تحقيق وتصوير/ عمر محمود عبد الله:كثيرة هي الأيام التي مررت بها وسط سوق الحيوانات والطيور في أربيل دون التفكير بالبحث والاستقصاء في تفاصيله إلى أن أخبرني أحد الأصدقاء عن أمور غريبة تحدث فيه ولم أسمع بها من قبل، مما حرك الفضول الصحفي بداخلي لاستكشاف خفايا هذا العالم، الذي تدخله يومياً مختلف الأعمار و الطبقات الاجتماعية ،
فهذا الموظف والكاسب وذاك الشاعر والأديب الذي تلهمه الطيور الأليفة وتدفعه لكتابة أجمل السطور، ويوجد أيضا التاجر والصبي الذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات يتبادلون أطراف الحديث عن نوعية الحيوانات والطيور ومواطنها ومواقيت هجرتها وخارطة انتشارها، وعن أمور أخرى مثل كيفية تكاثرها ومدى ندرتها، وبالمختصر المفيد قررت الدخول ،وإليكم القصة .
القبج المقاتل
يقع سوق الطيور في حي سيداوه بالقرب من قلعة أربيل الواقعة في مركز المحافظة وبإمكان الزائر ان يصل إليه باستخدام وسائط النقل العمومية وتحديداً خط (بازار _ عنكاوه) الذي يمر في منتصف السوق المكون من عشرات المحال والبسطيات المنتشرة على جانبي الشارع الرئيسي.
عند مدخل السوق تجد تجمعاً كبيراً للزبائن حول احد الباعة الذين يعرضون احد أصناف الطيور في قفص ليبدأ المزاد عليها وتستمع إلى أرقام تبدأ من مئة دولار وتصل الى ألف دولار لطائر القبج الذي حدثني عنه احمد عزيز وهو احد المشاركين في المزاد والذي انتهى ببيع الطير الى احد الزبائن حيث بدت ملامح السعادة واضحة على وجهه للفوز بهذا الطائر.
ويقول عزيز : ان طائر القبج او (كه و) باللغة الكردية هو من الطيور التي تستوطن منطقة كردستان العراق وصولاً الى تركيا حيث يعيش في الجبال العالية وان سبب سعره المرتفع هو استخدامه في نزالات المصارعة لهذه الطيور، وهي سباقات تشبه نزالات الديكة(الهراتي) وغيرها من الحيوانات وتحظى بشعبية كبيرة في كردستان حيث دعانا عزيز الى مشاهدة إحدى هذه النزالات التي تقام فقط في يوم الجمعة وفي مقهى مخصص لهذا النوع من الرياضة او الهواية .
خبير السوق
وعندما تسأل عن خبراء هذا النوع من الطيور يشير لك اغلب باعة السوق الى كاكه عبدالواحد شمس الدين الذي يفترش مكاناً متميزاً من السوق ويعرض طيور القبج في أقفاص جماعية ومنفردة ويستقبلك بتحية جميلة ولغة عربية قوية ،وأسرار لايعرفها الكثيرون عن هواية اقتناء ومصارعة القبج حيث يخبرنا بأن نوع (قره جوغ) هو الأفضل والأحسن في حلبات الصراع ويأتي بعده النوعيات التي يتم اصطيادها في جبل سفين وهي أقوى واشد من النوعيات الإيرانية والتركية والروسية وان أسعارها تحدد بحجم الإمكانات القتالية التي تمتلكها الطيور والتي قد يصل سعر النوع الممتاز منها الى 2000 دولار للطير الواحد في حين لا يتعدى سعر الأنواع الاعتيادية الخمسة وثلاثين ألف دينار.
جرس البداية
قبل ان يدق جرس الجولة الأولى من صراع القبج يوضح لنا كاكه عبدالواحد ان المقهى الواقع بالقرب من كراج الشمال في أربيل هو الأشهر في المدينة على مستوى صراع القبج حيث تبدأ النزالات منذ الساعات الأولى ليوم الجمعة وتستمر لحين انتهاء آخر الراغبين بمصارعة طيورهم، حيث تتجمع أعداد كبيرة من المشاهدين لمتابعة هذا الصراع المختلف نوعاً ما عن صراع الديكة الدامي ويزداد الحماس مع صيحات وهتافات الجماهير وينتهي النزال بانسحاب وهروب احد الطيور وبقاء الفائز ثابتاً وسط الحلبة بثقة تنعكس فخراً وفرحاً على صاحبه .
ويجذب هذا النوع من السباقات فئات عمرية وثقافية مختلفة يرون فيه احد الألعاب التراثية التي بقيت تقاوم حتى في زمن الثورة الرقمية ،في حين تجد هناك من الشباب من يفضل متابعة سباق القبج على مشاهدة مباريات الكلاسيكو بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة الأكثر شهرة في العالم ومن هؤلاء كارزان إسماعيل الذي يداوم بشكل منتظم على حضور سباقات القبج في أربيل والسليمانية ويوضح بان الصراع هو جزء رئيسي في حياة طيور القبج في البرية حيث يتصارع الذكران دون هوادة حتى ينسحب المهزوم ذليلاً من المعركة فيما تذهب الأنثى مع الذكر المنتصر .
ويؤكد إسماعيل ان البعض يعتقد ان جمهور صراع القبج هم من كبار السن فقط وهو أمر صحيح في الماضي ولكن الآن يمكنك ان تلاحظ بأن الشباب لهم حضور واسع حول حلبة السباق وفي سوق بيع هذا النوع من الطيور سواء كان في أربيل او السليمانية ، موضحاً بان هذه السباقات لاتقتصر على العراق فقط بل هناك مثيلاتها في المناطق الكردية داخل إيران وتركيا .
عشاق الحرية
وهم اناس يرتادون السوق حيث تعرض حرية طائر الزرزور للبيع مقابل مبلغ بسيط يشترون به احد هذه الطيور ويطلقون سراحه ويمنحوه سعادة العودة الى أحضان الطبيعة وينتشون بفرحة الإسهام في منح الحرية لهذه المخلوقات.
والظاهرة ليست قديمة في المدينة وتعود لبضعة سنوات خلت حيث انتشرت هذه المهنة التي تتكون من حلقتين تتمثل الأولى بالصيادين الذين يبيعون بضاعتهم الى الحلقة الثانية وهم باعة المفرد والذين يضعون مئات الطيور في أقفاص كبيرة محمولة على عربات ويتنقلون بها في العديد من مناطق أربيل وانطلاقاً من سوق الطيور ويفضلون منطقة القلعة وسط المدينة والشوارع المحيطة بها حيث تشهد هذه الأماكن حركة كثيفة في اغلب ساعات اليوم ما يمنحهم زبائن كثر وأرباحا مالية اكبر.
إطلاق سراح الزرازير
ويبدو المشهد غريباً للوهلة الأولى للذين لم يرونه من قبل فهذا البائع يدفع عربته بطيئاً وسرعان ما يتجمع حوله الناس وتختلط أصواتهم بضوضاء الطيور ويبدأ المشترون باستلام طيورهم وإطلاق سراحها وأحيانا يقوم البائع بالمهمة نيابة عنهم حيث يقوم بإطلاق الطيور وحسابها بصوت مرتفع حتى يتأكد الزبون انه أفرج عن عدد مساوي للمبلغ الذي دفعه .
ويقول عمران لطيف الذي كان يهم بإطلاق سراح اثنين من الزرازير انه دأب على هذه العادة منذ فترة طويلة ويقوم بها كلما جاء من بيته في قضاء سوران الى مركز مدينة أربيل حيث يوجد بائعو الزرازير، مبيناً ان حبه للطبيعة وللطيور يدفعه للقيام بهذا العمل باستمرار .
ويشدد لطيف على ان هذه الطيور خلقها المولى من اجل ان تحيا بحرية وليس لتسجن خلف قضبان مصطنعه والواجب الإنساني وحب الحرية والانعتاق من القيود تجعلني أسهم في إطلاق سراح هذه الكائنات واعتقد ان 500 او 1000 دينار هو مبلغ زهيد يدفع ثمناً لحرية لاتقدر بأي سعر بشري .
صيد بالجملة
وبالعودة الى مصدر الطيور وهم الصيادون حيث يؤكد احد أقدم رواد سوق الحيوانات في أربيل وهو بيربال فؤاد، ان الطيور يتم جلبها أحيانا من كركوك او يتم اصطيادها في أربيل حيث يعمد الصياد الى الخروج المبكر وقبل طلوع الشمس لنشر شباكه الخيطية على اكبر مساحة ممكنة، ويقوم بعمل تمويه من خلال توزيع بعض الأوراق والحشائش فوق الشباك وأخيرا ينثر طعم الصيد، وهو في الغالب حبوب الحنطة التي تعد الوجبة المفضلة للطيور وينسحب الصياد مع بزوغ خيوط الشمس الأولى لتبدأ موجات الطيور بالتجمع على الوليمة المجانية التي يدفع ثمنها حريته حين يكتشف الفخ .
ويبين فؤاد ان الفخ الواحد يعود على الصياد في أحسن الأحوال بسبعين طيراً او أكثر قليلاً ومن خلال جمع حصيلة عدة فخاخ ينصبها الصياد يحصل في النهاية على كمية ممتازه تبلغ عدة مئات من الطيور، التي يبيعها الى البائع الرئيس الذي يتعامل معه حيث يقوم بدوره بإضافة هامش ربح معقول على سعر الطير الواحد قبل ان يصل الى يد المستهلك، والذي يكون في الغالب من هواة الحرية ويعشق منحها للآخرين سواء كانوا بشرا او طيوراً.
ببغاء يتكلم الكردية
وسط ضوضاء الباعة والزبائن وتغريدات الطيور المختلفة اسمع كلمات متقطعة وكأنها صادرة من آلة تسجيل ،او مخلوق غير بشري أحاول الاقتراب والحصول على مكان ضمن المتجمعين على احد الأشخاص الذي يعرض طائر الببغاء الجميل وهو يردد وراءه بعض الكلمات الكردية وأميز منها (بخير بين) اي مرحبا بكم و (بياني باش) ومعناها (صباح الخير) وغيرها من الكلمات التي يرددها بمهارة خلف مدربه فرهاد كريم .
ويوضح كريم الذي ورث خبرة تربية طيور الببغاء عن والده ان سعر هذه الطيور يمكن ان يتجاوز الدفتر (عشرة آلاف دولار) في بعض الأحيان وحسب قابلية الطير على نطق الكلمات حيث هناك ببغاوات تنطق أربعين كلمة وقد تصل قدرتها على النطق الى أكثر من خمسمائة كلمة.
ويذكر إسماعيل أشهر أنواع الببغاوات وهي الإفريقي والأمازوني و الكاوسكي التي تعد الأكثر قدرة على تعلم نطق الكلمات، ويبين ان مهمة تدريب الببغاء على النطق هي مسألة ليست بالسهلة وتحتاج الى الوقت والصبر وانه شخصياً يحتفظ في منزله ببغاء إفريقي وآخر برازيلي يقوم بتدريبهما منذ ثلاث سنوات وهما يقومان بإلقاء التحية عليه حال دخوله من باب المنزل.
النفاخ اسم على مسمى
برغم احتواء سوق سيداوه على مختلف الحيوانات والطيور الا ان الحمام يبقى البضاعة الأكثر تداولاً في هذا السوق الذي يضم أكثر من 60 نوعاً من الحمام تتراوح أسعارها بين الخمسة آلاف دينار للزوج الواحد والأربعة ملايين والنصف للزوج من النوعيات النادرة والمرغوبة، في حين تتوزع مواطن هذه الطيور على عدة دول مثل الأردن ولبنان وجنوب شرق آسيا و أوربا إضافة الى العراق ، وبالطبع فأن الزاجل بكل أنواعه هو الأغلى وهناك أيضا النفاخ الذي له القدرة على نفخ منطقة الصدر في جسمه بشكل رائع وجميل .
ويأتي بعدها في الأهمية طيور الدجاج بأنواعها وتسمياتها الغريبة وفي مقدمتها الكوجن المغطى بالريش من أعلى رأسه الى أخمص قدميه، ومجموعة نادرة من الديكة وطيور الزينة التي يسرد لنا البائع نامق هيمن وبصورة مختصرة ثمنها بحسب تسعيرة اليوم حيث يبلغ سعر الزوج من البلبل الهولندي 45 ألف دينار والبلبل العراقي يبلغ سعره 30 ألف دينار للزوج والفنجس السويدي يباع بــ15 ألف دينار ، وأما بالنسبة للكناري فهناك أنواع أشهرها النرويجي وثمنه 200 دولار كما يوجد كناري سويدي ويصل ثمنه الى 100دولار، ويعد بلبل الكوكتيل الهولندي أغلى الأنواع حيث يصل سعر الزوج منه الى 300 دولار.
سنجاب أحمروسمكة بخمسة ألوان
يمكنك ان تجد حيوانات السناجب في سوق الطيور وان لم تكن بكثرة الطيور فحيثما يوجد الطلب والزبون توجد هناك البضاعة المطلوبة، ومن أشهر أنواع السنجاب الموجودة هنا السنجاب الأحمر والسنجاب الرمادي وسنجاب النيجر ويلخص كاكه حمه حديثه عن هذا الصنف من الحيوانات بانها جميلة ولطيفة، وتتغذى على الحبوب والمكسرات وتعيش الى فترات تتجاوز الخمس سنوات ويحذر من تركها طليقه خارج القفص وذلك خوفاً عليها من الكلاب والقطط.
ولا يمكننا ان ننهي زيارة السوق دون المرور بعالم المياه في السوق وهي المحال المتخصصة ببيع اسماك الزينة ومستلزماتها وتحتوي معظم محال الأسماك على صفوف طويلة من الأحواض الضخمة تزدحم فيها تشكيلة رائعة من الأسماك ذات الألوان والاحجام المختلفة، ومن ابرز أنواع السمك هي (جولد فش) أي السمكة الذهبية و(المولي) وتتميز بلونيها الأبيض والأسود وأصلها من هولندا، و(روز) نسبة إلى ورد الروز وهي سريعة الحركة وألوانها الأصفر، وأسماك (سولتير) برتقالي و(الكناس) ولونها رمادي والوردي، و(فايف كلر) أي بخمسة ألوان و(مور) ولونها أسود وذهبي وتمتاز بجحوظ عينيها وذنبها الكبير، وأسماك (الزيبرة) وتسمى الوحشية لأنها لا تتعايش مع أنواع أخرى مغايرة لنوعها، ولونها أبيض مخطط بأسود.و(فايتر) وهو متعدد الألوان وله القدرة على تغيير لونه من أزرق إلى بنفسجي إلى ماروني،إضافة الى انواع أخرى اقل أهمية وبالنسبة للأسعار فانها تبدأ بأقل من ألف دينار للسمكة الواحدة وتصل أحيانا الى أكثر من مليونين دينار لسمكة من نوع نادر جداً.
يمر الوقت سريعا دون ان تشعر به بسبب المتعة والسعادة التي تنتابك في هذا السوق الذي هو اقرب للغابة الصناعية المصغرة منه الى سوق يمارس تجارة البيع والشراء، وأحث الخطى للخروج منه بعد ان قضيت النهار بطوله هنا ولكن في النيه ان أعود له بأقرب فرصة وأزاحم مئات المواطنين والسياح الذين يأتي بعضهم للبيع والتجارة وآخرون يقصدونه للتسلية وإمتاع النظر بهذه الكائنات الجميلة .
745 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع