'الغرفة وضواحيها' لميسلون هادي أكبر من الوطن
البيت وغرفه المختلفة في الرواية ليس المأوى الشخصي للفرد، إنما هو 'الوطن' وربما أكثر من ذلك.
ميدل ايست اونلاين/زينب خضير الزبيدي - بغداد - قيمة إنعتاق الحزن في الخلية الرحمية التي تتوالد فيها القصص وتتداخل في أنسجة نصوصها كان لها جمالية فردية، والسرد الكامل هي سيمياء الألوان القاتمة حيث تتوحد في بوتقة العناصر اللغوية الدالة للحدث ، فتعطيها المجاز البلاغي في الصياغات والمحاورات وبناء الدلالة. إن البيت وغرفه المختلفة ليس المأوى الشخصي للفرد، إنما هو " الوطن " وربما أكثر من ذلك،فخصوصيته أحد أهم أسباب نجاحه.
أنبثقت أقلام حاولت الكشف والتحول عن مسارات جريانها فمن رفضها التام لتقنين اللانمطية والتأسيس لحجر زاوية جديد لا متناهي الأبتكار ، له كيان مستقل بخصائص إرتكازية كبيرة .
يتوازى عندها الجوهر الإنعكاسي في ذلك الكيان المكاني والزماني لمستوى الإنشطار والتشتت الخلاب فيه،فيحمل عندها الكاتب على عاتقه الوظيفة التواصلية والمرجعية للنصوص في ثنائيات اللغة وتمايز الوظائف والسمات اللفظية، ودلالاتها كالباطن والظاهر تماماً، أو كما الصوفية الإيمانية وما يقابلها من الإلحاد .أو تلك الرغبة الجامحة في خلق وعي جديد وتهيئة التجديد لعملية فصل ودحض لما يجري من إندفعات نحو المجهول ، داخل عالمه المليء والمكتظ بالصور والذكريات والأحداث .
تحول النسق في المعاني من الحقيقة إلى المجاز، فوقع في ذهن القارئ أو المتلقي الصور المتخيلة لواقع الحكاية، معيداً معها الإنصياع التام لذلك الفيض من التخيل والتحديد الكامل لأجواء الحكاية .ثم يستلهم منها طبيعة تشكل الأشخاص وأحساسهم الخاص، وتواصله بنظام الممكن والمستحيل، وهذا ما يحدث لك عندما تقرأ للكاتبة ميسلون هادي.في محاكاتها الواقعية لما مرت به بطلات حكاياتها بمراحل مبطنة المعنى والتشكل ومنسلخاً أو حتى مطابقاً لمشهدية التكثيف التي ملئت شاعرية القصة .
فهي الساحرة التي تحولك إلى مادة زئبقية وتنتقل بك إلى زمان حكاياتها وتأخذك لأمكنة عديدة تسير بلا وعي منك في أزقتها وطرقها التي تلتوي ثم فجأة تستقيم .قاومت ميسلون هادي الكثير من الأساليب الفضفاضة في السرد وأسترجعت زمن الأختزال الفكري في البنية النصية على صعيد الأحتمالات الجديدة أو خلقها،وكنت كلما أقرأ لها وأنا صغيرة بعض قصصها الخارجة من الخيال العلمي ينتفض فيّ ذلك الشعور الغير مألوف في تسمية الأشياء أو ترجمتها أو تفكيكها لمادتها الأولى، حتى علقت بذاكرتي قصص كثيرة إلا أنني بدأت بعدها بقراءة كل ما تجود به الجرائد والمجلات وبعض الكتب التي كنا نشتريها في موسم معرض بغداد الدولي للكتاب .
لذلك أعتدنا نحن الذين أثرت فينا المواقف والشخوص على أن نقتاد كل ذكرياتنا الحزينة مشدودة الوثاق ورميها بالرصاص في ضواحي غرفنا الممتدة والغارقة في آثارها .لكننا سرعان ما سنراها بلحمها ودمها عند قراءة أية رواية تجانبنا في الكثير مما شعرنا به وأحسسنا بشبهه الكبير معنا .
قالوا :
مابين غرفة وأخرى، تيه يتجدد بخطوة واحدة.
لطالما كانت لغرفنا الصلة الوثيقة بنفوسنا وبذواتنا المتأرجحة مابين خيارين.
فهي أما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
هذا ما أكدته لي التجارب والقصص وما جاء في الأثر أو ما تسرب من أبوابها المغلقة أو المواربة أو حتى المفتوحة منها. أخرجت حواء آدمها منها، وعلى الجانب الآخر لطالما أبعد آدم حوائه منها، أما قسرا أو وجوباً أو أحتياطاً، أو حتى مباغتة غير محسوبة العواقب .وبالرغم من أنهما خرجا سوياً في زمن ضائع إلى أرض لم يكونا قد خططا للإقامة بها، أو إختيارها .بقي هذا الإيقاع بين العلاقات على شكل زمني تقادمت طرقه ومساراته وغاب أسفلته وتكسر إلى قطع صغيرة مفتتة.
تحولات التخيل
في متاهات غرفنا ممرات سرية لم نزل لا نعرفها، بل أننا نجهل الوصول إليها .فالأنا وفلسفة الإحتماء ببقايا ذكرياتنا الماضية، خرجت من كينونتها الأولى عبر حراثة أرض الواقع وإبذارها بالوهم.. نحلم بها كلما داهمنا النوم فجأة مثل شرطي مدجج بسلاحه لا يعرف إلا إحكام القوانين ومحاسبة كل من أساء إليه .فبين مسالك الحلم واللاوعي تُبعث رغباتنا المتناقضة مع بعضها، تلك المتصالحة مرة مع الواقع ، والمتناحرة والثائرة معه مرات، وبالرغم أن النفوس البشرية أصرت على الإنفلات من التصنيف والأطر، مارة بمراحل كثيرة للتحرر والسمو والطيران بعيداً ،إلا أنها أستمرت في العودة لمربعها الأول مستحسنة قرارها النفسي الأول السحيق، والأقتصار على رابطة الإحساس المحض .فنحن لا نملك إلا تحرير اللامرئي منا، ونترجم بلغة متناغمة ذواتنا على الأقل مرة للآخرين، فلا هوية جاهزة لأحد مالم يصنعها بنفسه، وهي أيضاً قد تكون قابلة للتكرار والإنتماء، بل حتى الإنقلاب على نفسها إذا لم نحتويها.
التغاير والتناص في بناء الجمل التقليدية
مجموعة الجيل الثاني من الروائيين العراقيين الذين ساهم أكثرهم في إثراء أمتدادنا الثقافي إلى اللحظة جعلنا نعرف معنى الكتابة عن ثقافة إنسانية راسخة أنبثقت منذ عقود من قلم يحمل أسمى معنى للرؤى التي تطوف بتجلياتها الجديدة وغير النمطية على مناخ المدن العربية بسياقها الفني، تتسامى فيها لعبة المعاني والمفاهيم التي يزعم البعض أنها قيماً خالدة وحقائق ثابتة غير قابلة للتبديل.
أحدثت هذه الكتابة بوتيرة مستمرة بعض التدمير والإنقلاب وكسر القالب وإحياء روح التمرد الذي رسخ حاجتنا الدائمة له .وللسيدة ميسلون هادي كقاصة وروائية خصائص الإبتكار والتحول السردي إلى خاصية الخلق الجوهري الذي يرفض المألوف ويحاكي تفعيلة المنطق.
أختزنت فيه التواترات الصورية وعكست الكثير من ضمائر السرد والمحاورات والوصف، نقلت لنا بعض التساؤلات بمنظور آخر لن يفهمه إلا من يعرفها أو قرأ لها منذ مدة طويلة .فهي العارفة بمنظومة الربط بأغلب لبناتها المعرفية أو تلك المؤصلة بالحقيقة أو المؤطرة بأسيجة متعددة سرعان ما سيعبرها القارئ ويخرج منها بمفهوم توسعة المعنى.
ربما لأنها شديدة التعامل بأحترام الواقع بالرغم من تعقيداته وظهوره دائماً بأشكالات التساؤل الدائم عن النهايات .حيث ترجئنا كذات واعية لزمن النهايات فتنجلي عنا ضبابية التأويل.
وتجديداً لذلك التعارض والتمرد على صيغ الوثن القديمة التي لم تفارق سردية الكلمة القصصية المتأصلة في مذاهبنا الأدبية العتيدة، عملت كروائية على توظيف الرموز والمتناقضات الثابتة والمتغيرة للدلالة والإشارة لما تقتضيه موضوعات القصص والحكايات من ذات التحول من الإحساس الحسي إلى الحدسي .فميراث الأسلاف بدأ يميل بتقادم الوقت للسذاجة والمحاكاة العقلية البالية من أقاويل وحيثيات أنتهى زمن إيقاعها الملفت والمغري للتخيل . ولكنها أفترضت لنا مع جماعتها من الجيل الثاني مفهوماً طقسياً يتوائم مع مخيلة القارئ الجديدة .نحاذي فيها تخوماً من الثورات والحروب وبعض معطياتها وغوايات العنف القصصي عبر مفارقات التسميات وجنوح الأعداء وإنكشاف الحقائق وغموض الأحداث تحت مسمى السياق النصي الذي يحاول أن يبث لنا صور الكمال على تلك الأرض كرؤيا خلاص ممكنة التحقيق .
لأجل هذا كانت التجربة الأبداعية مع السيدة ميسلون هادي من أكثر ما يلامس الروح عمقاً وشغفاً بالقراءة والبحث عن الذوات الصامتة من جديد في خضم هذا الكم الهائل من الأسماء.
969 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع