كاتبة عاشت بعيدا عن الصخب
القاصة العراقية الراحلة لم تحاول أن تلفت الأنظار أو تثير صخبا أدبيا، وكانت قصصها المرتبطة بالمرأة تنطوي على سخرية خفية.
العرب/عواد علي:ربما لو كان لنا أن نميّز فترة أدبية عربية غاية في الانفتاح والحركية والفاعلية سنقرّ بأنها فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، التي شهدت خاصة بين بيروت والقاهرة وبغداد، حراكا أدبيا استثنائيا تميّز بمحاولات حثيثة للتجديد، وخاصة بروز أصوات نسائية غاية في الأهمية. مجتمع الأدباء شهد حضورا نسويا مميّزا، لكن ذلك لم يخل من مشاحنات ونضالات خاضتها المرأة الكاتبة لفرض صوتها في بيئة ذكورية بامتياز، ومن تلك التجارب تجربة القاصة العراقية ديزي الأمير.
كانت ديزي الأمير من أبرز أسماء جيل الستينات في القصة العراقية، يحمل صوتها الأنثوي، بنبرته الخافتة، قلقا إنسانيا عميقا وملتبسا ومسحورا، ينفتح على وجع الإنسان وهو يواجه أزمة وجوده وجسده واغترابه وحريته.
ديزي الأمير، التي رحلت قبل أيام، في هيوستن بالولايات المتحدة الأميركية، عن عمر 83 عاما، صورة شاحبة للمثقف الذي كان ينحاز إلى ذاته بعمق وببساطة الذات التي هرسها الخوف ورعب الآخرين، بدءا من سلطة المكان وانتهاء بسلطة الاغتراب التي صنعت لها منافي وغابات من الحرائق الداخلية.
بين العراق وبيروت
ولدت ديزي الأمير في البصرة لأب عراقي ينحدر من الموصل، هو الطبيب ميرزا الأمير، وأم لبنانية من ضهور الشوير، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة البتاوين والثانوي في المدرسة المركزية للبنات ببغداد.
بعد حصولها على شهادة البكالوريوس من دار المعلمين العالية، عام 1955، سافرت إلى بريطانيا للدراسة في جامعة كامبريدج، وكتابة أطروحتها عن الأدب العربي، لكنّ والدها رفض دفع الرسوم الدراسية، إثر حصولها على الدبلوم في اللغة الإنكليزية، فعادت إلى العراق، وعملت مدرسة في إحدى المدارس الثانوية للبنات، ثم في دار المعلمات بالبصرة، ثم انتقلت إلى بيروت وعملت سكرتيرة للسفير العراقي من عام 1964 حتى عام 1969، رُقّيت بعدها إلى وظيفة مساعد الملحق الصحافي في السفارة، فمديرة للمركز الثقافي العراقي في بيروت عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وبقيت تمارس عملها في المركز حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عام 1982، فعادت إلى العراق.
كانت الأمير في أثناء إقامتها ببيروت قد ارتبطت بعلاقة مع الشاعر خليل حاوي، وأعلنا خطوبتهما، لكن الخطوبة لم تستمر طويلا، فحدثت القطيعة بينهما لأسباب عديدة منها مزاج حاوي المتقلب، وطباعه التي لا تعرف الاستقرار، فقد كان ثائرا، ناقما، متوترا، شديد التشاؤم، على حافة الهاوية دائما، وقيل إنه كان يعاني من الصرع، وأنهى حياته منتحرا عندما بلغ الاجتياح الإسرائيلي العاصمة بيروت، لكن انتحاره بقي لغزا.
لم تكن ديزي الأمير تفكر، في بداية ولعها بالأدب، في أنها ستصبح ذات يوم كاتبة قصة معروفة، حتى وهي تخط معاناتها على الورق لتتحرّر مما تشعر به من ضغط ليس أقله افتقادها إلى دفء وحنان الأم التي رحلت باكرا، أو اضطهاد زوجة أبيها لها ومحاولاتها الدائمة الإساءة إليها، ومن ثم مواجهتها الحياة بكل تحدياتها. لكن موهبتها الأدبية تفتّحت في مناخ بيروت الثقافي، وسرعان ما أصبحت كاتبة قصة. ومع صدور مجموعتها القصصية الأولى “البلد البعيد الذي تحب” فرضت وجودها واحترامها في وسط أدبي بيروتي كان من أبرز نجومه حينذاك نزار قباني وغسان كنفاني وغيرهما من رموز الشعر والقصة. وكانت تقول عن بيروت، التي رعت موهبتها، وعرّفتها على عدد كبير من الأدباء والأصدقاء العرب، “إنها المدينة التي تضيّعك في البحث عن سر قلقها واطمئنانها”.
واصلت الأمير، بعد نشر مجموعتها الأولى، كتابة القصة بإخلاص شديد، فأصدرت 7 مجاميع قصصية خلال الفترة من 1969 إلى 1996، منها “ثم تعود الموجة”، “البيت العربي السعيد”، “في دوامة الحب والكراهية”، و”جراحة لتجميل الزمن”.
الكتابة بلا صخب
قال الشاعر سعيد عقل في الستينات عن القاصة العراقية “كلمات ديزي الأمير كصوت فيروز، شيء من الغيب يُحَب. ساحرة الهنيهات السعيدات، وما همّ أنهن أحيانا مثقلات بالكآبة. من أين تجيء بهذا البث الناعم الفني في عصر القصة المواء والقراء الذين يحبون الصدم والقضم؟”.
ديزي الأمير لم تكن تفكر أنها ستصبح ذات يوم كاتبة قصة معروفة ببصمة خاصة
وكتبت الناقدة فاطمة المحسن عما يميّز نصها القصصي عن نصوص غيرها من كاتبات القصة العربيات أنه “يختلف عن نصوص النساء في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، فهي لم تحاول أن تلفت الأنظار أو تثير صخبا أدبيا، وكانت بعض قصصها المرتبطة بالمرأة وقضاياها، تنطوي على سخرية خفية من نمطين من النساء: المستعرضات أجسادهن وعواطفهن، والمنشغلات بأمور السياسة. كتبت زمانها الذي نأت عن أوهامه، وربما سبقته في التخلص من كليشيهات الموجات الأدبية. تركت بصماتها الرقيقة وصوت عزلتها ووحدتها يرنان بعيدا، في كواليس المسرح الأدبي لا في واجهاته البراقة”.
ورأى الناقد اللبناني عفيف فرّاج أن الرائع في قصص ديزي الأمير “يبرز برائحة فنية في رسم عالم الأحاسيس الداخلية للشخصية، وحساسية شديدة الرقة، تلتقط أبسط موجات الشعور المضطرب، وتلتقط الجرس الخافت لحزن لا يعلن عن نفسه إلاّ للأذن التي تألف الهمس. إننا نسمع في قصصها همس السواقي وليس هدير الشلالات، ومفارقاتها الدرامية تحدث الرعشة وليس الارتعاش العنيف”.
ولم يجد فراج في دراساته عن “الأدب النسائي” إلاّ أن يضع قصص الأمير في السياق الذي يلتقط من خلال قراءته هواجس خافتة للمرأة التي تنصت إلى صوتها الإنساني العميق، الصوت الذي يتحول إلى مجسّ لاكتشاف غموض العالم الذي يحوطها بكل حروبه وعنفه وكراهيته، مثلما يضع المرأة ذاتها بوصفها رائية استثنائية في سياق سوسيو-إنساني تتلذذ بكشوفاتها ومرائيها للعالم الذي يشاطرها لعبة الانتظار، الانتظار الذي يتركها مشبوبة بالسنوات المهاجرة، التي تترك روائحها عند العتبات دائما.
أما ديزي الأمير نفسها، فقد وصفت قصصها وحياتها بقولها “تتميز قصصي عن سواها من الكتابات النسائية، بطريقتي التي لا تحوي غرابة ولا تثير العجب. كل شيء في حياتي وكتابتي طبيعي، لم أكتب كي أجعل الرجال يغرمون بي، وربما كنت محافظة بسبب تربيتي العراقية، لا أسير مع رجل وحدي إلا وأتلفت، أمر مضحك أليس كذلك؟”.
1312 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع