لوحات مستوحاة من القصص والأساطير
العرب/ غريب ملا زلال:حالة تفرد، أبدعها الفنان السوري دلخواز إبراهيم لنفسه، حيث تميز بقدرته الفائقة على النقل وإعادة تصوير أشهر الأعمال بلمسته الخاصة وأسلوبه المميز، إلى جانب محاولاته الدؤوبة لترجمة أعمال فنانين آخرين انطلاقا من واقعه هو الشخصي الذي يستمد موتيفاته من ذاكرته، مشاعره الذاتية وتجربته الحياتية.
أعرف الفنان التشكيلي دلخواز إبراهيم مذ كان صغيرا، وأعرف عشقه المبكر للريشة والألوان وشغفه الكبير بهما. كنّا نستعين به كثيرا في رسم بعض الصور لشخصيات ثقافية كان لها وزنها في إضاءة الطريق، كنّا نعقد عنهم وعن أعمالهم لقاءات وحوارات ثقافية خلسة في بيوت طينية بعيدة عن أعين الرقيب وعن أعين المخبرين.
كان وما يزال يتقن النقل جيدا، ويدخل في كل رسمة جديدة يقرر رسمها في تحدّ مع نفسه حتى تخرج النسخة مشابهة تماما، نعم يتقن دلخواز النقل جيدا حتى باتت جدران مرسمه مزينة بلوحات معروفة للعامة كثيرا، وكذلك بصور القادة التي لا يمكن أن تلتقي إلا في مرسمه، وبصور لفنانين وشعراء ورموز ثقافية تشكل قائمة باتت عناوين مهمة لجيل كامل، كما لم ينس رسم صور لعادات وتقاليد بيئية فولكلورية تستحق أن تزين كل بيت.
فنان في حالة بحث مستمر
كان يملك دقة الالتقاط كثيرا، ويبدع في النقل قد يدفعك إلى الشك لكثرة ما بينهما من تشابه، فالمحرك الرئيسي لريشته هي الرؤية لا الرؤيا، وهذا ما أبعده عن تحولات كان من الممكن أن تصيب تجربته وتدفع بها إلى اتجاه آخر، الاتجاه الذي كان سيمسك بريشة دلخواز ويمضي بها إلى مقام كان يليق بدقته وبروح الرسام الذي ينبض فيه. فاستخدامه لعمليات النقل وإتقانه لها سمح له وعلى نحو لافت بترجمة مجموعة من الصور لفنانين ومثقفين وكتاب وموسيقيين.
ولتكتمل الترجمة وتكون المعادلة صحيحة ومتوازنة كان لا بد من الاهتمام بالتراث والسير الشعبية كميدان آخر فيه يمارس دلخواز إبراهيم يقظته مع ريشته، متجاوزا المشاكل كلها، البسيطة منها والمعقدة والتي قد تعترض ترجماته، فهو يجمع بداية جماليات لمجموعات تشكل العامل
المركزي لمشروعه (ترجماته)، والتي ستصبح ذخائره فيما بعد، في سياق زمني ما على الأقل، وهنا كان من الواجب عليه أن يبقى يقظا للحفاظ على مصداقية الترجمة وأمانتها.
نعم نستطيع أن نعتبر أعمال دلخواز ترجمات لنصوص وصور الآخرين، ولها علاقتها بواقعه الاجتماعي، وعلى أساسها يجري ترتيبات مسلوقة وجاهزة، ترتيبات شديدة الوضوح نقلا، مرتبطة بمقياس خارجي وبأحوال وشروط اقترانها، فنظرته الخارجية هي التي تحدد له معياره الذي ينطلق منه، وهي التي تجعل لكل مقاييسه إطارا مشبعا بمتعة الرسم، وبتلك التذكارات الجميلة، إطارا بدوره يحدد استهلاله ثابت الملامح وإن بدرجات، بعيد الطيف وإن بمقولاته، فهو يركض برسوماته نحو حدود التشابه أو التماثل إذا صح التعبير مع رصد التوافر والانتماء في التأمل والحضور.
والفنان سرعان ما يقطع الجذور فالأمر لا يحتاج إلى ذلك، كما لا يحتاج إلى هذا الفيض من الألوان التي تحيك تلك الملامح الثابتة، فهو غارق في زغاريد مغلقة ليس ما يحيط بها غير عناوين وموضوعات باتت واضحة جدا، تكرارها قد يكون لعبة قصيرة الأجل، أو تقليدا لواقع تم تجاوز مراحله كلها. فالأصابع المشدودة على الفرشاة ستتعب سريعا، وقد تشوه العمل الفني، والفرشاة يجب أن تملك تقرير مصيرها أو إدارتها الذاتية على الأقل، فلها الحق كله في سرد مقولاتها في الاتجاه الذي تشاء، وترفض الأوامر والتكبيل.
دلخواز يكبل فرشاته كثيرا بل يمارس كل ديكتاتوريته عليها، وتمهيدا لخلق هدنة بين ممارساته القمعية مع أدواته، وبين ما يناسبها من رغبات، يلجأ إلى حيلة سردية ضمن حقائق شائعة لا وجود للإشارات فيها ولا دلالات، حيلة جميلة ينبغي التعامل معها، لا كمجال فيه تظهر الأشياء وكأنها متشابهة، بل بما تثري رسوماته وتجيب عن ذائقته التي تجعل الحقيقة موجات تتلاطم على نحو ما، وتطرح ما يرضي المتلقي لا ما يترك الأثر فيه.
فنان يتقن النقل جيدا، ويدخل في كل رسمة جديدة في تحدّ مع نفسه حتى تخرج النسخة مشابهة تماما
ثمة تباين واختلاف واضحين، في المعنى وفي المبنى، ما بين الصفة التشكيلية التي ترتبط بالتيارات الفنية وبين ما ينتجه دلخواز إبراهيم الذي يستعيد الإضاءات المسبقة بمقاماتها على متتاليات نقلية، فيها حاسة النظر تكون في أوج رؤيتها، فهو يملك عدستين لا تخيبا في الإلتقاط مهما كان المشهد مغمورا، فهذه الدقة في قنص الحياكات اللونية ومسك عنانها تمنحه القدرة على طوق الحالات بمشيئته المشبعة بالحرارة ومشتقاتها، فيمنحها درجات ذات طابع بالغ التحكيم، فلمسات فرشاته سرعان ما تبرز جدائل رسوماته بكل قوامها وأمواجها، بكل حرارتها ووهجها، بكل برودتها وصقيعها،
بكل وديانها ومسافاتها، بكل مرتفعاتها وزركشتها، وكأنها فسيفساء تزين المكان وتحلق فيه. ولعل وفرة اللحظات التي فيها تثمر ملازماته النقلية تجعل انضمامه إلى مجموعة الرسامين الذين ينافسون الكاميرا حق مشروع، الحق الذي قد يشل حركاته إذا رغبت يوما ما في الانعطاف نحو لجة التشكيل وصياغاته، اللجة الضرورة التي على دلخواز خوضها.
المساحات التي يشتغل عليها دلخواز مساحات محددة، بل مغلقة في أكثر الأحيان، وله اليد الأطول في ذلك، فهو مكتف وراض بما توصل إليه رغم الطاقة النائمة فيه، والتي تحتاج فقط للشرارة حتى يهب اللهيب، عليه أن يكون يقظاً لذلك ومدركا للتوالد الذي ينتظر منه التدخل بعيدا عن النشوة التي يعيش فيها، نشوة الوصول التي تنعدم عند الفنان الحقيقي الذي يكون في حالة بحث وتجريب وسير دائم، بل في حالة سبر مستديم للأشياء دون أن ينتظر النتائج التي ستظهر على السطح على نحو تلقائي عفوي.
والرؤية المتكررة للمشهد ومن منظور فنان يغيب الأفق عنده تماما، بل يكاد الاقتراب من المتخيل يكون بالنسبة له جرح عميق، سيثير لديه الكثير من القلق والتوتر واللذين سينتقل عدواهما إلى المتلقي أيضا، والذي سيفقده الكثير من أثر ووقع ذلك عليه وبالتالي سيفقده الكم الأهم من المتعة، أقصد متعة المشاهدة. كل هذا بمثابة جرس إنذار للفنان دلخواز لينعطف بريشته نحو فضاءات أكثر جذبا له، وهي مهيأة له فيها تمارس ريشته كل حريتها لتروي عنه سيرته الفنية.
1073 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع