"قبلة مؤجلة" بين وجع الهمّ العام وحضور الآخر المتخيل
ايلاف/عبدالله السمطي:في ديوانها :" قبلة مؤجلة" تمضي الشاعرة أدال بشارة الحوراني صوب ابتكار ما تكنه الذات الشاعرة من رؤى، بسيطة شفافة تتسم بالرهافة والبحث عن نقاء الأشياء ورصد جواهرها، أو رؤى توغل هناك فيما وراء المكامن، ووراء الأسطح، وفي البحث عن كلمات الأعماق – إذا صح التعبير – عبر نصوص مكتنزة بالأسئلة، والارتياب في الواقعي . ما تكنه الذات الشاعرة هنا هو بحثها عن مجالات كتابة القصيدة، وما يتعلق بها من أحرف وكلمات ومعان ودلالات، وتصوير، وبنى فنية وجمالية وتعبيرية وأسلوبية.
يتضمن الديوان الواقع في 212 صفحة ، والصادر عن دار نلسن ببيروت في طبعته الأولى 2020 ( 184) نصًّا شعريًّا قصيرا، تتسم بالكثافة، وربما إعادة تدوير الدلالات الشعرية ما بين نص وآخر، بمعنى أن الأجواء الشعرية يعاد توزيعها ولكن بسياقات أخرى. بنوع من التدويم الشعري الذي قد يلح على بعض الدلالات المعينة كالكتابة والقصيدة، والزهور، وأشياء الطبيعة، أو يلح على ما يعتمل في الوعي من رؤى وأحلام، وقيم معنوية.
إن البحث في مجال كتابة القصيدة هو بحث عن الهدف والغاية والرؤية، فيما هو بحث عن القول الشعري، كيف تقول الشاعرة وكيف تعبر، وعن ماذا تكتبُ وتفضي وتعبر؟ وهي التوجهات التي تستحوذ على فضاء نصوصيّ كبير بالديوان ، إذ لا تخلو جل النصوص من ذكر القصيدة ومكوناتها، وحروفها، وصورها، ومجازاتها. كأن القصيدة في الديوان هي الحلم المبتغى، وهو الهدف الجمالي الأسمى الذي ترنو إليه الشاعرة في معظم توجهاتها. هي البحث عن المعنى، وعن الروح وجمالها المخبوء، هي البحث عن " زنبقة المستحيل" وعن البناء الحيوي للوعي والمخيلة. الشاعرة تستقصي كثيرًا ما يثير القصيدة وما يخلّقها، وما يجعلها أيقونة خلاص ومطهر دانتيّ، وما يجعلها صورة الكون والوجود والإلهام والرؤى. القصيدة هنا في هذا الديوان هي الحياة المكتملة بطرفيها: الفيزيقي والميتافيزيقي.
هكذا تقودنا الشاعرة إلى رؤيتها الإبداعية منذ الوهلة الأولى للديوان. إن الانشغال بهمّ القصيدة يفاتحنا بدءا من النص الأول المعنون ب:" حلم" :
حبيبي
سأعيدُ تكوينك بالكلمات
مدادًا للأمنيات.
بقايا الدروب أحصدها
نبيذًا للأمسيات
أسكبُها في قصيدة تتوق إليك
هي الكلمات تتطفّلُ
تمتطي افتتاني بك
توقظك في ضحكتي مقبلا
وأنا لستُ أعي ماذا أكتب؟
أشعلُ نارًا في حلم
حلم في أرض ليس فيها إلا
الأساطير والصلاة. / ص 14
هي العلاقة الثلاثية التي تشكل هذا المشهد النصي: الأنا- الآخر – القصيدة، والحلم هو مكون دلالي يصوغ هذه العلاقة. الحلم بالحب، الحلم بالشعر، الحلم بالكتابة، بتغيير نمطية الوقت واللحظة والحياة.
الشاعرة تؤكد على ذلك بشكل يقيني من نص لآخر، وتفتح مسارب للقراءة والاستقصاء المتكرر، تصوغه في نص:" زهرة بريّة"و تلخص هذا المضي صوب قصيدتها القادمة المرتقبة وتكثفه في عبارات فلاشية:
سأمضي
زهرة برية
أبحثُ عن قصيدة عذراء
تسكن وجه الماء
كي تراني / ص 41
هي زهرة نرسيسية تلك التي تمنح هواجس التأمل، وتفضي إلى قصيدة بكر عذراء، ربما لم تكتب. الحلم بالقصيدة يتأسطر، ويتمرأى في مياه التخيل كي يصاغ من حروف وكلمات كقطرات المطر ، فيما تعبر الشاعرة.
إن هذا التدويم ربما لا نجده لدى شاعرة أخرى. فهذا الديوان يستقصي بأغلب نصوصه حالات الكتابة الشعرية من مختلف تعبيراتها وأجوائها، كأنه قصيدة مطولة متقطعة على شكل نصوص قصيرة، ونصوص فلاشية، تذهب إلى وضع تعبيرات مثلى أحيانا حول الشعر وماهيته
حيث نرى الشاعرة تعبر في نص بعنوان :" مسافات مفتوحة" عن احتياجها الدائم للشعر:
أحتاج إليك أيها الشعر
لأنحّف خصري
وأطيل سنين بسمتي
وشبق عطري
لمسافات مفتوحة
في عروة الكلام سمفونية بتهوفن
تُلهب رغبة غضة
بين رقص الدرويش
وهزيز الشرق
إيقاعك المسترسل
في حنايا المرايا
يثير مجون أناملي
إلى مرسى سحابك
لأرسو قصيدة / ص 196
الشعر هنا كل الحياة، أصبح هاجسا آنيا، وأصبح هو الزمان والمكان والخيال، أصبح لصيقا باليومي والمعتاد، ولصيقا بلحظات الذات الشاعرة، هو حياة في الحياة ، كما تومئ نصوص الديوان، وهو الخمر التي تسكر بها الذات بحثا عن وجودها وكلماتها ورؤاها.
حضور الآخر المتخيل:
على اليقين كعادة القصيدة النسوية الراهنة، يحضر الآخر، وتتم مخاطبته بنصوص متنوعة، مسجلة حالات من الوجدان والإحساس السنتيمنتالي، والفقد، والوجد، والبحث عن النموذج الحالم، وحالات أيضا من الحنين والغياب والتذكر والتداعي وذلك في لغة شعرية تتراوح بين التقريرية المباشرة والعميقة الكثيفة الموارة بالرمز والاستعارة والسياقات المكتنزة بالدلالات، أو تلك التي تستند على أبعاد تناصية قادمة من بشار أو أبي نواس أو المتنبي، أو من الذاكرة الشعرية العربية القديمة، أو تلك التي ترتكز على المؤسطر والمقدس ، وكلها تصبو لإنتاج قصيدة حلم، قصيدة قبلة مؤجلة لم ترتكب بعد.
في نصوص مثل :" ذاكرة" و" سماء عاشقة" و" صلاة" و" جنة الوعود" و" فرح أسير" و" خمر" – تمثيلا - تقدم الشاعرة جملة من المشاهد المكثفة التي تراود الأفق السنتيمنتالي العاطفي الوجداني، بعبارات قصيرة، بلقطات وأيقونات، تومئ إلى الروح، إلى أمواج العمر، إلى تحويل الصور إلى نبض وحياة، إلى السعي لتغيير الواقع ودلالات الأشياء على مستوى الرؤية الشعرية بالتأكيد.
تقول الشاعرة في :" ذاكرة"
لأنني امرأة ليست تقليدية
كان بوحك جميلا
بهرتني بلاغة كلامك
قدرتك على سبر أغوار ذاتك
على رسم أحلام بسمتك
أيقظت فيّ ذاكرة لم تسمع يوما
حروفا تحرقها
ككبريائك الباردة
أسمعك وأنا على حافة نهر
أقف
أرتوي صمتا تركني
امرأة تقليدية. / ص 38
هي امرأة غير تقليدية تبحث عن أفق غير تقليدي أيضا، لدى الآخر الوجداني، امرأة تصر على أن تبعث صلوات قصائدها من رماد الأشياء، ومن النهر الحارق – فيما تعبر- فكل الدلالات تؤدي إلى حافة النهر وحافة الشعر.
وتتمثل الشاعرة ذاتها كامرأة، حيث تفيض بعض النصوص بالأجواء الخاصة بها: الرداء، العطر النسوي، كحلة العين الماجنة، وحمرة الشفاه، والشفاه الماجنة، هي أنثى لحظة التكوين ، فيما تعبر في نص:" أنا وهي"
تبحث عبر القصيدة عن لذة أو صرخة ولادة لفرح المخاض، لجسد يتفجر بأنوثته. كما تصور في :" جوع يرتجف" / ص 73
وهنا يحضر الجسد في عدد من النصوص كما في :" ذكريات" الجسد بأنوثته وعرامته وأشواقه، وتنفي الذات الشاعرة لديها كونها امرأة عادية، أو " لم تعد تلك المرأة امرأة من هذا العالم" / ص 81
والذات الشاعرة في حال انتظار دائم كما تبدي الشاعرة في عدد من النصوص، انتظار حلم، انتظار مخاض، انتظار قصيدة، وهي كلها تشي بترقب ما قد يأتي أو تمني حدوثه من أجل تغيير اللحظة وابتكار لحظة أخرى جديدة.
وجع الهمّ العام:
ويظل الهمّ العام حاضرا، حيث الواقع الذي يضغط بقضاياه وإشكالياته وأسئلته، في بعض النصوص القليلة ، وأول نص يقرأ الواقع هو " غبار " ص 30 ، فيما تتالى بعض النصوص الأخرى كما في نص:" كفى" / ص 61 وتستدعي " بيروت" / ص 86 و" لبنان" / ص 87 لكن تحولهما إلى إشارات وجدانية، حيث يصبح المكان شاهدا على تجربة حب أو ذكرى أو لقاء. وكما في نصوص :" غضب " / ص 120 و" قناع توبة" / ص 132 و" تواضع" / ص 133 تمثيلا. يصبح الواقع صورة صغيرة معبر عنها في إطار الصورة الكبيرة التي يدلنا إليها الديوان وهي صورة القصيدة المستلة من أشياء الواقع والعالم.
وإذا كانت الشاعرة – كما ذكرت سابقا- تلح على آلية التدويم والاستقصاء، فإن هذا ربما دون قصد جعلها تكرر بعض عناوين النصوص، فهي مثلا تكرر عنوان:" خمر" مرتين، وعنوان" حلم" ثلاث مرات، فيما تكرر مفردة:" البال" في عناوين كثيرة بالديوان كما في العناوين التالية: لهو البال، على بالي، البال، في البال، في البال، في البال،
وأتصور أن هذا لا يعطي تميزا للنص وفرادته، خاصة أن تكرار العنوان لا يعطي هوية ما للنص الشعري، فكل نص يحتاج أن يتفرد وأن يتسمى باسمه الخاص.
ويغلب الأداء السردي الشعري على عدد من النصوص عند إدال الحوراني، ولعل من ملامح النصوص الشعرية في قصيدة النثر اليوم استلهام الأفق السردي وتقنياته وذلك لإضفاء قدر من الترابط المعنوي بين جمل النص، فالسرد يعني سؤال: ماذا بعد؟ فيما يعني تراتب القراءة المتدرجة التي تُبنى على بعضها البعض بشكل مترابط، جملة تفضي إلى جملة حتى يكتمل المعنى من أول النص لآخره، بمعنى أن السرد يصبح مثل السلسلة التي تترابط فيها حلقات النص في وحدة واحدة، كما نجد في نص بعنوان:" الرحيل"
بعد الرحيل، انشغلت بغسل الغسيل
وأكواب الحديث
كنست بقايا الشعر
لملمت نمل الطريق
وجلست كلوحة اللوفر
فُتح الباب
لرياح ودخان السجائر
وبينهما فصل رضيع
نهضتْ من كسل
من عبق متمدد
أُعيد غسل الغسيل وأكواب الحديث. / ص 90
كما تكثر النصوص القصيرة والقصيرة جدا، النصوص البرقية الفلاشية التي تتواتر لقطاتها بشكل دلالي مشعّ ، يعطي قدرا من التنوع التعبيري، ومن انهمار الهواجس والأسئلة التي ترتقب فيها الذات الشاعرة قصيدتها وتصبو إلى تغيير العالم بالحلم والمجاز والحروف والصور.
431 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع