وعد جرجس: قلمي ليس سَخيّاً أبداً بل هو متملّك وأنانيٌ لا يكشفُ عن مفاتنهِ بسهولة.
أول كتاب قرأته كانَ "الأجنحة المتكسِّرة" لجبران خليل جبران
القصيدة يكمن جمالها في غمغمة الفكرة وإخفائها كما لؤلؤة في محارة
ميدل ايست اونلاين:خالد ديريك:تقفز الأحرف من أناملها على الورق فرحا لتشكل مقطوعات قصصية، شعرية تمتع القراء وتشبع ذائقتهم لحنًا عذبًا. الحرب وتبعاتها، الشوق والشتات إضافة إلى نوافذ الفرح والأمل كلها خرائط ومحاور تسير عليها بهواجسها وبخيال واسع مما تجعلها تكتب مختلف أجناس الشعرية والأدبية بإتقان وجمال. تمتلك إرادية قوية لبلوغ أهدافها، وتعلم إن دروب الأدب محفوفة بالمخاطر لا يصمد إلا الموهوب والصادق لذا نراها تكتب بكل صدق ومسؤولية.
ترعرعت بين كنف عائلة صغيرة مفعمة بالحب والحنان، كانت طفلة عنيدة متمردة بضفيرتين كستنائيتين متدلِّيتينِ على كَتفيها كما تصف، والتفاح الأحمر فاكهتها المفضلة. نشأت في جزيرة غنية بأنهارها وسدودها، تلالها ووديانها، قمحها وأقطانها فالنفط والغاز!
أكملت سنين طفولتها وشبابها كما تعليمها بين أزقة مدينتها وفي مدارسها، المدينة التي تعج بالبساطة والمحبة والتنوع كالفسيفساء الملون. انضمت إلى سرب النزوح منذ عقد ودمعة وحطت بها الرحال في إحدى الدول الأوربية كلاجئة!
لها ديوان مطبوع وستة كتب أخرى بين الشعر والقصة والمقال قيد التجهيز والطبع.
وعد جرجس شاعرة وقاصة وكاتبة سورية من مدينة الحسكة، تقيم بألمانيا وتكمل دراستها في تخصص "الإرشاد النفسي".
تقول عن طفولتها: صراحة لم أتقن يوماً الحديث عن نَفْسي لكنِّي أذكُرُ بأمانةٍ تلكَ الطِّفلةَ الوحيدةَ لوالديها مع أخويها الصبيَّينِ كيفَ كانت حنونةً حالمةً خجولةً عنيدةً متمردةً بضفيرتينِ كستنائيتين متدلِّيتينِ على كَتفيها، تغلقُ عينيها بقوةٍ رافضةً فتحهما على ما يخدش عالمها الكريستاليَّ الجميلَ رغم كل المحاولاتِ البائسة لا تفتحهما إلا عندما تسمع صوت والدها يصرخ: ما أجملَ هذهِ التفاحةَ الحمراءَ يا ترى من نصيبِ من ستَكون؟!
بما أن التفاح الأحمر كان أحد إكسسوارات عالمها الخاص هذا، وأنا أعتقد أنني ما زلت إلى حد اليوم تلك الطفلة التي تغلق عينيها عن كلِّ قبح ولا تتقبَّلُ روحها إلا الجمال.
قمة الإبداع أن يخرج الشاعر عن حدود الواقع إلى ميتافيزيقيا الماورائيات ويسخّر حروفه الخاصة في نسج نصوص لها هدف سامي في الحياة
وأضافت عن شبابها: أنا تلك الشَّابةُ القادمةُ من بلادٍ كانت مليئةً بالحبِّ والسَّلامِ قبلَ أن تباغتَها سَكرات الموتِ البطيءِ لتُردي بها وبنا قتلة شوقٍ على قارعةِ الفُراقِ. سوريةُ الدَّمِ والهويَّة أنا.
تربت رئتيَّ على هواء جزيرتها في مدينةٍ صغيرة مفعمةٍ بالبساطةِ والجمالِ اسمها الحسكة، نضَجتْ معالمي بين شوارعها ومدارسها ومركزها الثقافي وبين جرائدها لاهثةً أقتفي أثرَ حلمٍ يُضيءُ نَجمُهُ تارةً وتارةً يختَفي كالسَّرابِ للأسفِ الشَّديدِ. بعد حصولي على الشَّهادةِ الثَّانويةِ وتأهُّلي لدخول جامعتي الفنون التشكيلية والأدب الفرنسي في حلب، هاجرتُ مع عائلتي في عام 2010 إلى ألمانيا بسبب يأسٍ أصابني من الواقع المرير بشكل شامل فتركت الجزء الأكبر الأتعس الأجمل من كياني هناك.
أما وعد الأم فتقول: أخذ الشعر والأدب الحيِّزَ الأكبر في حياتي إلى أن أصبحتُ أمّاً وأصبح هو امتداداً لضحكات طفلتَيَّ ورهينُ دمعةٍ منهما فقد قلتُ مرَّةً قبل أن تكوني امرأة عاملةً مثقفةً فعّالةً في المجتمع، قبل أن تبني اسماً تفخر به أناك، قبل أن تقطفي ثمرة طموحاتكِ، قبل أن تشهقي شهقةَ نجاح سعيت له، كوني أمَّاً فذلك أعظم كيان وأقدس شعورٍ وأشرف لقب منحه الله لكِ. ابنَي طفلاً بأمانة وحبٍّ يُبنَى لكِ بيتاً في الفردوس.
وقد كتبتُ من وحي طفلتي الأولى ناي قصيدة بعنوان "نيّوشَتي الحُلوة" سأذكر منها هنا بيتين:
بِجَمَالِها تَسْمُو الدُّنَى للأرْقَى ** قلبِيْ لهَا وبدُونِها كَمْ يَشْقَى
نيّوشَتِي كفراشةٍ وتَراقَصتْ ** بِبَهائِها نَفَسُ الرَّبيعِ لَأنقَى
كما كتبت لطفلتي الثانية فيرجينيا نينا قصيدةً بعنوان "نينَا كَوْنِي" سأذكر منها هنا بيتين:
فِي عَينَيها بَحرُ اللَّونِ ** نِينَا أحْلَى مَافي الكَوْنِ
مِنْ بَسمَتِها تَصحُو شَمسٌ ** تُهدِيْ رُوحِي كُلَّ العَونِ
وعن البداية الإبداعية قالت وعد جرجس: بدأت محاولاتي الأولى للكتابة في المرحلة الإعدادية، ونضج قلمي منذ عقد. البدايةُ من شرفةِ غُرفتي حيثُ كانت واسعةً فاتحة دفتيها للسماءِ أستطيعُ الجلوسَ عليها برياحة في ليالي الصَّيف أحاكي القمر والنجوم وأهدهد لهم حتى يبزغ الفجر ويُسدِلُ الليلُ جفنيهِ وأكونُ أنا قد كتبتُ قصيدتي وذهبتُ لأستريحَ. البدايةُ كانت على مقاعد الدراسةِ.
كتبت أول نص نثري بعنوان "إلى أين" وكان ذلك في بداية المرحلة الدراسية الإعدادية. وأول كتاب قرأته: كانَ "الأجنحة المتكسِّرة" لجبران خليل جبران.
اكتشفت موهبتي بكلِّ فخرٍ وبعد ذلك لاقيتُ تشجيعاً خلال مراحلي الدراسية الأخيرة من أساتذتي وأهلي. ولم تكُن حينها إلا محاولاتٌ لنشر نتاجاتي ليس إلا ولكن يسعدني أنني حصلت على كلمةِ شكرٍ في عام 2019 بمقالة تعريفية عني، كُتبت بقلم الصَّحفية السُّورية هفاف مهيوب ونُشرت في جريدةِ الثّورة السورية، وكأنَّ حقِّي وصلني من وطني لجهدٍ زرعتهُ في تربتهِ يوماً فحصدت شيئاً من محصوله ولو بعد حينٍ. إنما الثَّمر البسيطُ الذي أبدأ باقتطافهِ الآن هو حصيلةُ جُهدِ عشرِ سنواتٍ من النشر في مختلف الجرائد والمواقع الإلكترونية حول العالم.
أما الشِّعرَ فهو عبادةٌ بل هوَ تصوفٌ في محرابِ الآلهةِ إذا لم تكن منتشياً خاضعاً جاثياً على ركبتيكَ لسلطانه لا تدخلهُ ولا تصلّ لأنه ببساطةٍ صلاتكَ لن تُقبل!
قلمي ليس سَخيّاً أبداً بل هو متشبثُ متملّك متعبٌ وأنانيٌ لا يكشفُ عن مفاتنهِ بسهولةٍ تمرُ أيامٌ وأحياناً أسابيع من مخاض براكين بداخلي حتى تحين لحظة الولادة وحينها تلد الروح حمماً سرمديةً إلى حدٍ ما فلا أذكر أني رضيت بشكل مطلق عن قصيدة ما كتبتها، فأنا أشعرُ دوماً بأنَّ أغلبَ قصائدي ناقصةٌ وعندما أنهي أي قصيدةٍ أقول ها قد أديتُ معظم فرائضك وما تبقى سأكمله لاحقاً في قصيدة أخرى. أحب كتابة الليل فأنا أكتب بصمتٍ دون سماع أي موسيقى لأنني أعتبرها تشويش في حضرة الوحي. وكل ما أدريهِ أنَّه في كل قصيدةٍ تسافرُ عبرَ محطاتِ دمي يولدُ شيءٌ ما بداخلي ويموتُ شيءٌ آخر
بين الوضوح والغموض
في حالة الوضوح: يبقى ذلك حسبَ الفكرةِ ونوعِ القصيدة أيضاً فمثلاً قصيدة أطفال منظومةٌ على بحر معين أو تفعيلةٍ معينةٍ لا يمكن أن تكون إلا واضحة الصّوَرِ ومفهومة فقيمتها تكمن في إيقاعها ووضوحها.
موهبة ومنحة من الله
في حالة الغموض: قصيدة نثر أو تفعلية يكمن جمالها في غمغمة الفكرة وإخفائها كما لؤلؤة في محارة. وأغلب قصائدي تميل إلى الرمزية وخصوصاً قصائد النثر.
وأنا أكتب لجميع البشر دون استثناء، فالشاعر الذكي يجب أن يوصل فكرته بشتى الطرق ويرضي جميع الأذواق، وأنا أكتب لكل من يقرأ كلمتي وتلقى صدى وتقديراً في عمق روحه لا يهمني الكم، ما يهم أن فكرة القصيدة وصلت لمن قرأ ولاقت الصدى المرجو.
الشاعر ما بين الجنون والعبقرية
الشاعر هو مرآة الواقع وكل ما يحرض قريحته على المخاض هي أحداث واقعية يومية حياتيه يواجهها أو يشاهدها في صورة ما إنما يسخّر خياله لطرح فكرة معينة بصورة شاعرية معينة وهنا يكمن إبداع الشاعر وشاعريته. الشاعر الحقيقي يُخلق من رحم الألم والمعاناة.
وأنا أرى أن هناك خيطا رفيعا قيد شعرة يفصل بين الجنون والعبقرية، كتابة القصيدة وكيفية الاستسلام للوحي تحتاج إلى سيطرة تامة على العقل وكلمة جنون تعني فقدان السيطرة على العقل، فإذن هذه النظرية خاطئة تماماً إنما نستطيع القول إن الشاعر كائن عبقري فكل تفكير يفوق الإدراك العقلي العادي المتعارف عليه ويتميز عنه ويسبقه بمراحل هو تفكير عبقري. والشاعر الحقيقي بطبيعة الحال هو شخص عبقري مخترع ومحاكي عقول أيضاً.
وفي الشعر – ترى وعد جرجس – أنه لا يوجد ما هو أسهل أو أصعب فكل قصيدة لها مخاضها وألمها لا أستطيع أن أحدد لكني أعتقد أن الشعر العامّي أو المحكي أو النبطي أو الزجل مثلما يختلف اسمه من بلد إلى آخر هو أسهل أنواع الشعر بالنسبة لي من حيث ولادة القصيدة وطريقة حياكتها فهي لا تخضع للكثير من القواعد والأدوات.
أما قصيدة النثر فهي الفضاء الرحب الذي لا بد للشاعر أن يفر إليه في وقت من الأوقات. بغض النظر عن أن قدرات الشاعر الحقيقي تثبت في القصيدة العمودية أي قصائد البحور المعروفة، وما اشتق عنها من قصائد التفعيلة إلا أننا لا نستطيع أن ننكر عذوبة وانسيابية قصيدة النثر وحاجة كل شاعر لوجودها.
وعد جرجس تكتب باللهجة البدوية أيضًا. وعن كيفية إتقانها لهذه اللهجة شعرًا دون غيرها من اللهجات واللغات منطقة الجزيرة/ محافظة الحسكة السورية، توضح بالقول: بحكم وجودي في بداية حياتي في وطني الأم سوريا في بيئة جزراوية تحتضن مختلف اللغات واللهجات الكردية والسريانية والآشورية والأرمنية، والشاوية اللهجة المحكية لبعض أهل الحسكة، والديرية المحكية في منطقة دير الزور اللواتي هن أقرب اإلى اللغة البدوية التي نسمعها أيضاً في المسلسلات البدوية التي تعرض على التلفاز تشرّبت هذه اللهجة إلى حد جيد نوعاً ما وهذا ما سهَّل علي تعلمها، أيضاً حبي للشعر البدوي ولكنته وطريقة إلقائه دفعني لأتجه إلى هذا الطريق من الشعر وقد كتبت بعض الأغاني باللهجة الشامية أيضاً أما السريانية والكُردية ... ليس بعد.
الشاعرة وعد جرجس لها قصائد وأناشيد دينية مغناة، وهي كالتالي: قصيدة "هواهُ معظمّ" وهي قصيدة عمودية من ألحاني غناها مطرب الإذاعة والتلفزيون السوري جان خليل. قصيدة "ذكريات" هي أيضاً قصيدة عمودية غناها ولحنها المطرب السوري الملقب بعندليب الشعراء لأنه غنى للعديد من الشعراء في الوطن العربي الفنان طارق مراد. ثلاث قصائد منها عمودية والأخريات ترانيم بصوت المرنمة المصرية ميمي لوكاس وعرضن على قناة "الطريق" المصرية. لا تتكل على البشر قصيدة عمودية اللحن من انتقائي. أنا باسم الرب قوية ترنيمة باللهجة المصرية. دقيت بابك ترنيمة باللهجة المصرية. قصيدة "يناجيني" تفعيلية بصوت المطرب السوري أمجد رحال. وهناك قصائد أخرى قيد العمل والتلحين سيكشف عنها لاحقاً.
بالنسبة للوحي الشعري أكيد هو موهبة ومنحة من الله لكل شاعر وأي شخص موهوب يجب أن يستخدم هذه الموهبة ويسخرها ليتمم رسالته على أكمل وجه في فائدة البشرية، أنا لا أنكر أن الطابع الروحي الرباني يتخلل الكثير من قصائدي بطريقة رمزية تظهر تأثري بفكرة الكيان المسيحي وأنا أعتبر أن قمة الإبداع أن يخرج الشاعر عن حدود الواقع إلى ميتافيزيقيا الماورائيات ويسخّر حروفه الخاصة في نسج نصوص لها هدف سامي في الحياة، وجبران خليل جبران ضرب أجمل مثل عن هذا الأسلوب حيث أطلق عليه لقب آخر الأنبياء.
وعن ديوانها "شهقات ملونة" 2019 قالت جرجس: ديوان شهقات ملونة الذي كان حصيلة عشر سنوات من التعب فخورة بمضمونه وبكل قصيدة مكتوبة فيه لأنه حاكى مختلف جوانب الحياة الإنسانية والسياسية، ولقي صدى كبيرا واهتماماً من قبل العديد من الأصدقاء الصحفيين والنقاد. لكن مع الأسف الشديد التعامل كان فاشلاً مع دار النشر غير مضمونة، أهدافها ربحية فقط فلم يكن هناك سوى عشرين نسخة وصلتني من الديوان من أصل ألف نسخة وهمية، وهكذا بقيت الطبعة الأولى من ديوان شهقات ملونة مضمورة لم يستطيع أحد من الراغبين الحصول عليها فلم تكن النتيجة مرضية طبعاً.
757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع