حوار مع الاستاذ الدكتور سيّار الجميل
سيار الجميل: الثقافة العربية تعيش حالة من التناقضات العميقة!
المشروعات والرؤية
اجرت الحوار : سجا العبدلي* / مجلة المجلة - لندن
يؤكد المفكّر العربي الدكتور سيار الجميل في حوارنا معه أن العالم العربي "يعيش أبطأ حركة في البحث العلمي مقارنة بمجتمعات وقطاعات بحثية أخرى في العالم.. فهناك جامعات تمنح الشهادات والترقيات كما تمنح الحلوى للأطفال! ويرى الجميل أن الثقافة العربية "تعيش جملة من التناقضات العقيمة، وتكثر فيها مشكلات متفاقمة كونها معبّرة عن أوضاع مجتمعاتنا الصعبة وعن التيارات السياسية المتوقفة عن النمو".
المؤرخ الدكتور سيار الجميل يعمل أستاذًا باحثًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ويتولّى الإشراف على برنامجين بحثيّين موسوعيين هما: “تكوين قطر الحديث”، و”موسوعة الخليج العربيّ”. وله أكثر من 30 عامًا من الخبرة في مجالي التعليم الجامعي والبحث الأكاديمي في جامعات أوروبا، وأميركا الشماليّة، والعالم العربيّ. ألّف ونشر أكثر من 30 كتابًا، وله نحو 70 مقالةً علميّةً باللّغتين العربيّة والإنجليزيّة. ومن أبرز مؤلفاته: “تكوين العرب الحديث”، في أربعة مجلّدات؛ و”المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي”، فضلاً عن كتب أخرى، مثل: “تفكيك هيكل” و”زعماء وأفندية” و”العرب والأتراك من العثمنة إلى العلمنة”، و”العولمة الجديدة”، وغيرها.
“المجلة” التقت به، فكان هذا الحوار:
* في بحوثك النقدية والتفكيكية. من هم أشهر من نشرت دراسات نقدية معمقة عن أعمالهم ؟
- كثيرون .. منهم، محمد عابد الجابري في كتابي “الرؤية المختلفة “، وعبد الله العروي عن التاريخانية.. ومحمد حسنين هيكل في كتبه وأعماله وأحاديثه التلفزيونية، وعلي الوردي بشأن طبيعة المجتمع العراقي، وخلدون النقيب بشأن التاريخ الاجتماعي، ورضوان السيد في التشكيل الثقافي وغيرهم كثير ..
* هل تعتبر نفسك مؤرخًا أم ناقدًا ؟ وخصوصًا في ” تفكيك هيكل ” أو “بقايا هيكل “؟
- الاثنان معًا، فالتخصص في التاريخ الحديث وفلسفته منحني القوة في تفنيد جملة كبيرة من الكتابات التي يستخدمها القراء والطلبة كثيرًا. وعليه، فلقد عالجت نقديًّا وبوسائل منهجية تصويبًا لمعلومات وتفكيكًا لنصوص وتقويمًا لنتائج واستنتاجات، والفرق كبير بين نتائج التاريخ واستنتاجات البحث التاريخي..
* لماذا اعتبرت كتاب “موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين” كتابًا حفل بالكثير من الأخطاء والهفوات؟
- كونه يبحث أساسًا في منهج السير والبايوغرافيات، وقد عانت هذه “الموسوعة ” من مشكلات لا تعد ولا تحصى، وأساءت كثيرًا لتواريخ شخصية، كما أنها غمطت حقوق أعلام آخرين، وكان صاحبها ومؤلفها قد كتبها على عجل. ويبدو ان المؤسسة (الأكاديمية) التي نشرتها على علاتها كانت مستعجلة جدًا؛ فأوقعت نفسها في سوء التحرير والمشاركة في نشر مادة مليئة بالأخطاء!
* برأيك من هي الشخصية العربية الأكثر إثارة للجدل من بين الشخصيات العربية ؟
- من خلال قراءاتي لتاريخ السير، وما كتب عن شخصيات تاريخية مهمة في القرن العشرين، بدت لي أن هناك صفوة من الزعماء وقادة الفكر العرب الذين أثاروا جدليات واسعة ليس في الثقافة العربية فحسب، بل في الثقافات الأخرى، سواء على مستوى الفكر أم السياسة. يبرز الزعيم جمال عبد الناصر الذي أثار جدلاً واسعًا في العالم وكتب عنه الكثير .. يبرز اسم الدكتور طه حسين الذي أثار جدلاً واسعًا في الثقافة العربية.. أما الشاعر والفنان العربي الذي استحوذ على مجال واسع في الثقافة الإنسانية فهو جبران خليل جبران الذي لم تزل مبيعات كتبه تشكل في حجمها الثالثة بعد شكسبير وبودلير.
* ما هي أبرز السمات التي تتميز بها الجغرافية الثقافية في العراق اليوم؟
- هذا موضوع آخر من نوع آخر -تدارسته من خلال عملي منذ أكثر من 25 سنة في تأليف كتاب من عدة مجلدات (بالإنجليزية) عنوانه “بنية المجتمع العراقي الحديث ” The Structure of Modern Iraqi Society)) وقد بحثت في فصل واسع طبيعة الجغرافية الثقافية للعراقيين في مجتمعهم المتنوع ثقافيًّا، لا بتقسيمه عرقيًّا أو دينيًّا أو طائفيًّا، بل إن تنوعاته بيئية واجتماعية صرفة، فمن هم شرق دجلة لهم مزايا عمق الجبال والسهول هي غير مزايا أهل المدن في ما بين النهرين، وأن هؤلاء بدورهم هم غير سكان غرب الفرات الذين لهم عمق البراري!
* في أي ركب تسير الثقافة العربية بشكل عام في ظل كل الأحداث والمتغيرات التي عصفت بالعالم العربي؟
- إذا كانت الثقافة العربية الحديثة تعيش أزمة قبل أربعين سنة، فهي اليوم تعيش جملة من التناقضات العقيمة، وتكثر فيها مشكلات متفاقمة كونها معبرة عن أوضاع مجتمعاتنا الصعبة، وعن التيارات السياسية المتوقفة عن النمو .. هناك نخبة صغرى تغرد لوحدها، وهناك فئات وجماهير بلا ثقافة حية.. وأن أحد أسباب إخفاق متغيرات العرب اليوم ضحالة الثقافة وجمود التفكير والرغوة المتحركة فوق المياه الراكدة مع ولادة سلطويات قاهرة..
* تنوعت المواضيع التي تناولتها بالطرح من خلال أبحاثك وإصداراتك. ما هو الأساس الذي تستند عليه في اختيارك لهذه المواضيع؟
- هذا الأمر يأتي بالدرجة الأساس من متابعتي المتواضعة لما يطرح في ثقافتنا والثقافات الحية أولاً، فضلاً عن اهتمامي بالمجال الذي أعيش في التفكير به والعمل فيه ضمن عبور لعلوم اجتماعية أحتاجها.. ناهيك عن قناعتي بما يخدم أجيالنا الثلاثة القادمة في هذا القرن ثانيًا، وأيضًا ما يمكنني رفده ضمن مشروعات اشتغلت عليها طويلاً، ومنها مشروع تكوين العرب الحديث (4 مجلدات) ومشروع التحقيب التاريخي (3 كتب)، ومشروع التكوين التاريخي للخليج العربي والتاريخ الموسوعي للجزيرة العربية (عدة مجلدات) – أعمل عليه اليوم -، ومشروع المكاشفات النقدية وإثارة الإشكاليات وتفكيك النصوص .. نظرًا لحاجة ثقافتنا العربية للنقد والتصويب.
كتاب “تفكيك هيكل” للأستاذ الدكتور سيار الجميل
* على مستوى العالم العربي ما هو تقييمك لحركة البحث العلمي مقارنة بمراكز البحوث في العالم الغربي؟
- عذرًا لعالمنا العربي؛ إنه يعيش أبطأ حركة في البحث العلمي مقارنة بمجتمعات وقطاعات بحثية أخرى في العالم. بل وإن الشلل أصاب مرافق (أكاديمية) وبحثية عربية، وباتت العملية مجردة من الآليات والمناهج والأدوات.. بل وهناك ضعف في المستويات بشكل لا يصدق.. هناك جامعات تمنح الشهادات والترقيات كما تمنح الحلوى للأطفال! والعلاج صعب، إذ إن التدهور واسع النطاق برحيل جيل أكاديمي عربي مبدع اليوم.
* الميزانيات المخصصة لهذه المراكز هل تفي بالغرض المطلوب، وتكفي لتحفل المكتبات العربية بأهم هذه البحوث؟
- المسألة ليست ميزانيات ولا مكتبات ولا إنفاقات.. هذه كلها تحصيل حاصل، ولكن المشكلة أخطر، فالعناصر البشرية أو القوى المؤهلة ضعيفة جدًا، والكم أكبر بكثير من النوع بحيث يضيع هذا الأخير في متاهة كلها ادعاءات وأكاذيب. نحن بحاجة إلى تربية علمية وإلى مبادئ قوية وإلى مناهج مستحدثة، وإلى قوى فاعلة وجديرة لأن تنشر بحوثًا قوية في مجلات العالم الشهيرة.. نحن نفتقد إلى الجامعات التي تؤهل صفوتها للعلم، فكيف وجامعاتنا قد أصبحت مجرد مدارس عادية!
* ماذا بخصوص عمليات الترجمة؟ أين نحن اليوم من ترجمة أهم وأبرز الإرث الغربي من الآداب والفنون والعلوم؟
- لقد مرت الترجمة العربية عن أمهات اللغات بمراحل منذ نهايات القرن التاسع عشر، وكانت هناك ترجمات رائعة لأعمال عالمية تربى عليها جيل المثقفين الأوائل، ثم كانت هناك مراحل تراجعت خلالها حركة الترجمة.. اليوم أجد الترجمات العربية ضعيفة مقارنة بما يصدر في العالم من أعمال وروائع، ونسبة لما هو الحجم الديمغرافي العربي بالرغم من ترجمة أعمال ممتازة منذ بدايات هذا القرن.. ولكن ما يصدر كل يوم في العالم من كتب وبحوث تجعلنا من دون استكشاف مضامينها بلا دراية بما يجري من تطورات في هذا العالم!
* إلى ماذا يحتاج العالم العربي ليكون رائدًا للعلم والثقافة على مستوى العالم؟
- إن عالمنا العربي بحاجة ماسة إلى المستلزمات التالية ليشارك العالم في المعرفة الإنسانية قبل أن نتوهم أنه سيأخذ الريادة.. إن بينه وبينها مسافات كبرى من السنين:
أولاً: أن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى ذهنية جديدة لها القدرة على التعامل مع العالم بمرونة متناهية.
ثانيًا: أن تكون هناك في مدارسنا وجامعاتنا أساليب ومناهج تربوية منفتحة ترعى الإبداعات، وتوفر فرص المنافسة من خلال البناء العلمي والتكوين الثقافي فقط.
ثالثًا: أن يتم بناء جامعات ومعاهد جديدة لها أنظمتها في بناء الكفاءات، وأن يتم تشجيع النشر في مجلات علمية عالمية.
* حدثنا عن مشروعك الذي تعمل عليه حاليًا، والذي يحمل عنوان “التكوين التاريخي للخليج العربي”.
- هذا “المشروع” رفقة المشروع الآخر عن موسوعة الخليج العربي والجزيرة العربية قد بدأت به في نهاية العام 2011 برعاية من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وأدرس في المجلدين الأولين تكوين قطر في مجال الخليج العربي، وربما سأدرس بقية التكوينات الأخرى، ولقد اكتشفت أشياء جديدة كثيرة. وسينجز العمل في هذا المشروع نهاية هذا العام إن شاء الله. أما المشروع الثاني، فهو تأليف موسوعة تاريخية عن منطقة الخليج العربي، وسأكون مشرفًا عليها ومحررًا لها رفقة طاقم عمل من المؤرخين.
* ما هي آخر الأعمال والبحوث التي أنت بصدد العمل على إنجازها؟
- كتاب جديد “الأطوار الانتقالية في التاريخ” وكتاب “العثمنة الجديدة: تاريخ البدائل الصعبة بين العرب والأتراك، وكتاب “التعايش التاريخي بين العرب والأتراك والإيرانيين”.. سأكمل أيضًا كتابًا آخر في التحقيب التاريخي عنوانه “تحقيب الأزمنة وحوليات التاريخ” ، كما تنشر لي اليوم دار سافي بواشنطن في الولايات المتحدة الامريكية كتابي الموسوم :
“The Structure of Generations”
* سمعنا بأنك مهتم بالفن وتاريخ الطرب والموسيقى، وقد نشرت الكثير عن تاريخ عمالقته وأطوار جمالياته .. ما الذي تريد قوله هنا؟
- لا أريد التحدث عن شغفي بالموسيقى الكلاسيكية، ولكن ما يهمنا نحن العرب: كيف نطوّر فنوننا الموسيقية والطربية، ونوسع رقعة هذه الواحة الجميلة التي كستها اليوم الأشواك والأدغال، وقد فسدت الأذواق، وتبددت الجماليات في الصوت والألحان والكلمات والأداء. بالمناسبة، سيكون يوم 14 يوليو/ تموز القادم ذكرى مرور 70 سنة تمامًا على الرحيل التراجيدي للأميرة “أسمهان” المطربة الأوبرالية التي لم ينجب العرب مثلها.. إنني أناشد كل المنظمات ومن تبقى من عائلتها إقامة مهرجان خاص بالمناسبة، وأقترح مخلصًا أن تحييه وريثة صوت أسمهان المطربة المغربية الأصيلة السيدة “كريمة الصقلي” التي تمتلك ثقافة واسعة جدًا عن أسمهان وتاريخها.. متمنيًا أن نحقق شيئًا كي نوفي أسمهان حقها علينا، ولتكن ذكراها دافعًا للمبدعين العرب على خطاها.
*سجا العبدلي
صحفية عراقية مقيمة في لبنان
نشر الحوار في مجلة المجلة الصادرة في لندن ، 18 مارس / آذار 2014
948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع