبر ثروة خاصة في العالم.
ولد ساسون في 17 مارس/آذار1860 ببغداد، ونشأ في أسرة دينية، إذ كان والده من أحبار اليهود، فدرس وتعلم أحكام الشريعة الموسوية، وتربى في ظل أسرته التي أتاحت له من أسباب الراحة والعيش الرغيد الشيء الكثير، وكان لوالده الأثر الكبير في نمو شخصيته وثقافته، وذلك حسب أستاذة التاريخ في جامعة بغداد نور العبدلي.
وتضيف العبدلي -مؤلفة كاتب (ساسون حسقيل ودوره السياسي والاقتصادي)- أنه تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الأليانس ببغداد، ثم أرسل في عام 1877 إلى إسطنبول حيث درس في المدرسة السلطانية، ثم انتقل إلى لندن ثم إلى فيينا حيث درس في كلية ماريا تريزا وكان واحدا من أبرز من تخرج فيها في مجال القانون.
بعد دراسته في فيينا عاد إلى إسطنبول، ونال شهادة المحاماة من الدرجة الأولى في وزارة الحقانية في الدولة العثمانية، ويبدو أن دراسته في مدرسة الأليانس اليهودية وتنقله في العديد من العواصم الأوروبية أكسباه ثقافة واسعة وإفادة في إجادة العديد من اللغات، فبالإضافة إلى العربية والعبرية، أجاد حسقيل الإنجليزية والتركية والفارسية والفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية.
مناصبه في الدولة العثمانية
وحسب العبدلي، شغل حسقيل وظيفة ترجمان لولاية بغداد، فبعد أن أكمل دراسته ونال إجازة ممارسة المحاماة من إسطنبول عاد إلى بغداد 1884 وهو لا يتجاوز 24 عاما من العمر، فاختير ترجمانا للولاية في العام ذاته واستمر فيها حتى عام 1904.
وفي عام 1904 اختاره والي بغداد العثماني لشغل منصب مدير الإدارة النهرية الحميدية واستمر في وظيفته 4 سنوات، إذ شهدت الإدارة النهرية في تلك المرحلة تطورا ملحوظا، وباتت بواخرها تنافس بواخر شركة "لنج" البريطانية العاملة بين بغداد والبصرة في ذلك الوقت.
وبسبب تفانيه في العمل وإخلاصه للدولة العثمانية، عُهد إليه في عام 1913 بمنصب كبير، فعيّن مستشارا في وزارة التجارة والزراعة في عهد وزيرها سليمان البستاني، وكانت هذه الوظيفة تقابل منصب وكيل وزير، وهو ما تعلق بشأنه العبدلي بالقول "لم تكن مثل هذه الوظيفة لتعهد في عاصمة الإمبراطورية العثمانية إلى يهودي من بغداد لولا أنه أظهر كفاءة حقيقية في عمله، ومن ثم يعدّ حسقيل من أكثر الشخصيات غير الإسلامية التي خدمت الدولة العثمانية في عدد من المناصب".
موقفه من الحركة الصهيونية
ويقول المؤرخ وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الموصل إبراهيم العلاف -في حديثه للجزيرة نت- إن ساسون حسقيل كان مناهضا للحركة الصهيونية، ولم يكن له دور فيها سواء أكان سياسيا أم من خلال التبرع بالأموال.
وذلك ما تشير إليه العبدلي في كتابها من أن حسقيل لم يكن يمتلك أي معلومات عن الحركة الصهيونية، ولم تؤخذ عليه أي مواقف مؤيدة لنشاط الصهيونية في البرلمان العثماني أو من خلال نشاطات الحركة في المشرق، كما ارتأى أن اللغة العبرية لغة دينية محضة، ولا فائدة من اتخاذها لغة للكلام اليومي.
وبعد احتلال بريطانيا للعراق وقيام ثورة 1920 ضده، شغل حسقيل عددا من المناصب، واختير من بين كثير من شخصيات بغداد واحدا من المؤسسين للمؤتمر العام الذي أصدر قانون الانتخابات العراقي حينئذ قبيل قيام إعلان الملكية العراقية.
تولى حسقيل منصب وزير المالية في أول حكومة عراقية في ظل الاحتلال البريطاني عام 1920، في عهد رئيس الوزراء آنذاك عبد الرحمن النقيب، حسب العلاف الذي أشار إلى أن قبوله للوزارة جاء بعد جهد بريطاني كبير لإقناعه بالمنصب بعد رفضه تولي الحقيبة الوزارية.
أما العبدلي فتشير في كتابها إلى أن حسقيل واجه صعوبات بالغة في تأسيس هيكلية وزارة المالية بمفاصلها الإدارية، إذ كان العراق يعاني عجزا في الأموال، فاقترح عام 1921 إجراءات عدة أهمها خفض رواتب الموظفين العراقيين المشمولين بقانون التقاعد الذي أسهم في صياغته، فضلا عن خفض رواتب الضباط ذوي الرتب الصغيرة في الجيش والشرطة وتخفيضات أخرى شملت المخصصات والنقل بالسيارات في الدوائر.
وتتابع العبدلي أن حسقيل وجّه بتخفيض بعض النفقات في ميزانيات دوائر الحكومة أو إلغائها، بعد ذلك استطاعت وزارته تحقيق شيء من توفير الأموال التي استفادت الحكومة منها في أول تأسيسها.
استمر حسقيل في حقيبة وزارة المالية في ولايتي عبد الرحمن النقيب الثانية والثالثة في الفترة الممتدة بين عامي 1921 و1922، ثم في وزارتي ياسين الهاشمي بين عامي 1923 و1925.
صياغة القوانين
وأسهم حسقيل في صياغة كثير من الملفات الاقتصادية، إذ أشرف على صياغة عدد من القوانين الاقتصادية التي لا يزال العراق يعمل بها، كما يقول الخبير الاقتصادي مظهر محمد صالح، مشددا على أن حسقيل أسس لنظام الإدارة المالية في العراق، فضلا عن إسهامه في صياغة قانون التقاعد لموظفي الدولة العراقية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول صالح -الذي يعمل مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي- إن حسقيل يعد واضع أسس الاقتصاد مع أن تخصصه الدراسي كان في القانون، ولكن كفاءته وحرصه على أموال الدولة جعلا منه محل ثقة في مختلف الوزارات الخمس التي تبوأ فيها منصب وزير المالية.
وتتفق العبدلي مع هذا الطرح، لتضيف للجزيرة نت أن حسقيل أضاف موارد للدولة العراقية في زمن لم يكن النفط فيه مستثمرا في البلاد بعد، إذ أوجد قوانين للضرائب والجمارك والطوابع البريدية، فضلا عن ابتداعه فكرة إيجار عقارات الدولة من أجل تعزيز ميزانية الدولة العراقية في عهد الملك فيصل الأول.
ومن أهم ما يحسب له في مسيرته السياسية والاقتصادية دوره في مفاوضات بلاده مع بريطانيا لاستثمار النفط العراقي بين عام 1924 و1925، فيذكر إبراهيم العلاف أن الحكومة العراقية كلفته في 13 أغسطس/آب 1923 بمفاوضة البريطانيين على امتياز شركة النفط العراقية، وهي شركة برأسمال بريطاني، فأصرّ أن يكون شراء بريطانيا للنفط بعملة (الشلن الذهب) بدلا من العملة الورقية، وذلك أفاد الميزانية العراقية في ما بعد.
ويؤكد العلاف أنه بفضل إجرائه هذا تمكنت الحكومة العراقية من إعادة واردات النفط بالباون الذهبي بدلا من العملة الورقية بعد إصراره على هذه المعاملة في المفاوضات النهائية مع بريطانيا، لافتا إلى أن إصراره جاء رغم اعتراض أعضاء الوفد العراقي على ذلك، إلا أن الحكومة العراقية قدّرت موقف حسقيل بعد أن تبيّن لها مدى الفائدة التي تحققت للعراق.
أما العبدلي فتعلق على تلك الحادثة بالقول إن "موقف حسقيل في المفاوضات مع بريطانيا واشتراطه استلام عائدات النفط بالذهب دون العملة الورقية أدى إلى رفض بريطانيا تولي حسقيل منصب وزارة المالية بعد عام 1925".
وبالإضافة إلى كل ما ذكر، تشير العبدلي إلى أن قوانين الجمارك والضرائب والطوابع والتقاعد لا يزال يُعمل بها في العراق، وأن حسقيل كان أول من سنّ قانون موازنة عراقية، وأسهم كذلك في صك العملة النقدية العراقية خلال مشاركته في لجنة صك العملة العراقية قبيل وفاته، فضلا عن إسهامه في صياغة نص الدستور العراقي في العهد الملكي.
ويصف العلاف حسقيل بأنه من أكثر الشخصيات السياسية تأثيرا في تاريخ العراق الحديث، ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن حسقيل كان ممن اختاروا الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق خلال مشاركته في مؤتمر القاهرة عام 1921 برئاسة رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل.
مواقف طريفة
تسببت شدته وإصراره على رأيه وتدقيقه في مصروفات الدولة العراقية بالعديد من المواقف الطريفة، إذ يسرد العلاف أنه عندما طلب منه الملك فيصل الأول (1921-1933) صرف مبلغ 20 دينارا عراقيا لبناء مدرسة ابتدائية في مدينة الديوانية رفض حسقيل ذلك قائلا للملك "لقد أقرّت الميزانية في مجلس النواب وليس هناك مجال للتلاعب بأي رقم".
ومن مواقفه الطريفة كذلك، تذكر العبدلي أن الملك فيصل بعد توليه عرش المملكة العراقية فرض على الوزراء ارتداء السدارة العراقية بديلا من الطربوش العثماني، وبعد إصرار حسقيل على الطربوش أمر الملك حرس الشرف بإخفاء الطربوش خلال جلسة حكومية -كانت العادة تقضي بوضع السدارة والطربوش بحضور الملك- إلا أن حسقيل بعد انتهاء الاجتماع رفض الخروج من دون السدارة، فضحك الملك وأعادها إليه.
حسقيل (وسط) أول وزير مالية للعراق بين جمع من السياسيين
وفاته
قليلة هي المصادر التي تحدثت عن تفاصيل حياة حسقيل الخاصة، وهو ما تعزوه العبدلي إلى عدم كتابته سيرة ذاتية عن حياته، فضلا عن أنه لم يكن متزوجا ولم يكن لديه أبناء ينقلون عنه، كما تشير إلى سبب آخر يتمثل بأن السلطات العراقية قبل الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 أخفت كثيرا من الوثائق المتعلقة به من دار الكتب والوثائق العراقية، وهو ما استمر خلال حكومات ما بعد 2003.
قبيل وفاته، أصيب حسقيل بنوبة ربو قوية، فاضطرت عائلته إلى نقله إلى فرنسا للعلاج، إلا أنه توفي في مشفاه في 31 أغسطس/آب 1932 عن عمر 72 عاما ودفن في مقبرة بيرلاشيز بباريس، وبعد وفاته نعته كثير من الشخصيات العراقية المعروفة من بينها الشاعر معروف الرصافي الذي رثاه في قصيدة طويلة، يقول فيها:
ألا لا تقل: قد مات ساسون بل فقل
تغَـور من أفـق المكارم كـوكب
فقـدنا بـه شيخ البرلمـان ينجلي
بـه ليله الداجي إذا قـام يخطـب
767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع