في الذكرى الثانية لرحيل الدكتور زكي الجابر

   


وتبقى الكلمة ..الذكرى الثانية لرحيل الدكتور/ زكي الجابر

                      تقديم/د. حياة جاسم محمد  

تحلّ في التاسع والعشرين من كانون الثاني الذكرى الثانية لرحيل زوجي الدكتور زكي الجابر الذي تنازعه علم التواصل الجماهيري والشعر، دون أن يفلح أحدهما في الاستئثار به، فظل حتى نهاية حياته موزعاً بينهما. مارس التواصل الجماهيري تدريساً وبحثاً وإدارة، ولكن لم يقوَ ذلك كله على طمس وهج الشعر في قلبه، فخلّف بعد رحيله شعراً كثيراً، لا سيّما في أعوام المنفى الأمريكي في أقصى جنوبه، وقد نشرَ بعض هذا الشعر في حياته، ولمّا يُنشر بعضه الآخر.
رأى زكي الشعر فيض عاطفة، يتدفق عفوياً دون بحثٍ عن رمز متكلّف وأسطورة مفروضة، ودون اللجوء إلى تعقيد متعمّد، إلا ما اقتضاه النصّ والتجربة. وهذا التوجه في الشعر قديم قدم الشعر نفسه، عربياً وعالمياً، منذ جرير الذي يغرف من بحر مقابل الفرزدق الذي ينحت من صخر، ومنذ ووردزورث مقابل كولردج، وغيرهم.
وكما توزّع زكي بين الإعلامي والشاعر توزّع شعره بين الهم العام، هم الوطن، وتجربته العاطفية. حمل زكي معه العراق عبر المنافي المتعددة، وغنّى فيه الوطن الممكن بكل إشراقاته وتجلياته، وبكى فيه الوطن الكائن بكل انهزاماته وخيباته. وقد سمّى هذه المجموعة من قصائده "عراقيات"، وتحت هذا العنوان ستُنشر بعض هذه العراقيات في هذا الملف الموجز. خصّ البصرة، مدينته، بالعديد منها، لكنّه غنّى العراق كلّه من جباله وغاباته شمالاً حتى شطه واهواره جنوباً، وامتزج بتأريخه وتراثه الشعبي.

        

وكما لم يستأثر الإعلام به دون الشعر، لم يستأثر به شعر الوطن دون شعر الحب، حب المرأة. ليست المرأة في شعره جسداً يُشتهى لا غير، ولا هي رمز لوطن مفقود أو موجود فحسب، وإنما هي كيان متكامل الأبعاد، جسداً وروحاً وفكراً، تُقصد لذاتها ولِما هي، بل هي في علاقة جدلية مع الرجل، تغتني بها تجربة الحب وتكتمل. وستُنشر بعض هذه القصائد تحت عنوان "قصائد للحب".
حين تضيّعنا الأوطان وتضيع منا، ولا يلمّنا شتات المنافي، يتبقى لنا الحب، ينير دواخلنا حين يُعتم الخارج، ويدفئ أرواحنا حين تجمّدها شتاءات الغربة والترحال. وفي البدء كان الحب، ثم كانت الكلمة!

عراقيات

صباح الخير أيّها الصباح
هذا الصباح ليس لي
إنه لـ "سره رش" يخلع معطفه الشتائي
يتعرّى
يستحم بضوء الشمس
يكتسي حلّته زهر خزامى وبنفسج

***************

إنه لسفح "حمرين"
يتثاءب، يتمطى على ندى العشب
هبطت إليه العصافير
أتعبتها مطاردة الغيوم
لم تكدْ تريح أجنحتها
حتى دبّت إليها
حمى الرقص على إيقاع "دبكة"
وترانيم مزمار

**************

 
إنه لنخل "السماوة"
"طرّته" سمراء نقشت على جسدها
سنبلة الخصب
أذبله العشق
فالتفّ حزيناً بثوب "الكَرَبِ" والسَعف النحيل!


***************    

إنه لأبي نواس
في كأسه الثمالة
وفي رأسه الدوار
فيداوي الداء بالتي كانت هي الداء

******************

إنه لنوارس "السيبة"
تنشر أجنحة الفضة
على أشرعة الفضّة
على ملّاحين يولدون في الريح
ويبحرون مع الريح
ويرحلون
حين ترحل عن شفاههم الأغنيات

*************

إنه لطائر "المجرّة"
يرفرف تائهاً على مويجات "الغرّاف"
تتكسّر كما تتكسّر الأشواق في مقلتيه
تحيّر بأمره العشق والعاشقون!

**************

إنه لـ "بيخال"
ينثر حبّات اللآلئ
فهي الدموع حيناً
وأحايين شلّال خمرٍ وضوء وماء!

***************
إنه للأرواح التائهة
تلتقي عند مدرّجات زقّورة "أور"
حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
تنشد ملحمة "گلگامش"
وهي في طريقها إلى السماء!
آه يا " گلگامش"
لك أن تبكي صديقك "أنكيدو"
ذاك الذي صرع الثور السماوي
خرّ صريعاً بين فخذي بغيّ غانية
فَخُذْ زوجتك بين أحضانك
وأمسك كفّ طفلك
ذاك نصيبك من الدنيا!
أتذكرُ ليلة حانة البحر؟
حين أسكرتك نشوة النصر
فتسلّلت إلى جنبك أفعى
سرقت منك عشبة الخلد!
فطفقتَ تبكي
حتى تصعد بروحك إلى مدى
ما بعده مدى!

************
وصباح الخير
يا أولئك الذين تحفرون ظلمات المنافي
تستخرجون زهر الربيع
تنثرونه على خفقات حمام "الأعظمية"
ومنعطفات "الرصافة"
وأمام عيون المها على الجسر
والهوى يأتي الهوى
من حيث يدري ولا يدري!
وصباح الخير يا عباءات "المبرد"
أراجيح شذىً وغزل
خانقة في سوق "البصرة"القديم

***************

وصباح الخير يا بريد الهوى
ما بين "الشناشيل" و "الشناشيل"
والعيون والعيون
والتنهّدات والتنهّدات
   

****************

وصباح الخير يا ليل العراق
ينسج الفجر من خيوط ظلمتك
ثوب الضياء
وصباح الخير أيها الصباح!

***************

اشارات: "سره رش" و "حمرين" من جبال شمال العراق. السماوة" و "السيبة" و "المجرة" اماكن في جنوب العراق. "بيخال" شلال في شمال العراق. "زقورة أور" من آثار العراق جنوباً. "الأعظمية" من معالم بغداد، وكذلك "الرصافة". "گلگامش" بطل الملحمة المعروفة باسمه. "المبرد" قماش رقيق أسود تصنع منه عباءات النساء.

أيّها الشئ الذي كان
منذ بدأتُ "الخربشة" على الورق
تعلّمتُ كيف أكتبُ اسمك
وألفتُ رؤيته
منقوشاً على سفوح الجبال
وجذوع الشجر
وصخور الشواطئ!
وكنتُ أسمع أصداءه تتردّد
في هديل الحمام
وحفيف سعفات النخيل
وهمس الجداول!
وحين كبرتُ شهدتُ صورتك
في قرارة الكأس أنّى شربتُ
وفي عيون الأطفال أنّى نظرتُ
وفي رجع الأبوذيات أنّى استمعتُ
وفي الغربة
لم أتردّد في خط اسمك
على جدران المنافي
وأسوار المدن البعيدة
حتى كان ذلك الصباح
من يوم 9 أبريل 2003
أصابتني رعدة، وغشيتني غاشية
ثم غبتَ إثرها عن مقلتي
وشفتي
وذاكرتي
أيّها الشئ الذي كان!

حدث في "أم البروم"
كان ضوء الفجر مصلوباً على شطّ العرب
والخيط الأبيض يتبين من خلل الخيط الأسودْ
والسياب يغادر قاعدته الحجرية الباردة
ويمضي سعياً بلا عكازتيه
إلى "أم البروم"!
امتدت الساحة أمام عينيه
مقبرة موحشة!
اعترت شفتيه ارتجافة الشعر
همس الأبيات الأولى
ارتفع الصوت:
"نشوراً!"
ينفض الميتون التراب!

            
                                                  

السياب يقود المظاهرة
والسماء ترجم الفيل وأصحاب الفيل
بحجارة من سِجّيل!


***************

اشارة: "أم البروم" مكان في البصرة.

جسر الملح
"جسر الملح" الذي كنتَ تهدأ إليه
ذابَ في قرارة النهر
والنهر الذي صادتك أسماكه
طوته غاشية التراب!
وأنتَ هنا تأكلكَ الوحشة
والنظرات الغريبة
وليالي الحمّى!
يا جسر الملح
أراكَ ممتداً من المنفى إلى وطني!
  *********
اشارة: "جسر الملح" موقع في البصرة.


**************                
قصائد للحب

أغنيات للحب
(1)
لديك مائة طريقة وطريقة
تقولين فيها "لا"
ولكنّك لم تجرُئي حتى على الهمس
حين أغمضتِ عينيك،
 وقبّلتُكِ!

(2)
أترينَهم هنا
يقبّلون النساء
في الساحات
والمقاهي
وانعطافات الشوارع
وحين سرقتُ منكِ قبلة واحدة
في غفلة من الناس والزمان
انقلبت موازين العالم
وتغيّرت الدنيا؟!

(3)
جمّد الشتاء عروق الشجرْ
واستكن الطائر إلى عشه
والتفّ الأرنب في دفء مغارته
وهدأت النملة تقضم حبّتها
تحت الرمال!
وما زلنا يأكل أصابعنا البرد
ونحمل خطانا المتعبة
من قارّة إلى قارّة
بحثاً عن هوية
ووطن!

(4)
حين تغضبين
تهدأ العاصفة
يسكن البحر
يخطر المساء
يذوب حناناً
على القمة النائية
حين تهدئين
تغضب العاصفة
يُزبد البحر
يسحب الحزن ظلّه
فوق خطو المساء
وينأى بها في الظلام العميق
أيتها المرأة الضدّ
المتمرّدة حتى على التمرّد
تظلّ آية الظلام في عماء
وآية النهار مبصرة
ومن لهبة الشمعة المُجهَدة
تولد الشمعة الموقدة
والحب غضب
والحب هدوء
والدنيا في جدل دائم!

(5)
الحب لا يُباع ولا يُشترى
ولا يُعطى
لن نتبادل الهدايا!
 2001


في ذلك اللقاء
كنتِ على منأى
وكانَ خيط من الضوء الشفيف يمتدّ أمام مقلتيّ
وفي ذات يومٍ سريتُ على ذلك الخيط
فحملني إلى نهاية اللانهاية!
وجدتكِ هناك
وهمستِ في عذوبة
"أنسيتَ؟ إننا على موعد!"
وفي تلك اللحظاتِ المرتعشة من اللقاء
لم يتغير شيء في الكون
فالأرض لا تزالُ تدور في فلكها
والناس يسعون في مناكبها
أمّا الذي تغيّر فهو المطر!
كان يتدفّق من الأرض صوب السماء!
وفي الحب، إما أن تكون
أو لا تكون!
2004


إلى إمرأة من طراز خاص
لم أكن نصفَ نبي
حين أغمضتُ عينيّ
وارتقيتُ السلّم الممتدّ إلى الأعالي
ولمستُ القمر!
ولم أكن نصف نبي
حين كتبتُ قصائد من طرازِ خاص
إلى إمرأة من طرازٍ خاص
تضع معجزاتها على ورق أزرق
لن تمزّقه العاصفة
ولن تذهب بلونه زخّات المطر!
وما زلتُ أتذكر ذلك النهار الشتائي
يلتفّ بها المعطف خشية لسعة البرد
وسنكون وحدنا!
وأخلع بيدي ذلك المعطف
وسأدرك أن معجزة الشمس
أنها دافئة!
لستَ نصف نبي
أنتَ تأكل الطعام
وتمشي في الأسواق
وتحبُّ إمرأة من طرازٍ خاص
لن تقولَ لك: "أحبُّك"
فالحب لا ينبغي له أن يتجاوز الشفتين!
كلما أوشكتْ أن تغيبَ عني
أو أغيبَ عنها
أغمضُ عينيّ
وأسيرُ في الظلام
فأهتدي إليها!
ولن أنسى أني ذات مرّة
أغمضتُ عينيّ
وارتقيتُ السلّم الممتدّ إلى الأعالي
ولمستُ القمر!
2005

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1271 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع