بيروت / شارع الحمرا..1963
لقد كان عام 1963 عاما ثقيلا وصعبا على العراقيين ومن بدايته حتى نهايته كان مليء بالاحداث الساخنه والتي تركت اثرا في نفوس الجميع ولذلك كانت تتولد رغبه شديده لدى الشباب خاصة في الهروب الى اي مكان لغرض الترويح
وكان السفر افضل الحلول للترفيه واستعادة النشاط واعادة تنظيم الحاله النفسيه ولم يكن هناك متيسر من الصبر حتى ان يحل علينا الصيف فقررنا نحن الثلاثي المقرب من بعض ان تكون السفره شتائيه وفي عطلة نصف السنه الدراسيه وكنا حينئذ في الاعداديه ,, لكن المشكله كانت ذات جانبين الاول كيف يمكن اقناع الاهل بالسفره والثانيه كيف يمكن تدبير المال الازم للسفر ومن هذين التحدين بدأ التفكير في الحلول المطروحه لتجاوز هاتين المعوقتين ..تبدأ العطله الربيعيه في 15 كانون الثاني 1964 ولاادري لماذا يسمونها ربيعيه وهي في عز الشتاء العراقي وتنتهي في نهاية الشهر اي المتيسر من الوقت هو خمسة عشر يوما فكان القرار ان تكون السفره الى لبنان طبعا وفي بيروت تحديدا ولمدة لاتتجاوز عشرة ايام كحد اقصى وقد تم الاتفاق على هذا الاساس وانتقلنا الى تذليل المعوق الاول وهو اقناع الاهل وكان ذلك سهلا فقد كذبنا عليهم وقلنا اننا سنسافر الى البصره تلبية لدعوه من صديقنا دريد السلمان هناك فحصلت الموافقه وانتقلنا الى المعضله الثانيه وهي علينا ان نجمع مبلغا لايقل عن خمسين دينار لكي يكفي النقل والطعام والايواء والتبضع الخفيف وبعد معاناة ايام تم تهيئة مبلغ ثلاثون دينار لكل منا وكان احدنا وهو المرحوم صائب الرسام لايفصح عن مقدار المبلغ الذي معه دائما حتى في تنزهنا في بغداد فقد كان يحتفظ باحتياط عام للطوارىء وكنا نلجأ الى تفتيشه من باب المزاح ولم نجد عنده شيئا في اكثر الاحيان وتبين لاحقا انه يضع نقوده في الجواريب ..!!
بدأت سفرتنا في اول يوم العطله المدرسيه من ساحة حافظ القاضي بواسطة سياره باص ( OM ) ايطاليه 24 راكب تعود الى شركة سامراء للسفر والسياحه وتحركت بنا ظهرا وكنا العراقيين الوحيدين في السياره والباقي عمال ومهندسين عرب قادمين من الكويت واكثرهم مصرين وفلسطينين ووصلنا الى الرطبه في منتصف الليل حيث طلب السائق منا ان نرتاح لانه سينام ونتحرك فجرا فلجأنا الى المقهى الوحيد المجاور للمخفر الحدودي وتحلقنا حول المدفأة النفطيه الوحيده نتراجف من البرد وعند الفجر تحركنا نبحث عن السياره فلم نجدها ودخلنا نسأل المخفر وكان الجميع نيام وانتظرنا حتى بدأ الدوام بالساعة 8 صباحا و عندها كانت المفاجئه التي ابلغنا بها الرائد مسؤول المخفر بان السياره عادت الى العراق لانها لاتملك اوراق خروجيه وحقائبكم وجوازات االسفر موجوده في المخفر !!؟؟
كانت مفاجئه فعلا لان الوقت شتاءا والباصات الناقله تكاد تكون معدومه في هذا الوقت من السنه عدا سيارات الشحن والحمل ولعدم وجود موسم سياحه واصطياف وحكم علينا ان ننتظر فرجا يأتينا اما بأكمال السفره او بالعوده الى بغداد وحسب ما يتيسر لنا ..
انقضى اليوم في مقهى ابو بردان في الرطبه وطعامه الذي لايمكن تناوله تحت اقسى ظروف الجوع ولم يكن امامنا سوى الشاي والبسكت والسكائر وكان هذا اليوم الاول من رحلة الاهوال ,, وداهمنا الليل والبرد وكان ابو بردان بنا رحيما حيث اقرضنا بطانيه التحفنا بها ثلاثتنا حول الصوفا وهي مدفئه سوريه تعمل على النفط وحرارتها عاليه جدا ولم تكن هناك اي من وسائل التسليه حيث لم يكن البث التلفزيزني قد وصل الى المناطق البعيده ولم يكن لدينا سوى راديو ترانسستور وعلب السكاير ولم نخلد الى النوم .. اما بقية الركاب فقد توزعوا مع لوريات الشحن الى دمشق وعمان والبعض عاد الى بغداد ليقاضي الشركه حيث اعلمنا لاحقا بان صاحبها قد هرب وقفل الشركه ..!!
وجاء يوم جديد واعيدة الكره مرة اخرى حتى اقبل الغروب فقام ابو بردان بمساعدتنا ونصحنا ان نكمل سفرتنا وسوف يختار لنا رجلا طيبا مع شاحنه وفعلا كلف احد السواق الاردنيين واسمه يوسف ان ينقلنا الى عمان ومن هناك نتوجه الى سوريه وركبنا مع يوسف في عجلة الحمل 16 طن مارسيدس وكانت سرعتها بطيئه وكنا قد انطلقنا مع الغروب ووصلنا المخفر الحدودي الاردني ( H5 ) بعد منتصف الليل حيث قرر يوسف المبيت حتى الصباح ودخلنا نحن قهوه اخرى وختمنا جوازات سفرنا بعد سؤال الضابط الاردني ( هل انتم بعثيون هاربون؟؟ ) ولم نكن كذلك وتحلقنا حول المدفئه ونحن مهدودي الجسم من التعب حتى ايقظنا الضابط الاردني وقال احملو حقائبكم وكان الليل لايزال مخيم واذا بعربة نيرن مكيفه تقف ووجهتها الى عمان فقال الضابط اصعدوا فيها الى عمان وصعدنا واستقبلتنا احدى العراقيات بكلمات بذيئه ( اوي شنو هالشكول؟؟ ) لانها حكمت علينا من خلال هيئتنا المبهذله خلال ثلاثة ايام وكان ردي عليها قاسيا جدا واول ما وضعنا انفسنا على المقاعد التي كانت اكثر من نصفها خاليه حتى غبنا في نوم عميق صحينا على صوت السائق يقول تفضلوا انزلوا وكان السائق سوري وعندما نزلنا واذا حقائبنا على الارض ونحن في وسط صحراء وتركنا وذهب وكانت الساعه حوالي السابعه صباحا ولايعرف احدنا اين نتوجه وكنا نسمع اصوات طائرات مقاتله وعلمنا لاحقا اننا بالقرب من قاعده جويه عسكريه اردنيه ومكثنا واقفين بحدود الساعه حتى بات البرد يؤذينا فقررنا ان نتحرك الى طريق بعيد شاهدنا مرور سيارتين عليه خلال وقوفنا وحملنا حقائبنا وسرنا بحدود اربعين دقيقه حتى وصلنا الى هذا الطريق الذي تبين لاحقا انه يؤدي الى المفرق وجلسنا على حقائبنا ننتظر مرور اي عجله تنقذنا ولم نكن قد وضعنا في حساباتنا ان الموقف السياسي العام كان مضطربا وان هناك هروب بعض القيادات البعثيه من العراق واننا اصبحنا من ضمن هؤلاء بنظر الماره والشرطه والناس !!
لاحت سياره باص من بعيد واشرنا لها ووقفت على بعد ثم حملنا الحقائب وصعدنا الباص بدون حتى ان نسأل الى اين يتجه وتبين انه يحمل جنود مجازين من معسكراتهم الى محافظة اربد لقضاء الاجازه وهنا اصبح مفروضا علينا ان نذهب الى مدينة اربد الاردنيه وقد نهض احد ضباط الصف الاردنيين بعد ان شاهد حالنا وامر ثلاثة جنود بالنهوض من مقاعدهم واجلسونا علما ان الباص كان مزدحما جدا واكثر الراكبين في حالة الوقوف وهذه هي شيمة العربي ..
وصلنا مدينة اربد عند الظهيره واصر هذا العسكري ومعه مجموعه من الشباب على ان نتناول الغداء ولكننا كنا على عجل واصطحبونا الى شركة السيارات مع توصية خاصه واختاروا احدث سياره وتحركنا الى منطقة الرمثا الحدوديه بين الاردن وسوريا ودخلنا الى مخفر درعا الحدودي وهنا بدأت مأساة اخرى اخذت طابعا سياسيا هذه المره!!!
بدأ الاحتفال السياسي بعد ان نثروا ملابسنا واغراضنا وصادروا الكاميرا وجهاز الراديو والساعات وامرونا ان نخلع ملابسنا واصبحنا في ملابسنا الداخليه فقط وتناوب على التحقيق معنا اثنان من الضباط وعندما راجعهم السائق الاردني حول مصير بقائه في الانتظار امروه بالذهاب وتركنا وظل التحقيق مستمرا حتى قبيل الغروب بقليل وكانوا يبحثون عن رسائل مرسله الى مجموعات في سوريا من العراقيين الهاربين ,, تم تبديل طاقم العمل في المخفر عصر ذلك اليوم وباشر الطاقم الجديد بالتحقيق من جديد ولكن احد الضباط وهو برتبة رائد لم يكن مقتنعا من اننا نحمل شيء مما يظنون ولذلك امر بالسماح لنا بالدخول عند الغروب ولم تكن هناك عجله حتى الليل عندما قدمت سياره ( فولكس فاكن فان ) تجلب الطعام والبريد الى المخفر وامر مدير المخفر ان نذهب معها الى دمشق...
ساحة الروضة/ دمشق 1963
وهكذا سرنا الى دمشق ولم تمضي سوى ثلاث ساعات حتى كنا في فندق العربي السعودي وسارعنا الى الاستحمام وحلاقة الوجه ولم تكن هناك سيارات تذهب الى بيروت خلال الليل ولذلك لزاما علينا ان ننتظر الى صباح اليوم التالي مما اتاح لنا فرصه ان نتناول طعام العشاء والنوم بشكل مريح ..
تحركنا ضحى اليوم التالي الى الحدود السوريه اللبنانيه في جديدة يابوس ولم تكن هناك معوقات تذكر ودخلنا الى لبنان ووصلنا بيروت الحبيبه بعد اربعة ايام قضيناها في الطريق ومباشرة الى فندق ( بلميرا ) المطل على ساحة البرج وبعد اقل من نصف ساعه غادرنا الى شارع الحمرا وقضينا ليلة فاخره وعند الصباح اخبرنا مدير الفندق بانه مضطر الى نقلنا الى فندق آخر لوجود ( وفد طلابي ) مجموعه من طالبات الاعدادي السوريات قد حجزوا الفندق ولايرغبون ان يكون معهم احد ويبدوا اننا موعودين بقضاء وقت سعيد في هذه الفرصه وقد نزلنا الى غرفة المدير وتحدثنا مع مديرة المدرسه حول بقائنا لاننا لانبقى في الفندق الا ساعات الليل فقط واقنعناها بذلك واخذت علينا تعهدا بان تحترم الفتيات وكان لها ذلك واكثر ....
كانت ايامنا الخمسه التي قضيناها في بيروت وتعارفنا مع فتيات الاعداديه السوريه والتي اذهبت تعب السفر ومنغصاته وعندما قررنا العوده حتى فوجئنا وكأننا على موعد مع التعب والمنغصات بأن طريق ظهر البيدر قد اغلق بسبب سقوط كميات كبيره من الثلوج وكان لزاما علينا ان نعود من خلاله لانه الطريق الوحيد الذي تسلكه سيارات الاجره ولاتوجد طائره الى دمشق الافي حالات نادره وسعر عالي ونحن في اواخر السفره وليس معنا ما يكفينا ليومين اخر ..
ذهبنا الى قهوة البورصه في البرج والتي تعتبر مقرا للعراقيين بشكل دائم لنبحث عن حل وبعد جلوس دام ساعتين افادنا احد الاخوه بان لديه صديق لبناني قادر ان ينقلنا الى سوريا عن طرق الجنوب اللبناني ولكنه وعر وغالي الثمن وطويل ويستغرق وقتا طويلا وبعد مناقشه وافقنا مضطرين باربعة اضعاف السعر الاعتيادي واستفدنا في ذلك من الاحتياطي لدي المرحوم صائب الرسام بعد عملية اقناع طويله ..
تحركنا مبكرين في اليوم التالي ولم اتذكر من الطريق شيء سوى توقفنا في بعض القرى الجبليه ووعورة الطريق حتى وصلنا الى الحدود السوريه بعد تسعة ساعات من السير وخرجنا من نقطة الحدود اللبنانيه بسهوله واستقبلنا الاخوه النشامى في المخفر السوري واعيدت الكره الاولى وفي سؤال تهكمي قال ضابط المخفرباللهجه السوريه : ( ولو شو اصتكن داخلين خارجين من العراق للاردن لسوريا من درعا للبنان ومن الجنوب ؟؟ لك احكوا شو الئصه ولا ) وبعد توسلات ختم جوازاتنا ووصلنا دمشق ليلا ونهضنا مبكرين الى سيارات بغداد وتحركنا مستغرقين في النوم حتى الحدود العراقيه في الرطبه ثم بغداد والتي كانت عوائلنا على نار في معرفة مصيرنا حيث فاتنا ان نخبر صديقنا دريد في البصره باننا سنكون ضيوفه اذا ما سأله احد وصادف انه قدم الى بغداد وسأل عن احدنا حيث اخبروه بانه مع اصدقائه في البصره عند صديقهم دريد وهنا انكشفت اللعبه !! وتحملنا سيل من الرزاله والتعنيف والتهديد ..
هل صادف احدكم مثل هكذا سفره؟؟؟؟؟
عبد الكريم الحسيني
1978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع