مشهد من الحرب البروسية ـ الفرنسية 1870 (غيتي)
اندبيندت / ابراهيم العريس:للوهلة الأولى يبدو المشهد سوريالياً من الصعب تصديقه: ريتشارد فاغنر، سيد الموسيقى الأوبرالية في زمنه، يكتب عام 1870 نصاً مسرحياً يهدف إلى تحويله لعمل أوبرالي ساخر من نوع لم يعتد عليه. في البداية، يحاول أن يكلف المهمة "موسيقياً شاباً" يقيم "في دارنا"، كما يقول، من دون أن يسميه، لكن المسرح الأول الذي طلب منه إنتاج العمل رفض الموافقة على أن يكون "ذلك الشاب" ملحن العمل "فرحنا نطوف من مكان إلى آخر للعثور على ملحن يموسق النص على طريقة أوفنباخ، لكننا لم نجد في وقت كان ذلك الموسيقي الشاب يحمد ربه لرفض المسرح له".
فاغنر يروي الحكاية
ترى هل كان يمكن أن يصدق أحد هذه الحكاية لولا أن من يرويها هو فاغنر نفسه، وتحديداً في المقدمة التي كتبها للنص حين نشره بعد ذلك بثلاث سنوات من دون أن يتحول إلى أوبرا؟
هي حكاية حقيقية، لكنها تبدو مثيرة لعدد كبير من الأسئلة، حتى وإن اتضحت لنا خلفيات ذلك الحدث الفني الغريب. فأولاً، لماذا كتب فاغنر هذا النص الذي عنونه "استسلام" تحديداً في خريف ذلك العام الذي شهد الحرب البروسية – الفرنسية، وحصار القوات الألمانية لباريس ناسفةً في طريقها كوميونة باريس الثورية، التي كان من شأنها أن تستجيب لتطلعات فاغنر نفسه، ولكن ها هو هنا يسخر منها في عز اندلاعها؟ ثم لماذا لم يلحنها بنفسه، وهو الذي كان في إمكانه أن يبدع موسيقاها في أيام قليلة؟ ثم من هو "الموسيقي الشاب" الذي رفض المساهمة في العمل مع أنه كان مقرباً من فاغنر إلى درجة أنه كان يقيم ضيفاً في دار هذا الأخير؟
الحقيقة أن هذه بعض من أسئلة طرحها المؤرخون على نص أتى ساخراً من الفرنسيين وهزيمتهم في وقت لحن فيه فاغنر عدة مقطوعات "وطنية" أخرى تتناول تلك الحرب تحديداً، وتتغنى بـ"بطولات الجيش الألماني" المحاصر لباريس. فما الحكاية في الحقيقة؟ ولماذا كل هذا الغموض حول نص من أربعين صفحة كتبه فاغنر خلال أسابيع قليلة جاعلاً "بطولته" لعدد من الفرنسيين المعروفين بالاسم، وعلى رأسهم فكتور هوغو، إلى جانب من يسميهم الكاتب "الجولات الثلاث"، أي جول فيري، وجول سيمون، وهم كانوا سياسيي فرنسا الرئيسين حينها؟
بين بيتهوفن وسيغفريد!
وهنا قبل محاولة توضيح الأمور بعض الشيء لا بد من القول إن فاغنر كتب النص الذي نتحدث عنه حين كان مقيماً في تريبخن، وبعد انتهائه من وضع كتابه الرائع عن بيتهوفن، وفي وقت كان يحضر فيه لإنجاز واحدة من أوبراته الكبرى "سيغفريد". ولعل من شأن ذلك الظرف التاريخي المتقطع أن يزيد من غموض المسألة برمتها، ما جعل عدداً من الدارسين يفسرون الأمر تفسيراً سهلاً يتعلق باندفاعة "قومجية" حركت فاغنر، لكنها اقتصرت على مهاجمة الفرنسيين من دون أي امتداح في المقابل، في هذا النص بالذات، لأهل جلدته الألمان، حيث نراه في بعض ثنايا النص، كما في المقدمة التي وضعها لاحقاً، يغمز من قناتهم حتى.
مهما يكن من أمر، سنحاول هنا العثور على خلفيات يمكن اقتراحها كتفسير لبعض جوانب الحكاية. وفي هذا السبيل سيتعين علينا الرجوع نحو عشر سنوات إلى الوراء، وتحديداً إلى موقف سلبي وقفه عدد لا بأس به من المثقفين الفرنسيين، ومن بينهم أصحاب أسماء كبيرة، من أعمال أساسية لفاغنر.
ظلم ذوي القربى
ولنبدأ هنا ببروسبير ميريميه، الذي كتب عام 1861 يقول بعد مشاهدته عرضاً لأوبرا "تانهاوزر": "كانت هذه الأوبرا تبعث حقاً على السأم، لكنه سأم سامق؛ ويبدو لي أني أستطيع في الغد تأليف شيء مماثل مستوحياً الألحان من خطوات هرتي المتهادية فوق مفاتيح البيانو". وكتب ناقد معروف هو هيفيل: "إن كثرة ألحان فاغنر الإلقائية تزرع الخمول لدى المستمعين وتصيب صحتهم بالخلل". وعلق آخر: "رباه، لقد نفدت بجلدي! ولكن كم عددهم أولئك الطيبين من هواة الموسيقى الذين سيقدر لهم أن يعيشوا لينطقوا بمثل ما أنطق بعد أول عرض لهذه الأوبرا؟!". ويمكننا أن نواصل نقل هذه الانطباعات إلى ما لا نهاية، لكن المهم بالنسبة إلينا أن فاغنر كما يبدو لم ينسَ تلك المواقف. فهل يمكننا أن نفترض أنه انتهز الفرصة الملائمة للانتقام على طريقته؟
نعم، على الأرجح. ومن الواضح أن الكاتب الموسيقي كان من الذكاء بحيث طعم النص بغمزات تشير إلى أنه لم يتعمد أن يكون "قومجياً" في موقفه في الوقت الذي دمر فيه سمعة بعض الفرنسيين الكبار، ولا سيما فكتور هوغو الذي كان يومها، كما لا يزال حتى اليوم، الرمز الأكثر سطوعاً للإبداع الفرنسي، وها هو عند مفتتح النص يخرج من المجارير تحت الأرض ممتشقاً سيف البطولة، معلناً أنه يعود من المنفى كي ينقذ الوطن. وفي المقابل يطالعنا كورس على طريقة المسرح اليوناني يصرخ بسذاجة عند كل موقف من مواقف هوغو كما عند كل خطبة من خطابات السياسيين الفرنسيين "المقاومين" المتخبطة فيما بينها على أي حال، والتي تخلط كل شيء بكل شيء بما في ذلك حين يتدخل الموسيقي أوفنباخ في الأمر مشاركاً في المقاومة مصعداً من اللهجة العدائية تجاه الألمان الذين لا يفوت فاغنر هنا أن يشير إلى أنهم يستأهلون ذلك وأكثر.
خاتمة من الصخب والزعيق
هذا الزعيق، وتلك المواقف، سترافق صفحات النص الأربعين حتى الختام الذي يبدو تصعيدياً وغير مفهوم تتشابك فيه الأمور والأصوات، إنما دون أن تكون هناك مقاومة، أو معارك. فحين يقود فكتور هوغو المقاومة تتحول هذه بالطبع إلى صراخ وزعيق لا يثمر ولا يغني من جوع.
مهما يكن من أمر لا ينسى فاغنر في المقدمة المتأخرة التي كتبها بعد أن صارت تلك الحرب مجرد ذكرى، لا ينسى أن يخبرنا بأنه إنما يضع على قدم المساواة في "هذا النص الناقد" كلا الطرفين، حيث إن "الألمان قد صمخوا آذاننا أيضاً بذلك النوع نفسه من الأعمال "الفنية" الساخرة من الفرنسيين، والتي تحط من شأنهم. تماماً مثلما فعل الفرنسيون في حطهم من شأن الألمان". ويشير في طريقه إلى أن الفرنسيين كانوا دائماً معلمين كباراً في مثل هذا الفن المنحط، و"آن لنا أخيراً أن نتفوق عليهم"، ومن المؤكد أن غايته هنا كانت أن يفعل ذلك لا أكثر منتقماً في طريقه من إساءات في حقه يبدو أنه لم يتعلم أبداً كيف ينساها!
أوهام فاغنرية
بقي أن نذكر هنا أن الفرنسيين غالباً ما فضلوا أن يغضوا الطرف عن تلك "الفعلة" الفاغنرية، معتبرين ما أشار به إلى مواطنيه كافياً لاعتبار موقفه عادلاً، بل يمكننا أن نذكر هنا أن أنصار فكتور هوغو أنفسهم لم يؤاخذوا فاغنر على الصورة التي قدم رمزهم بها. وربما كان لسان حالهم يقول مع جورج بررنارد شو الذي وصل إلى أعدل توصيف لفاغنر في كتابه "الفاغنري الكامل"، حيث قال:
"كان النجاح الذي حققه فاغنر ساحقاً، حتى بدا لتلاميذه المبهورين به أن عهد ما سماه بالموسيقى "البحتة" قد مضى، وأن مستقبل الموسيقى قد قدر له أن يصبح "فاغنرياً" يحتفل بافتتاحه في مهرجان بايروت الموسيقي الألماني. غير أن هذه هي الحال مع العباقرة الكبار دائماً، لأنهم يجعلوننا نقع فريسة لمثل هذه الأوهام. والواقع أن فاغنر لم يبدأ حركة ما، ولكنه أتمها، فقد كان قمة المدرسة المسرحية في الموسيقى خلال القرن التاسع عشر، كما كان موزارت قمة مدرسة القرن الثامن عشر، على حد قول غونو. وقد لاقى كل الذين حاولوا السير وراء فاغنر معتنقين تقاليد مهرجان بايروت الموسيقي، المصير نفسه الذي لاقاه أولئك الذين أرادوا اقتفاء أثر موزارت وطواهم النسيان منذ مئة عام".
568 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع