أ.د. ضياء نافع:زرت بيت الكاتب الروسي الكبير ليف نيقولايفتش تولستوي بتاريخ 5/9/2014 مع بقية أعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد أدباء آسيا وأفريقيا , الذين وصلوا الى موسكو بدعوة من اتحاد ادباء روسيا لعقد جلسة خاصة لهذه المنظمة الأدبية العريقة .
لقد كان الجو رائقا ورائعا جدا وقضينا أكثـر من ساعتين في الباص الذي أقلٌنا من موسكو الى حدود مدينة تولا الروسية حيث يقع بيت تولستوي هذا ونحن نتحدث عنه وعن انطباعاتنا حول أدبه وآرائه الفلسفية والحياتية . كنا نسير وسط مناطق خضراء مدهشة الجمال و مليئة بالغابات الرائعة والقرى الروسية المتناثرة هنا وهناك وبيوتها الخشبية المتميزة ومساحاتها الشاسعة والأنهار والبحيرات الصغيرة المحيطة بها.
وعندما وصلنا الى تلك الضيعة التي عاش فيها تولستوي واسمها بالروسية – ( ياسنايا بوليانا ) , توقفنا قليلا عند مدخلها كي يجري مرافقنا الصديق أليغ بافيكين – مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد ادباء روسيا الاجراءات اللازمة لزيارة بيت تولستوي الذي تحول الآن الى متحف عالمي شهير يزوره الكثيرون من الروس والأجانب على مدى السنة (شاهدنا بين الزوار تلاميذ مدارس روسية ابتدائية صغار ومجاميع من العرسان مع اصحابهم الشباب والعديد من الروس و الاجانب ), وقد ( استغلٌينا ! ) تلك الدقائق القصيرة عند المدخل لشراء الهدايا التذكارية الرمزية من الدكاكين المتناثرة و المحال الصغيرة جدا المحيطة بالبيت من هدايا ترتبط بهذا المكان وسماته وخصوصا تلك الصور الصغيرة لتولستوي والتي يمكن لصقها بواسطة المغناطيس على ثٌلاجات المطبخ في بيوتنا وتمثل الكاتب الروسي الكبير بلحيته الطويلة البيضاء وهو يقف امام مدخل بيته , بل ان أحدنا اشترى عسلا طبيعيا وهو يقول انه ربما تكون احدى حفيدات تلك النحلة التي انتجت هذا العسل هي واحدة من تلك النحلات التي أطعمت تولستوي نفسه يوما – ما بالعسل , ورأينا شجرة تفاح كبيرة عند المدخل وكان التفاح الناضج ملقى على الارض حولها , وعندما استفسرنا لمن هذه الشجرة قالوا لنا انها لتولستوي ويمكن للجميع ان يأخذ منها كل ما يريد من التفاح , وهكذا بدأنا بأكل التفاح اللذيذ ونحن نقول شكرا لتولستوي الذي يقدم لنا التفاح عند مدخل بيته , وبعد الحصول على البطاقات المطلوبة لزيارة المتحف تم تقسيمنا الى مجموعتين , لان كل مجموعة لا يمكن ان تزيد عن عدة اشخاص يرافقهم دليل يشرح لهم كل ما يشاهدونه في ذلك البيت العتيد ويجيب عن كافة استفساراتهم حول ذلك , وكنت انا ضمن المجموعة الثانية , والتي يجب ان يتكلم الدليل باللغة الروسية امامها , وفوجئت بطلب الاخرين ان أترجم لهم الى العربية ما يقوله الدليل , فوافقت طبعا وبكل سرور خدمة لزملائي الرائعين من الأدباء العرب , وهكذا بدأت جولتنا في ضيعة تولستوي , وسط الاشجار التي زرعها بنفسه مع الفلاحين والممرات التي كان يسير فيها يوميا وبرك المياه الجميلة في اطرافها , وعندما اقتربنا من منزله والذي عاش به نحو الستين سنة , ادخلونا في غرفة خاصة عند المدخل حيث ارتدينا فوق احذيتنا اغطية من قماش كي نستطيع السير في غرف البيت ذاك دون ان ننزع احذيتنا كما لو اننا ندخل في مكان مقدس ( وبعد خروجنا من البيت سأل البعض منٌا – هل سوف تغسلونها وتعيدون استخدامها ؟ فقالوا كلا وتستطيعون أخذها معكم للذكرى , وهذا ما تم فعلا . ), وتوقفنا في مدخل البيت المليء بالكتب المتنوعة والتي تم وضعها بترتيب جميل في مكتبات خاصة وقالت لنا الفتاة الروسية المرافقة لنا ان تولستوي كان يقرأ يوميا بمعدل خمس ساعات وكان غالبا ما يمسك قلم الرصاص بيده عند القراءة ليؤشر في الكتاب تلك المواقع التي يهتم بها , واخبرتنا ان المكتبة تحتوي على كتب بـ 15 لغة كان يعرفها , وقد تناقشنا حول معرفته للغة العربية , اذ انها قالت انه يعرفها لأنه درسها في قسم اللغة التركية والعربية في جامعة قازان ,ولكن الوقائع تشير الى انه ترك هذا القسم بعد سنة واحدة فقط نتيجة فشله في الامتحان , وبالتالي انتقل الى دراسة القانون في تلك الجامعة نفسها, ولهذا لا يمكن القول انه يتقن اللغة العربية , ولكنه يعرف بعض اولياتها البسيطة جدا ليس الا . لقد كان تولستوي – مثل كل النبلاء الروس في زمانهم – يتقن اللغات الأوروبية منذ طفولته مثل الفرنسية والالمانية والانكليزية , وكان يقرأ نتاجات ادباء تلك اللغات بلغاتهم الاصلية طبعا .
صعدنا بعد ذلك الى الطابق الثاني من البيت , وعندما انتهينا من الصعود على السلم الخشبي الجميل شاهدنا ساعة جدارية ضخمة على يسار السلم لا زالت تعمل بدقة وسمعنا دقاتها , وتبين ان عمر هذه الساعة 250 سنة , وانها لم تتوقف طوال هذه الفترة , ثم دخلنا الى الغرفة الرئيسية لتولستوي وعائلته , تلك الغرفة التي غالبا ما جرت فيها نقاشات تولستوي الفلسفية المشهورة حول الملكية الشخصية وضرورة التخلص منها واعتراضات زوجته بشأن ذلك , وشاهدنا تلك الكراسي التاريخية المحيطة بمائدة الطعام والسماور واللوحات الزيتية الرائعة المعلقة على الجدران و التي رسمها كبار الرسامين الروس له ولزوجته وبناته , وتأملنا البيانو الذي غالبا ما كان تولستوي يعزف عليه لساعات طوال وكذلك ضيوفه من كبار الفنانين , ثم دخلنا الى غرفة عمله وشاهدنا الأماكن التي كتب بها نتاجاته الادبية الخالدة , وكذلك شاهدنا مكان عمل زوجته التي أعادت كتابة مسودات روايته المشهورة – الحرب والسلم سبع مرات , بل يقال انها كانت تكتب بعض نتاجاته عشرين مرة , رغم انها ولدت 13 طفلا منه , عاش منهم 8 ولا زال يعيش لحد الان احفاد احفاده في روسيا وبقية انحاء العالم , ثم واصلنا جولتنا في هذا البيت التاريخي الفريد ووصلنا الى تلك الغرفة التي سجي فيها جثمان تولستوي بعد قصة هروبه المشهورة من البيت ووفاته في احدى محطات القطار, حيث جرى توديعه لمدة خمس ساعات باكملها , ثم تم دفنه في تلك الضيعة نفسها على وفق الاسطورة الخيالية التي حكاها شقيق تولستوي مرة , وهي انه يوجد هناك الغصن الاخضر الذي سيمنح للانسان الخلود .ثم انتقلنا الى بناية المدرسة التي اسسها تولستوي لابناء الفلاحين , وتحدثوا لنا عن نظامها الرائع والحرية التي كان يتمتع بها تلاميذها , اذ تبين ان التلاميذ كانوا يتمتعون بحرية الدخول والخروج متى يريدون ويستطيعون الجلوس حسب رغبتهم ولم يكن في هذه المدرسة مبدأ الواجبات البيتية وكان عقاب التلاميذ ممنوعا منعا باتا الى آخر هذه التعليمات التي وضعها تولستوي بنفسه بعد دراسة عميقة لنظم المدارس في روسيا وفي الدول الغربية الأوروبية التي زارها . ان موضوع تولستوي ونظام التعليم – مسألة جديرة بالدراسة لحد الان , وخصوصا بالنسبة لعالمنا العربي المعاصر. وتوجهنا بعد ذلك لزيارة القبر في تلك الاجواء الطبيعية الساحرة الجمال , وتوقفنا عند قبر تولستوي المتفرد والوحيد والراقد بهدوء مطلق تحت ظلال شجرة شامخة عند منحدر, وكانت تغطيه الاعشاب ليس الا , ولا يوجد عليه اي شيء , ولا حتى اسمه . كان المنظر مهيبا جدا جدا , اذ يحس الانسان هنا بعظمة الطبيعة وجبروتها وبعظمة وتفرد تولستوي وهو يرقد رقدته الابدية في احضانها . لقد قرأت على روحه سورة الفاتحة بصمت وخشوع عندما وقفت عند قبره هذا وسط هذه الاجواء الفريدة والمدهشة حقا.
581 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع