بديعة كشغري في "الأحرف التي هي أنا": البنية التنسيقية وشعرية الدلالة

                

ايلاف/عبدالله السمطي:أصدرت الشاعرة السعودية بديعة كشغري ديوانها الجديد :" الأحرف التي هي أنا"( دار النابغة، القاهرة 2016) وفي الخلفية الإدراكية لصدوره أسس أو مقدمات يمكن قراءتها لتشكل البنية التنسيقية للديوان – إذا صح التعبير – قمت برصدها في ثمانية أمور وتتمثل في:

العنوان، الغلاف الأمامي، الإهداء، المقدمة، مقدمة القصائد، تقسيم القصائد بحسب أحرف اسم الشاعرة، مواقيت الترتيب الزمني، الغلاف الخلفي، ويشكل العنوان قيمة سيمولوجية أصيلة في العمل الفني بوجه عام. إن العنوان سمة ساطعة للتعارف والتعريف. العنوان علامة وأيقونة ومسمى. وجه الإنسان هو عنوانه لو تحدثنا من وجهة بيولوجية عضوية، ولسانه هو عنوانه من وجهة صوتية، وقلبه هو عنوانه لو تحدثنا من وجهة رؤيوية. والروح هي التي تظلل كل هذه العناوين.
ويمكن أن نقسم العنوان إلى جملة من الصيغ:
-العنوان الهادئ العادي المكون من عبارات مألوفة.
-العنوان الصادم
-العنوان بحضور الشخصية المؤلفة.
-العنوان العام
-العنوان الناقص
-العنوان الكامل
هذه الصيغ الست، يمكن أن تشكل لنا إطارا عاما لعناوين متعددة، تحمل دلالات ثابتة أو متغيرة، فالعنوان الهادئ : هو عنوان مألوف لا يجذب الانتباه كثيرا لتكراره ومألوفيته، واعتياد القراء عليه مثل: الفرحة الجميلة، السعادة الغامرة، كفاح ونجاح، حالة حب .. إلخ هذه العناوين العادية التي كان لها حضورها حتى وقت قريب. لكنها لا تشكل اليوم اختيارا واعيا للكتاب والشعراء.
أما العنوان الصادم، فهو عنوان ضدي، مباغت، يصدم القارئ في قناعاته، ويكسر مألوفيته في تلقي العناوين، وغالبا ما يأتي ليعبر عن موضوعات صادمة بالتأكيد ربما تتناول الحياة العاطفية أو الجنس، أو عالم المرأة أو السياسة أو الفن، وفي الشعر يسعى الشاعر لأن يكون عنوانه صادما حين يتعلق الأمر بإيصاله رسالة شعرية صادمة، مثل عناوين نزار قباني مثلا: هوامش على دفتر النكسة، أو خبز وحشيش وقمر، والحب لا يقف على الضوء الأحمر، وأشهد أن لا امرأة إلا أنت. وغيرها من العناوين التي قد تنتهك مجالات سياسية أو مجالات مقدسة.
العنوان بحضور الشخصية المؤلفة، هو عنوان سيري على الأغلب، تحضر فيه الشخصية بضمائر الملكية أو بضمير المتكلم، ليشير إلى الشخصية مباشرة مثل : ( أنا) لعباس محمود العقاد، أو " كفاحي" لأودلف هتلر، أو عناوين مثل: رؤيتي، قلبي الذي يرى، أنا والأصدقاء، ملامح من سيرتي الذاتية.. إلخ . وينتمي عنوان الشاعرة بديعة كشغري إلى هذه النوعية من العناوين، وسنتأمل لاحقا دلالات عنوان ديوانها.
والعنوان العام، هو عنوان شامل يشير إلى مسائل عامة، يتفق على ملاحظتها الجميع، ولا تخص قضية شخصية، قدر ما تستهدف الرؤية العامة للقراء مثل عناوين: الوطن، الأرض، الحياة، الحب، الحرية، الأمل، لحظات كونية ، قيمة الوجود، عبقرية المكان، ومنها عناوين عن بلاد أو مدن أو وقائع تاريخية.
والعنوان الناقص هو عنوان رمزي غالبا يكتفي ربما بكلمة أو كلمتين أو جزء من جملة مثلا: السماء التي.../ الحقيقة التي... / قالت/ قالوا/ النهار الذي / يحدث هناك ... إلخ العناوين غير المكتملة.
والعنوان الكامل هو العنوان الذي يأتي مكتملا، دون نقصان في جملته، وافيا، ملخصا المضمون الذي يتحدث عنه، مثلا حياة طه حسين، أو أبو الطيب المتنبي حياته وشعره، أو في صالون العقاد كانت لنا أيام، أو حياة في الإدارة وغيرها من العناوين المكتملة.     
 
الأحرف التي هي أنا
كان في مقدور الشاعرة أن تختصر عنوانها إلى :" أنا حروفي، أو أنا وحروفي، أو أنا في حروفي" هذه العناوين دالة أيضا لما يحتويه الديوان. بيد أن الشاعرة آثرت أن تعطي عنوانها قيمة دلالية أرحب، بحضور ضميري : التكلم والغياب معا، والإشارة إلى " الأحرف" من دون ياء ملكية، لتفتح المجال أمام حروف اسمها لتمتزج بحروف أخرى.
ولا تكتملُ البنية التنسيقية للديوان من خلال هذه التوزيعة الحروفية لاسم الشاعرة التي تشكل فضاء القصائد، وهذه الحروفية تمثل مرتكزًا للأداء الجمالي للنصوص، وتشكل بنية التأسيس اللغوية التي تحفز الشاعرة لإبداع النص، بمعنى أن كل حرف من الحروف يعطي معطياته الدلالية عبر تشكيل الحقل الدلالي للنص، فالحروف المشكلة لاسم الشاعرة يشكل كل حرف منها قصيدة. نحن إذن حيال تسعة نصوص شعرية يتشكل فيها اسم الشاعرة :" ب د ي ع ة ك ش غ ر ي " مع استبعاد الياء الأخيرة في الاسم لعدم التكرار.
ويحمل كل نص عنوان الحرف : الباء ، الدال، الياء .. إلخ ولكن بشكل غير مباشر، فثمة تسمية أخرى لكل نص، ولكن يصبح الحرف هو المهيمن على تعبيرات النص ومحتوياته الصوتية والدلالية.
فقد يحمل النص عنوانا دالا يشير إلى رمزية الحرف نفسه باختيار مكان أو حدث أو زمان ضمن نطاق الحرف مثل قصيدة:" الربع الخالي" التي جاءت لتعبر عن حرف الراء، أو اختيار مدينة بيروت عبر حرف الباء. مثلا .
إن منظومة الحروف هنا تأتي ضمن البنية التنسيقية للنص/ الديوان. لتدل على أن ثمة قصدية لإيراد النصوص بهذا الشكل التراتبي، وكأن الحروف تشكل – بتراتبيتها وانتظامها – سيرة فنية تعبر عن " أنا" الشاعرة وتحولاتها المختلفة، وهناك إشارات في النصوص سوف نتوقف عندها تبدي بعض ملامح السيرة لدى الشاعرة مثل مكان الولادة، والزواج، والعمل، والسفر ...إلخ .
 
الباء نقطة البدء:
تستهل الشاعرة بديعة كشغري ديوانها بنص يحمل عنوان:" من بيادر سرها بوح " ص.ص 12-18 والنص مؤرخ ب :" جدة أبريل 2014" أي أنه كتب حديثا ليتأمل في سنوات الماضي وذكرياتها وليحدق أكثر في مواقف وأحداث وصور ومشاهد. وقبل كل نص تقدم الشاعرة لنصها بمقدمة نثرية تعمد فيها إلى تبيان ما ينطوي عليه النص من دلالات، كأن هذا النثر هو نص كاشف ومبين لمكامن النص الشعري، تقول الشاعرة في تقديمها للنص الأول:
" مع الباء بدءًا.. باغتتني النفس ب" سر" من " بيادر روح" كان يبعثرني بين " برد بيروت" و" بطاقة السفر المؤجل" : حكاية كانت هي البدء. " بحتُ فيها في غيهب الأشياء" بركانا تفجر في ارتعاشاتي بطيئًا" .. إنها " الباء" التي باءت إليه بسرها، عله يتبوأ عرش قافيتها ويتلو معها " بيان الباسقات" / ص 11
من الجلي هنا أن المقطع النثري أو الافتتاحية النثرية للقصيدة، كتبت من وجهة زمنية بعد الانتهاء من كتابة القصيدة نفسها، ذلك لأنها تتضمن عبارات من القصيدة، كما أنها – كمقدمة- تشيع نوعا من الإصاتة الحروفية التي يتعزز فيها حرف الباء بتجليه في كلمات محددة، لها رمزيتها، ولها دلالتها لدى الشاعرة . وتظل الباء هي البدء الذي تنطلق منه الشاعرة إلى تقديم سيرتها المكثفة وملامح مركزة منها، وهي بدء الديوان، وهي بدء البوح.
 
يبدأ النص بهذا المشهد:
بي بوحُ قلب
فوق ما تحمل الأعصابْ
عيناكَ
بدء تبعثري أنثى
وبرق خالبٌ
هو بامتداد براءتي
يغزو الفؤاد
بشارة
البهجةُ الكبرى
تطل من البراري . ص.ص. 12-13
 
استهلت الشاعرة النص بحالة رؤية/ رؤيا، لقد ضمت الرائييْن معا في عبارة شعرية مكثفة، جعلت منها محل الرؤيا :" القلب" يبوحُ، ومحل :" الرؤية" العينين، ترصدان وتريان " تبعثر الأنثى" ولادتها مبعثرة، لا موحدة، كأن هذه الكلمة القاسية تشكل موقفا من الحياة أو الواقع، أو تشير إلى هذه العذابات التي تكابدها الأنثى ضمن نطاق لا يعانق الحرية تماما.
إن الشاعرة تحرك القلب ليبوح، والبوح الوارد بعنوان الديوان يشير بجلاء لحرف الباء. اختارت الشاعرة من بين الكلمات التي تتضمن حرف الباء كلمة:" بوح" بما تنطوي عليه من معاني الإفضاء، والكشف، والكلام الصادق الشفاف، والبوح لا يكون إلا لمتلق واع، ولقارئ حصيف. الشاعرة لا تبوح بلسانها، لكنها تبوح بقلبها، كأنها تنسخ الرؤى التي يراها القلب وتقدمها للقارئ شعرًا ، في موازاة ما تراه العين من مواقف وأحداث وصور ومشاهد.
 
ويبرز النص في صورة جمالية تتبدى في جملة من الآليات:
1-    الاحتفاء بالجمل الشعرية القصيرة.
2-    تشكيل حقول دلالية تتمظهر بكلمات متضمنة حرف الباء على الأكثر، بحيث يتيحُ هذا مستويين من التعبير: الأول: إصاتة النص بحرف الباء، وهو حرف مجهور، شديد، شفوي، ضمن الحروف الأولى التي ننطق بها في المخرج الأخير من مخارج اللغة العربية وهو : الشفاه، والثاني: تحويل رنين الحرف إلى فعل إيقاعي موسيقي.
3-    التملك التصويري، بحيث تشير معظم الجمل والكلمات إلى " أنا" الشاعرة، هي المخاطِب، والمخاطَب في النص.
4-    منح القارئ أفقَ توقّعٍ دلاليٍّ نصّيٍّ ، بأن هذا النص يمثل اللبنة الأولى في سلسلة نصوص قادمة ستشكل من حروف اسم الشاعرة، وهو ما يمنح فضاء دلاليًّا للمتلقي باستيعاب ما يأتي، وهنا سيغيبُ عنصر المفاجأة الكتابية، ليصبح القارئ مشاركا في أجواء النصوص بشكل مباشر من دون مباغتات نصية.
    إن هذه الدلالات هي بمثابة بدء، بداية تفتح البوح وبداية رحلة الشاعرة مع سيرتها من جهة، ومع حروف اسمها من جهة ثانية، حيث تتلبس الحروف أبعادا رمزية وزمنية وجمالية ومعنوية، وهي بمقدار ما تعبر عن البوح والبيادر في أفقها المهادن

شعرية الدلالة:
تتعانق شعرية الدلالة لدى بديعة كشغري والأفق المتسامي دائما. إن حضور دالات متتالية في مشاهد القصائد تعبر عن العلو والتسامي أمر ملفت، لذا تحضر النجوم والأقمار والشموس، والمدارات، والكواكب بشكل تنوع فيه الشاعرة على دلالات التسامي. هذا الحضور لا يأتي سدى في القصيدة، كما قد درجت بعض الرؤى . بل إنه يأتي لافتراض أن ثمة حالة من مفارقة الواقع من جهة والارتحال إلى هناك، وأن ثمة حالة من البحث عن نموذج آخر، واقع مثالي تدرك فيه الروح قسماتها وقيمها الحقيقية .
إن البحث عن التسامي عن الأفق الترانسندنتالي الكوني ليس في مجرد ذكر الألفاظ، ولكن في استثمارها في تخليق صورة، وتشكيل عالم. الصورة بحد ذاتها هي عالم مصغر، والمشهد وصياغته هو بمثابة تخليق لأكوان مصغرة داخل القصيدة. هذه العوالم وهذه الأكوان تسكنها الروح، وتطل بها على عالم الواقع لتعبر عن صورتها الراقية، وعن شفافيتها وتطلعها لمثال أو قيمة أو نموذج.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

928 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع