صورة عامة لبئر قاديسمو جنوب شرق القدس التي يعود إنشاؤها للقرن الخامس الميلادي
أسيل الجندي - القدس المحتلة:على الطريق الرئيسي الواصل بين مدينتي القدس وبيت لحم لا يعرف كثيرون ممن متّعوا أنظارهم بعراقة بناء دير مار الياس أنهم على بعد نصف كيلومتر عنه فقط سيشاهدون آثارا تعود جذورها إلى القرن الخامس الميلادي.
وبحكم وجود هذه الآثار شبه المغمورة على شارع رئيسي فإن معظم القادمين يمرون عليها مرور الكرام، سوى مسني بيت صفافا ممن كانت لهم ذكريات لم تمحَ في المكان وخرافات متوارثة عن الآباء والأجداد ما زالوا يرددونها ويؤمنون بها.
صورة تظهر قرب الموقع التاريخي من الشارع الرئيسي الواصل بين مدينتي القدس وبيت لحم
في هذا المكان وثقت الجزيرة نت بالصور موقع بئر قاديسمو التاريخية والكنيسة التي بنيت بجوارها في أواسط القرن الخامس الميلادي، ثم توجهنا إلى قرية بيت صفافا، وهناك التقينا بالمسنة "ست الإخوة" ذات الاسم الاستثنائي وذات الذاكرة والحكايات الاستثنائية أيضا.
ولدت "ست الإخوة" عام 1933، وفي الأرض المحاذية لبئر قاديسمو ترعرعت مع أشقائها وأعمامها وعماتها، وكان يطلق على تلك القطعة حينها "حبلة أبو حمامة" وتبلغ مساحتها 30 دونما.
انطلق لسانها بتعداد أنواع التين الذي كانت أشجار تلك الأرض تنتجه بكرم، فقالت للنسوة الزائرات لها "لليوم مش رايح طعمه من لساني التين الموازي والخضاري والسماري والخروبي.. كنا نزرع ونفلح ويردد والدي وهو ينثر البذور في الأرض: يا رازق الطير في ظلام الليل، يا رازق الدود في حجر الجلمود ترزقنا، وعندما اندلعت الحرب عام 1948 تبعثرت حياتنا ولجأنا إلى بيت لحم".
بقايا كنيسة وبئر
لم تدم إقامتها في بيت لحم طويلا لإصرار والدها على العودة إلى قريته المقدسية وبناء منزل فيها، ورغم بدء العائلة حياة جديدة فإن "ست الإخوة" ظلت تتردد على الأرض المجاورة لبئر قادسيمو وتدخل وأشقاؤها أرض البئر وبقايا الكنيسة المحاذية لها لاقتلاع قطع من بقايا لوحة الفسيفساء على الأرض هناك واستخدامها في لعبة "الجال" القديمة، وهي لعبة فلسطينية تتكون من 5 حجارة صغيرة الحجم دائرية الشكل يبلغ قطر الواحد منها تقريبا من 2-5 سم.
"قاديسمو" كلمة يونانية تعني "الاستراحة"، ووفقا لكتاب "معالم بيت صفافا في الذاكرة" للباحث والكاتب في تاريخ بيت صفافا مصطفى عثمان -الذي وافته المنية قبل شهر- فإنه ذُكر في إنجيل يعقوب أن مريم العذراء وخطيبها القديس يوسف استراحا قليلا عند هذه البئر عندما كانا في طريقهما إلى بيت لحم، وعليه أقيمت في هذا المكان في أواسط القرن الخامس الميلادي كنيسة لتخليد هذه الذكرى وسميت "كنيسة الاستراحة".
بنيت الكنيسة بشكل هندسي مثمّن حول الصخرة التي جلست عليها مريم العذراء، وما زالت أساسات البناء ماثلة حتى اليوم بالإضافة إلى بقايا الأرضية المزينة بالفسيفساء وعلى بعد أمتار منها بئر قاديسمو المنبوشة.
والأرجح أن هذه البئر حفرت على طريق القوافل بين مصر والشام منذ 3 آلاف عام، وفي عام 1970 أغلق باب البئر بالإسمنت ليتسنى مد أنابيب الماء إلى مستوطنة جيلو، ولا أحد يعرف أين اختفى غطاء البئر ولا جُرنا الماء اللذان كانا بجانبه ليسكب أصحاب القوافل فيهما الماء لسقاية الجمال والماشية.
البئر -وفقا للباحث عثمان- كانت أيضا مصدرا للشرب والاستخدامات المنزلية اليومية لقرى بيت صفافا وصور باهر وأم طوبا، وهو ما تؤكده "ست الإخوة" التي قالت إن كثيرا من أهل القرى لم يكونوا يملكون آبارا منزلية بسبب فقرهم.
خرافات الأجداد
وكما لم تخبُ بين ثنايا ذاكرتها مرحلة الطفولة في الأرض المجاورة لبئر قاديسمو لم تمحَ من مخيلتها الخرافات التي نسجها الأجداد في قريتها عن هذه البئر.
وقالت إن الحكاية الأكثر تداولا في القرية عن البئر تتعلق بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قدم إلى القدس لتسلم مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس، و"كان يرتدي حينها جبة قديمة مرقعة ومبللة بسبب غيمة كانت تظلله وتمطر عليه وعلى دابته لفترة طويلة، فقال له أحد رجاله إنه من غير اللائق مقابلة البطريرك بجبة قديمة، فخلعها عمر وألقاها في بئر قاديسمو وارتدى أخرى جديدة".
وتضيف المسنة حليمة عليان إلى حكاية "ست الإخوة" فتقول إنه "بعد مضي عمر باتجاه القدس من بئر قاديسمو تذكر وحاشيته أن البطريرك ينتظر شخصا بجبة قديمة مبللة ليسلمه مفاتيح القدس، فعاد عمر من منتصف الطريق وانتشل جبته القديمة من البئر وارتداها وأكمل طريقه للقاء البطريرك".
هذه الحكاية وحكايات أخرى حيكت قديما عن أماكن ومعالم مختلفة، وكان الأجداد يروونها كقصص للأطفال لكن ليس هناك ما يدلل على صحتها، لكن ما أكدت حليمة على صحته هو استخدام كل من الجيش العثماني والبريطاني والجيوش العربية هذه البئر ليشربوا منها الماء وتشرب دوابهم.
الباحث في التراث الفلسطيني المختص في مجال الأساطير والمخلوقات الخرافية العربية أحمد نبيل -الذي ينحدر من قرية بيت صفافا أيضا- قال إن هناك مئات الخرافات والحكايات الشعبية الفلسطينية المتعلقة بكل قرية ومدينة تندثر يوميا بسبب إهمالها، والتقليل من أهمية تدوينها بحجة أنها خرافة انتهى زمانها.
ويرفض نبيل مقولة إن العصر تطور والجميع بحاجة للانسلاخ عن الخرافات واتباع التربية الحديثة التي استعاضت عن "أبو كيس والغول" بـ"شرطة الأطفال" في تربية الأبناء، مما أدى إلى اندثار هذه الحكايات ليس لأن المدونين قلة، بل لأنها من تخاريف المسنين أو أساطير الأولين.
وأضاف أن "كثيرين يؤثرون سرد حكاية بيضاء الثلج والأقزام السبعة لأطفالهم بحجة أنها أقل عنفا ودموية من (جبينة ونص نصيص وسرايا بنت الغول) والتي من منظورهم يمكن أن تتعوض بفيلم أو مسلسل، سواء أكان إنتاجا محليا أو أجنبيا، لكن الحقيقة أنه شتان ما بين حكاية شعبية قديمة رويت لموعظة وتسلية حسنة وفيلم كُتب بالأساس لعقول مغيبة".
ودعا نبيل -الذي كتب مؤخرا عن الخرافات المتعلقة ببئر أبو خشبة في قريته- الجميع لتوثيق ما يستطيعون من القصص والحكايات الشعبية في قريته أو بلدته أو مدينته وتحديدا الخرافية منها، لأن الخيال مجال يجب أن يفتخر به في الثقافة والحضارة العربية لا أن يتنصل منه.
المصدر : الجزيرة
586 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع