رغم أن السيد المسيح عليه السلام لم يولد في العراق، فإن المسيحية تمركزت فيه منذ أوائل نشوئها وأصبحت جزء من التراث العراقي وغدا المسيحيون شريحة مهمة من المجتمع العراقي.
رغم كل ما يقع في العراق الآن من حوادث طائفية دامية، فان ايماني بعلمانية العراقيين و تسامحهم الديني لم يتنزعزع . فمما لفت نظري حيثما سافرت في ديار الاسلام مدى تميز العراقيين بالتسامح و التعددية الدينية التي عرفتها واعجبت بها في تلك الايام الجميلة من ايام الخير. ما الذي اعطانا هذه النفسية و الذهنية المتسامحة في شؤون الدين في الايام الخوالي؟
اول ما علينا ن نتذكره هو ان بغداد ظلت عاصمة الامبراطورية الاسلامية لنحو خمسة قرون. ورغم تمزق الامبراطورية ، فأن المسلمين ظلوا ينظرون اليها كعاصمة الخلافة. و على اي عاصمة امبراطورية ، كلندن و باريس ، ان تحتضن ما في جعبتها من قوميات و طوائف ، والا تشرذمت الامبراطورية و بطلت. وكعاصمة للفكر تنوعت المذاهب والاجتهادات فيها. فضلا عن كل ذلك، كان العراق يعج بالذميين من يهود و نصارى و صابئة قبل مجيء اسلام.
و اصبح على المسلمين ان يتعايشوا معهم ولاسيما و القرآن الكريم يعترف بهم و بمكانتهم كأهل الكتاب.
و وجد المسلمون انفسهم في حاجة اليهم في الادارة و الكتابة و الترجمة و الصناعة و الحرف، الخ. تعاظم هذه العمق الحضاري المتسامح عندنا في العصر الحديث بأنتشار الحركات الماركسية واليسارية و العلمانية عموما. كثيرا ما نقف مشدوهين و حائرين عندما نسمع عما جرى في لبنان و مصر و اليمن من تقاتل بين الاديان. كنت اقول باستمرار لن يحدث مثل ذلك في العراق.
و كانت خيبتي كبيرة عندما سمعت ببعض ما جرى هناك. و لابد ان يعود العراق الى سابق عهده و حرياته ، عاجلا ام آجلا.
فوجئت بما سمعته عن الفتاوى التي صدرت من بعض علماء الدين مؤخرا ، وفي هذه الفترة التي توترت فيها العلاقات بين المسلمين و المسيحيين في الشرق الاوسط عموما ، تحريم اشتراك المسلمين بأعياد الكرسمس و احتفالاتها و تهنئة المسيحيين فيها و ارسال المعايدات اليهم و نحو ذلك.
يظهر ان هؤلاء الافاضل قد نسوا ما جاء في القرآن الكريم من اعظم صورة ادبية احتفالية لمولد السيد المسيح عليه السلام.
"فأرسلنا لها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت اني اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت انى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم اك بغيا. قال كذلك قال ربك هو علي هين و لنجعله آية للناس و رحمة منا و كان امرا مقضيا. فحملته فانتبذت به مكانا قصيا.
ويمضي القرآن الكريم في وصف المخاض والولادة و ضجة القوم و اعتراضهم ثم جواب المسيح الصغير عليهم، أني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا . و جعلني مباركا اين ما كنت و اوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا . و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا. و سلام علي يوم ولدت و يوم اموت و يوم ابعث حيا. بهذه الكلمات البليغة و الايقاع المؤثر يحتفل القرآن الكريم في سورة مريم بميلاد السيد المسيح عليه السلام.
وعيد الميلاد او ما يعرف عالميا بيوم الكرسمس هو مجرد احتفال بذلك المولد. و بالطبع نسى الكثيرون منا ، او تناسوا ، كل ما خلفه لنا السلف من تجارب المسلمين في الاشتراك بهذه الاحتفالات و مشاركة اخوانهم المسيحيين فيها. و كان منها ما اورده محمد سعيد الطريحي في كتابه الموثق و الغني بالمعلومات " الديارات و الامكنة النصرانية في الكوفة و ضواحيها".
يذكر من ذلك ان المسلمين كانوا يشاركون في اعياد النصارى ، فبالأضافة ليوم الميلاد كان هناك يوم عيد الصليب الذي يصادف في موسم الربيع و اتخذوه كيوم عطلة . و كذلك عيد الشعانين وقد اعتاد المسلمون على المشاركة في كل هذه الاحتفالات مع النصارى . وقد اثنى المؤرخون عليها و امعنوا في وصفها و وصف حفلاتها و مواكبها و كيف كان المسيحيون يحملون الصليب و يمرون به في الطرقات و الناس يتفرجون عليه ، دون اي ارهاق او اعتراض. ولم يتردد الشعراء في وصف كل هذه الاحتفالات باسهاب و تسجيلها في قصائدهم ، كما فعل الشاعر الثرواني:
خرجنا من شعانين النصارى و شيعنا صليب الجاثليق
فلم ار منظرا احلى بعيني من المتقينات على الطريق
حملنا الخوص و الزيتون حتى بلغن به الى دير الحريق
941 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع