شفق نيوز/ بشرفته المطلة على نهر دجلة في كرادة مريم بجانب الكرخ من بغداد، ما زال ذلك المنزل القديم والمكتوب على جدرانه "انتبه آيل للسقوط"، شاهداً على تاريخ طويل مر على ذلك الشارع الشهير وسط العاصمة.
تنظر إليه من طابقه الأول فتراه متهدماً ولكن يبدو للمارة الأكثر جمالاً من بين البيوت الموجودة بجواره.
البيت البغدادي الذي سكنته مؤلفة الروايات البوليسية الشهيرة "أجاثا كريستي" كان بمثابة محطة استراحة لها ولزوجها بعد عناء رحلات التنقيب الأثرية في شمال وجنوب العراق.
يوضح مدير عام دائرة التراث العامة في وزارة الثقافة، اياد كاظم، في تصريح خاص لوكالة شفق نيوز، قائلاً إن "البيت الذي كانت تقطنه أجاثا كريستي يعود لملكية خاصة، ووفق قانون 55 لسنة 2002 لا يجوز التصرف بالملكيات الخاصة، لذا لا يمكن صرف أموال لصيانة البيت لعدم وجود تبويب قانوني لذلك".
ويضيف: "أما بخصوص استملاك البيت الذي كانت تسكنه كريستي، فقد عرضنا على صاحب الملك أكثر من مرة بيع العقار، لكنه كان يرفض العرض، ويتذرع بأنه هو من سيتولى صيانته وتأهيله".
ويشير كاظم، إلى أن "التواصل مع صاحب العقار مستمر، وآخر تواصل معه كان قبل شهر من خلال مكتب رئيس الوزراء، لكنه يصر على رغبته بعدم بيع البيت والقيام بتأهيله بنفسه بالتنسيق مع منظمات دولية".
وعُرفت الكاتبة الإنكليزية أجاثا كريستي برواياتها البوليسية التي بلغت 66 رواية و14 مجموعة قصصية قصيرة، وتدور معظم أحداث رواياتها حول الجرائم والمحققين، واتسمت قصصها ببعد تشويقي ملفت.
وكتبت كريستي أطول مسرحية في العالم، بعنوان "لغز الجريمة مصيدة الفئران"، التي عُرضت على مسرح ويست إند عام 1952، ولقبت كريستي بـ"ملكة الجريمة".
وأدرجت موسوعة غينيس للأرقام القياسية كريستي، كأكثر كاتبة روائية مبيعاً في جميع الأوقات، إذ بيعت رواياتها بأكثر من ملياري نسخة.
وخلال إقامتها في بغداد سكنت داراً تركية تركت بصماتها على مخيلة الكاتبة، إلا أن تقادم الزمن وعدم الاهتمام بهذا البيت، أسفر عن تآكل وتصدع أجزاء كبيرة منه، فيما تهدمت أجزاء من السطح أيضاً، وأصبح يمثل خطراً على المارة، وكتبت على جدرانه عبارة (انتبه البيت آيل للسقوط) كتحذير للمارة.
وتقول الناشطة ذكرى سرسم، التي تسكن جوار المنزل الذي كانت تشغله أجاثا كريستي، إن "هذا المنزل مسجل لدى دائرة الآثار، وأن مالكه يخطط لإعادة ترميمه، ويرفض تدخل الجهات المعنية الرسمية في موضوع صيانته وإعادة تأهيله".
وتؤكد لوكالة شفق نيوز، أن "الطابق العلوي من المنزل مسقوف بالخشب، وأن بعض الأجزاء تعرضت للتلف والتساقط، حتى بات يمثل خطراً على المارة والمنازل المجاورة له".
ويلفت الباحث الآثري مهدي البديري، إلى أن "أجاثا كريستي، ولدت عام 1890 وتوفيت عام 1976 وهي كاتبة إنكليزية اشتهرت بكتابة الروايات البوليسية وألفت روايات رومانسية قصيرة، وتعد من أعظم مؤلفي روايات الجريمة في التاريخ، وترجمت أعمالها إلى أكثر من 103 لغات".
ويضيف في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن "كريستي سافرت إلى الشرق والتقت بزوجها الثاني عالم الآثار ماكس مالون وكانت معه في سوريا والعراق، وانظمت إلى بعثة التنقيب البريطانية في نينوى".
ويشير البديري، إلى أن "بيت المؤلفة الإنكليزية في بغداد، كان المكان الأفضل لكتابة رواياتها، وقد الهمتها التأملات في هذا البيت أفكاراً للعديد من الروايات التي خطتها بحنكة".
ودفع الطابع الأثري والتحفة المعمارية التي كان يمثلها منزل كريستي، العديد من الكتاب والمثقفين إلى زيارته والكتابة عنه.
ويصف الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، البيت بأنه من أجمل بيوت العهد العثماني.
وذكر في كتابه "شارع الأميرات" بأن ساحة بيت أجاثا كريستي محفوفة بالأشجار وسط بناء من طابقين، يصعد منها إلى الأعلى بدرج خشبي خارجي يؤدي إلى شرفة ضيقة طويلة تمتد مع الواجهة الداخلية.
بدوره، يؤكد منقب الآثار عامر جنيد، في حديث لوكالة شفق نيوز، أن "البيت كان في عشرينيات القرن الماضي يعود للملك علي بن حسين الهاشمي (1879-1935)، شقيق الملك فيصل الأول".
ويضيف، أن "الكاتبة وصفت المنزل في روايتها (موعد في بغداد) وأكدت على أنه بيت الملك".
أما الأكاديمي صباح الناصري، المقيم في فرنسا، فقد أوضح في تدوينه له تابعتها وكالة شفق نيوز، أن أجاثا كريستي تحدثت عن دارها البغدادية في نهاية سيرتها الذاتية خلال سردها لأحداث عام 1948.
واضاف، أن "المؤلفة الإنكليزية كانت معجبة للغاية بذلك المنزل التراثي إلى حد أنها كانت ترفض السكن في المنازل الحديثة التي أطلقت عليها كلمة (صناديق)".
ويتابع، أن "أجواء بغداد وأشجار النخيل والهواء المنعش الذي يلامس نهر دجلة جعلت الكاتبة الراحلة تقضي أسعد الأوقات في البيت البغدادي".
وكانت المؤلفة أجاثا كريستي، خصت في نهاية كتابة سيرتها منزلها البغدادي الذي ترك أثراً عميقاً في نفسها، بالقول "كانت لنا داراً تركية قديمة في الصوب الغربي لدجلة، وكان الناس يتعجبون من غرابة ذوقنا ومنّ محبتنا لها، ومن رفضنا للسكن في واحدة مـن هذه الصناديق الحديثة، ولكن دارنا التركية كانت مبهجة، منعشة البرودة بحوشها ونخلاتها التي ترتفع ويمس سعفها أطراف الشرفة".
وتتابع "وكان خلف دارنا غابات نخيل ترويها السواقي، وصرافي بالغة الصغر صنعت من صفائح قصدير، يلعب حوّلها أطفال بمرح وسعادة. وكانت النساء يدخلنها ويخرجن منها وينزلن إلى النهر لغسل صحونهن وقدورهن".
أما مالك البيت الحالي همام القره غولي، فيقول، إن "هذا البيت سكنه العديد من الناس ومنهم أجاثا كريستي حيث سكنته عام 1948، بالإضافة إلى الأمير علي شقيق الملك فيصل الأول".
ويوضح في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن "البيت خضع لعمليات بيع وشراء متعاقبة، وأنه اشتراه منذ ثلاث سنوات وينوي ترميمه بعد أن اتفق على ذلك مؤخراً مع السفارة البريطانية في بغداد".
وهناك العديد من المواقع والبيوت الأثرية المملوكة لأشخاص ما تزال طرق امتلاكهم لها مجهولة ولا تُعرف الآلية التي يتم من خلالها بيع وشراء تلك العقارات القديمة، بينما تقف المؤسسات المعنية بالتراث عاجزة عن إعمارها بسبب القوانين التي لا تسمح بالتصرف بالأملاك الخاصة، ما يعني ضرورة إيجاد تشريعات مناسبة تتيح إظهار المواقع التراثية الخاصة بمظهر يعكس أصالتها البغدادية ويجعلها مفتوحة أمام الزوار للتعرف على معالمها وأسرارها الكامنة.
694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع