سيدة من بلادي ..قصة حقيقية / بقلم الطاف عبدالحميد

     

                      

                                         

                          الطاف عبد الجميد 

         

  


1978مئات السيارات نوع (ايفا) العسكرية المخصصة للحمل تتجمع في منطقة (ميركسور) لتتجه صباحا الى الحدود التركية العراقية ،لنقل العوائل الكردية من الشريط الحدودي الى المجمعات السكنية الجديدة التي انشئت على عجل...

ويتكون البيت الجديد من غرفتين وفناء مفتوح مسقف بجذوع (القوغ ) والحصير، لقد قررت الحكومة العراقية انشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي بين العراق ودولتي ايران وتركيا وبعمق عشرة كيلومترات ،

  

انشئت  بعض المجمعات في منطقة (دشت حرير) وهي منطقة سهلية محصورة بين جبل حرير وجبل سورك ، كانت البيوت متلاصقة وعلى شكل خطوط متوازية يفصل بينها شارع غير مبلط ، عملت اعمال البناء فيه حفرا واخاديد وازالت الغطاء النباتي عن الارض بشكل تام ، وهذا النوع من الاسكان لم يتعود الاكراد عليه الذين تعايشوا مع الجبال المرتفعة المجاورة لبيوتهم والاشجار والشجيرات البرية المثمرة وعيون الماء الرقراقة القريبة والحمامات التي يتم انشاءها بالقرب من العيون ويجري تسييجها  بالحصران حيث تستحم النساء في داخلها بشكل شبه يومي ويغسلون الملابس وهو المكان المفضل الذي تلتقي فيه نساء القرية ،يتبادلون الاحاديث ويتسامرون ويضحكون ويخطب البعض منهم ود البعض ،

 

ان عيون الماء هي قصة حياة كردية ، وحياة الكردي لاتتحقق الا بثلاثية (الطبيعة،الماء والاشجار والجبال )، معززة بتربية الدجاج و الماعز الجبلي  واستخدام موارد الجبال كاشجار البلوط (الجلو) لاغراض التدفئة والاحتفاظ بالثلج الشتوي الى موسم الصيف بدفنه على شكل كتل ثلجية كبيرة داخل الارض ومن ثم الاستفادة منه في فصل الصيف ،حيث يبقى الجليد على حاله ،استخدام ماهر وفطري للطبيعة وحياة عذراء غير مشوهة بدخان الالات والسيارات والزحام والتدافع من اجل الحصول على طبقة البيض او دجاجة من الموزعين ، او قنينة الغاز التي كسرت ظهور معظم العراقيين بوزنها الثقيل وشكلها المشوه ، واذكر ان عدد من القرى الحدودية كانت عذراء تماما حيث لم تتصل بالمدنية اطلاقا ، كان الاهالي يتجمعون حول السيارات لمشاهدة هذه الوحوش الالية التي تصل لاول مرة منذ عصر التكوين الى يومنا هذا ، كانت الطرق معدومة تماما وكان الجهد الهندسي يسبق سيارتنا لفتح الطرق المؤقتة بازالة الصخور او ردم الحفر التي تعيق مرور العجلات الى مقصدها : اقتضى تنفيذ الاوامر بترحيل القرى الحدودية تكليف القوات المسلحة الموجودة في شمال العراق والمنفتحة لاغراض الامن لتعذر انجاز مثل هذه الواجبات التي تتطلب استخدام قوة الارغام عند الحاجة لاحتمال حدوث مصادمات او تمرد من قبل الاهالي بمساعدة المسلحين الاكراد الذين كانوا اكثر تواجدا على الحدود من الداخل لسهولة تنقلهم وبعدهم عن معسكرات الجيش ، تتم عملية التهجير بقيام لجنة من عدة اشخاص بتقدير قيمة البيت (وهي بيوت مبنية من الطين ومطلية بالجص الابيض او الاسمنت وسقوفها من خشب (القوغ ) المتوفر في المناطق الجبلية ومؤثث باثاث بسيط او يكاد يكون بلا اثاث ، ولايزيد مايملكونه في دورهم عن عدد من البطانيات والوسائد المنقوشة بالوان الربيع الزاهية وصندوق او صندوقين خشبية تحتوي على الملابس الثقيلة والصيفية وقدرين (وبريمز) وابريق ماء بلاستيكي وصاج لصناعة وشي الخبز و(طنجرة ) للعجين وصورة لاحد الاجداد معلقة على الجدار بالزي الكردي ممسكا بكلتا يديه (الحبيبة بندقية البرنو)، والى جانب الصورة المصحف الكريم موضوع داخل محفظة من القماش ملونة ومطرزة بخيوط التطريز وتوجد فتحة في الجدار مربعة صغيرة هي بمثابة شباك الغرفة ، وفي وسط الغرفة يوجد الموقد الخشبي الذي يستخدم للتدفئة في الشتاء البارد والمزود بمدخنة معدنية تخرق سقف الغرفة الى الاعلى لتصريف الدخان الذي يضفي رومانسية ساحرة على العيش البسيط في الاجواء الثلجية ، ولاتتجاوز سعة الغرفة عن تسعة امتار مربعة ولا يوجد سياج خارجي للبيت حيث تتقارب الغرف فيما بينها لتصنع تكتل بناء اسمه بيت ،

  

وبعد ان تقوم اللجنة بتقدير قيمة البيت بحساب الغرف يجري جرد الاشجار المثمرة التي زرعها صاحب البيت قرب بيته واية ممتلكات لايمكن نقلها ، ويجري تسليمهم المبلغ مباشرة ، كان التعويض مجزيا عن القيمة المادية للبناء ولكنه كان قاتلا للعوائل التي ارغمت على ترك منازلها ، لان ذلك يحرق تاريخا طويلا قد يكون ممتدا لاكثر من الفي عام من التجذر في ارض عاش ومات اباءهم واجدادهم فيها ومقابرهم المجاورة لقراهم تشهد لهم بالانتماء الراسخ للارض التي تعلموا ان يعيشوا فيها  وعلى ما تنتجه  لهم ، والاستغناء الكامل عما ينتجه غيرهم  :

  

هم يزرعون ويأكلون مايزرعون وتعطيهم ماشيتهم الالبان وطيورهم البيض واللحم وتعطيهم الطبيعة النقاء من كل شيء ،نقاء الهواء ،ونقاء االماء وهطول الامطار وبياض الثلج  والتعامل مع الفصول برومانسية استقبالا واستدبارا ، ان الدولة تلاعبت بجينات المكان وجينات الناس بنية توفير الامن ومنع الاعمال المسلحة ، قتلت الارتباط ، بقتل ارادة الرفض لدى الناس بالاخضاع القهري لخيارات السياسة  ، الاهالي لم يرتكبوا ذنبا أخذوا بجريرة غيرهم ، حيث ارتأت الحكومة ابعادهم عن قراهم لكي لايأوي اليها المسلحين الاكراد الساعين الى نيل الحكم الذاتي ، وبعد ان تتم عملية التعويض المباشر يجري تخصيص سيارة حمل عسكرية لكل بيت لنقل محتويات الدار البسيطة والتي كانت لاتشغل ربع مساحة السيارة على الاغلب ، كنت اراقب عملية التحميل وأنا جالسا فوق صخرة كبيرة ،

           

كانت هناك امرأة تتحرك بعصبية جيئة وذهابا وهي تقوم في كل مرة بالقاء مابيديها من مواد او مفروشات داخل السيارة ولا احد يعيلها ربما كانت ارملة  أو ان زوجها غير موجود او قد يكون من المطلوبين للدولة لااعرف هذا ماكان يبدوا لي  ، الوقت قرابة الثالثة عصرا ، شعرت بالجوع الشديد حيث تبدأ المهمة يوميا في الساعة الخامسة صباحا وهذا الوقت لايتيح لنا تناول او اعداد الافطار لانعدام الشهية والشعور بالحاجة الى الاستمرار بالنوم نتيجة الارهاق اليومي الروتيني المستمر منذ حوالي شهر كامل وبشكل متواصل ، طلبت من سائق سيارتي الذهاب الى المرأة موضوع حديثي وقلت له اطلب منها شيئا لي لاكله خبز اوغير ذلك من المتيسر لديها ، انزوت المراة داخل الغرفة ثم خرجت وهي تحمل طبق من الحصير المعروف في وسطه قدر صغير وفوقه قرص من خبز الصاج يكاد يغطي القدر بكامله ...

  

تقدمت المراة مني ووضعت القدر الامامي وانسحبت بهدوء ، نظرت اليها وشكرتها ولاادري ان كانت تفهم معنى كلمة (شكرا) ولكنها - إن سمعتها ستعرف - انها كلمة امتنان ولايمكن تفسيرها بغير ذلك . كانت المرأة تبكي بدموع غزيرة وتلفها حالة من الحزن والالم الطاغي ، بقيت محدقا بها وهي تعود تتنقل بين الغرف كالنحلة ترفع هذا وتضع ذاك ، ثم رفعت قرص الخبز وفتحت القدر الذي كان يحوي على دجاجة مسلوقة كاملة تسبح بمرقتها الصفراء ، المني مارأيت فقد سحرني كرم هذه السيدة في مكانها وزمانها وحالتها ، وكأني أتأملها الان بعد مرور اكثر من اربعة وثلاثون عاما واقول لنفسي كيف لهذه المرأة الحليمة ان تكرم جلادها ، قد ابدو انا بالنسبة لها جلاد ،كنت برتبة نقيب وربما كانت تتصور بأنني الحاكم العام للعالم او بيدي مفاتيح الارادة ، ورغم هذا كان منها مايفتخر فيه العراقيون الذين عاشوا تحت سماء تمطرهم غيمة واحدة وتربطهم عاصمة واحدة هي عاصمة الاكراد وعاصمة العرب بغداد : اقتطعت قطعة صغيرة من الخبز ودسستها داخل المرقة الصفراء واكلتها ، وخلت نفسي في موقف لااحسد عليه امام ماشهدته من الانفعالات الانسانية ، بكت تلك المرأة بدموع سخية وبكيت عليها الما بلا دموع ، ان مانفعله  فعل غير رشيد ، فعل قاسي ’ قد نكون قد وقعنا معا تحت تأثير التخاطر فشعرت بتعاطفي معها ، استدعيت السائق وطلبت منه اعادة الدجاجة المسلوقة الى صاحبتها كاملة دون ان امسها ، لقد فقدت الشهية بشكل تام ، لم اكن قد قرأت في حينها قصة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما كان يتجول بين البيوت عندما سمع صوت امراة تقول ،لإبنتها  إمزجي الماء مع الحليب ، اجابت البنت ياأمي لقد نهى امير المؤمنين عن ذلك ، ردت الام وأنى يرانا امير المؤمنين ، اجابت البنت: ياأمي ان لم يكن يرانا امير المؤمنين فأن الله يرانا ، وعندما سمع الخليفة ذلك ارسل ابنه لخطبة تلك الفتاة قائلا له (ستلد لك تلك المراة رجلا لم تنجب مثله نساء العرب )، وكان ماكان فالقصة معروفة ’ ولو كنت قد قرأتها لالتمست من تلك المراة ماألتمس ابن الخطاب لابنه منها لنفسي لاني كنت غير متزوج في تلك الفترة الزمنية  وها انا اعيد استذكارها لانصفها ولاسجل لها فعلا انسانيا لايمكن ان انساه لها ، لقد هوى السوط على ظهري وحفر فيه اخدودا لازال اثره واضحا ، ولم اكن في حينه  اعرف ان التهجير القسري للسكان له مثل هذا التأثير الانساني العنيف ، وهو فعلا كذلك ، دخلت الى احد البيوت بعد ان غادرها اهلها ورأيت مصحفا معلقا على جدار الغرفة داخل حافظته المطرزة بالورود  ،

        

اخذت المصحف وكان من الحجم الكبير بحروف كبيرة ولازلت احتفظ به  وقد سألت احدهم عن السبب الذى حدا بالعائلة الى ترك المصحف الكريم في البيت المهجور والذي سيتم نسفه بعد مغادرتهم اياه ، اجابني بان ساكنيه قد تركوه ليحرس البيت حتى عودتهم اليه ثانية  ، لاتمروا على هذه الجملة الى مابعدها تأملوها قليلا وتبادلوا الادوار مع من وقع عليه التهجير فهو معادلا للاعتذار ومزيلا للاحقاد ، انطلقت السيارات المحملة بالعوائل مع محتويات منازلهم وابتعدت لمسافة اقل من كيلو متر واحد لتبدأ عملية تفجير البيوت المهجورة من قبل عناصر الهندسة العسكرية التي كانت تصاحب القائمين على تنفيذ التهجير القسري ، كانت الانفجارات مسموعة ولا اعرف ان كانت المرأة قد ادركت معنى التفجيرات وأن  بيت الاحلام قد تلاشى واصبح اطلالا ، لكني اعرف الان انهم قد عادوا الى قراهم او عاد اولادهم بدونهم او عاد الاحفاد بدون الاباء والاجداد او  قد غيب الموت البعض منهم ، لتطوى صفحة مؤلمة من تاريخ العراق المتأسي بالمأسي المستدامة .
 
تحياتي ....مع التقدير

الگاردينيا:هذه المادة سبق وان نشرت العام الماضي..نعيد نشرها ونشر كل ما كتبه المرحوم..كجزء من الوفاء له

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1236 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع