155كم هي المسافة الفاصلة بين السماوة مركز محافظة المثنى وقضاء السلمان الذي جاءت شهرته لا لمورد اقتصادي اشتهر فيه ولا لزراعة تنعَّم بها ،وانما متأتية من سجنه الرهيب،انه سجن نكرة السلمان باستيل الشرق الاوسط،وغوانتنامو قديمة للمناضلين والشرفاء من ابناء وطني المبتلى.
تحركت بنا العجلة التي يقودها رفيق الرحلة مصورنا محمود،ومعي الزميلان حسام وقاسم متجهون جميعا الى مكان يعد عاصمة للبطش والترهيب والتعذيب،الطريق الى النكرة تملأ جانبيه الرمال فالناظر للشارع كأنه خيط أسود وسط الصحراء المقفرة ،تلاحظ بين فترة واخرى خياماً لبدو رُحَّل ومعهم إبلهم التي هي المغذي الرئيس لحياتهم البدائية.
الطفل تيمور والمنقذ السماوي
تزحف الاسئلة مع زحفنا باتجاه السلمان،اين ذلك البدوي الشريف وبأية مقبرة جماعية بعد جريمة الأنفال وُجِد الطفل الكردي تيمور،وكيف انقذه من الموت بعد ان أُصيب برصاصة واخفاه من بطش البعثيين تحت مسماه الجديد(علي) وهوية جديدة تدل على انتمائه لعائلة البدوي من عشبرة عشيم الزيادي،ومن ثم يبدأ رحلة البحث عن ما تبقى من عائلة تيموراحمد عبد القادر في السليمانية وتحديداً في قضاء كلار ليكون شاهداً حياً على جرائم صدام والبعثيين.
وصلنا القضاء ظهراً وعند سيطرة المدخل طلبوا منا عدم الدخول الى القضاء إلا بعد أخذ الإذن من مدير شرطة القضاء المقدم عدنان المالكي،وماهي إلا لحظات حتى جاء المقدم المالكي وليس رئيس الوزراء.
ترحاب بمحبة وود
حين عرف نحن قادمون من بغداد استقبلنا بكل محبة وود لأنه ايضا من بغداد،وطلب مني مرافقته بسيارة الشرطة وطلب من سائقه ترك قيادة العجلة ليقوم هو بالقيادة باتجاه ذلك السجن الرهيب.
يقول المقدم:
إن سجن نقرة السلمان في مذكرات مدير شرطة القضاء إنه سجن عبارة عن قلعة عثمانية قام بترميها القائد البريطاني كلوب باشا الملقب (أبو حنيك) عام 1918 ولُقب بذلك لإصابته برصاصة أثناء الحروب في حنكه وبقي أثرها في حنكه،وجعل القائد البريطاني من القلعة موقع مراقبة للقوات البريطانية للحدود العراقية مع السعودية والكويت لمنع حالات التسلل والتهريب عبر الحدود،ولحماية قواته من هجمات البدو وكذلك من الذئاب المفترسة التي تشتهر في تلك المنطقة.
لا خدمات في القضاء!
يقول عدنان:
إن مشكلة القضاء هي غياب الخدمات عنه،فلا وجود للكهرباء الوطنية وانما يُعتمد على المولدات الحكومية التي تعمل ضمن توقيتات معينة،ولا وجود للمولدات الاهلية وحتى ان توفرت فان مواطني القضاء لا يستطيعون الدفع لأن الفقر هو الحالة الطاغية على أهالي القضاء كما يقول عدنان، مضيفاً: إن الدولة قامت ببناء منتدى ثقافي لا يذهب اليه أحد في حين ان المنطقة بحاجة الى بُنى تحتية خاصة في مجال الخدمات.
وصلنا في منتصف النهار الى سجن السياسيين الذين نُقلوا عام 1963 في قطار الموت ولولا شجاعة سائقه المرحوم البطل عبد عباس المفرجي لما وصلوه احياءً ابداً كما يروي جميع من التقيناهم من ركاب ذلك القطار،السجن كما أراه عبارة عن عشر قاعات متقابلة اصابها الخراب والدمار،ولم يتبقََّ فيها سوى كتابات على الجدران دُوِّنت عليها اسماء وتواريخ قمنا بقراءتها بصعوبة.
سرقة أبواب ونوافذ السجن!
يقول المقدم عدنان:
انه اثناء الانتفاضة الشعبانية عام 1991 قام بعض الاهالي بتهديم بعض اجزاء السجن وسرقة جميع الابواب والشبابيك،وبعد انتهاء الانتفاضة اصبح السجن ثكنة عسكرية للجيش العراقي السابق،وبعد عام 2003 تم نهبه من جديد!
العديد من التواريخ المختلفة زمنياً وجدناها على الجدران بعضها يُشير الى ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي،هناك تاريخ يشير الى 9تموز عام 1963واسم النزيل عدنان موسى نعمان،وهناك مخطوطة تقول غادر هذا المكان خالد صيهود بتاريخ السابع من حزبران عام 1963،وهناك كتابة تشير الى عام 1962،ومخطوطة تشير الى اسعد حسن طارش،محمد ياسر العطري،هاشم خنتور وهناك رسم لطفلة.
تدوين عذابات السجن
كتابة تُشير الى نزيل اسمه حسن سالم حيدر، واسم عباس كتب باللغة الانكليزية،والعديد من الذكريات تروي للاجيال قمة عذابات السجون في العراق،وهناك اسم نزيل اسمه آزاد ومدون معه رقم هاتف قديم 088277081،وهناك اسم صباح عزيز عام 1987، سنان والتاريخ ممسوح،ذكرى حسين طارش الزيادي،وحيدر الزيادي عام 1963،حسين عيسى كُتب بفلم الرصاص مع رسم لصورة فتاة بتاريخ 1981،واسم آخر هو مثال زنكنه بتاريخ 1967، كتابة تقول حسين عبود في نكرة السلمان عام 1967، هناك كتابة تشير الى عام 1981، شاهدنا بين القاعات بقايا من تنور المخبز،وهناك علامة مخابرة لوحدة عسكرية،دخلنا قاعة اخرى من قاعات سجن النكرة ،واعتقد ان تسميتها بالنكرة لكون الذاهب لقضاءالسلمان يشعر بأنه ينزل في وادٍ،فضلا عن وجودالقاعات العشرة من السجن السياسي تقع داخل منخفض،بينما قلعة (ابو حنيك) تقع فوق مرتفع.
قاعة للسجانين
في تلك القاعة العديد من الاسماء مدونة على الجدران منها اسم نزيل اسمه عباس الديواني،وآخر اسمه نياد كليغالي الياس،والسجين نبيل عباس من اهالي الديوانية،وعيسى خضر تارزان،وذكرى للسجين محمد علي،والعديد من الاسماء ايضا منها المحكوم كاظم حسون كريم،وهناك ذكرى موجودة لسجان وليس سجين اسمه حسن سلمان مؤرخة عام 1978،وبتاريخ الثاني من شباط عام 1967ذكرى للسجان الملقب جينان،واعتقد ان تلك القاعة كانت مقراً للسجانين،في قاعة اخرى وجدنا ذكرى للنزيل الشيخ عبد الكريم الشيخ مصطفى الميراني عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني من الموصل ومؤرخة الذكرى عام 1961،وهذا مايدل بأن الأنظمة السابقة تنظر الى جميع الاحزاب العلمانية والديمقراطية والوطنية بأنهاأعداء لها ولا تميز بين عربي او كردي ببطشها وإجرامها!
بين ذكرى وأخرى لشخص 20 عاماً
ذكرى النزيل محمد رحمن فرقد علوان في الثالث من حزيران عام 1962،والنزيل زكي احمد بتاريخ 1962،وذكرى للنزيل كريم كه رده أغا نام مكتوب باللغة الكردية،ذكرى للنزيل بيري سلمان عام 1962،سليم محمد الراوندوزي عام 1962،وفي قاعة اخرى ذكرى أخرى تشير الى عام 1982 وهي للنزيل محمد رحمن فرقد علوان الذي دوَّنا له ذكرى في عام 1962،وهذا مايدل بان ذلك السجين المظلوم ظل متنقلا بين قاعات السجن على مدى عشرين عاما،والنزيل سلمان ياسين.
أثناء وجودنا في السجن قمت بعدّ القاعات الموجودة فوجدتها 17 قاعة ،على العكس من تصريحات المعتقلين التي تقول بأنها عشر قاعات،واعتقد بان القاعات السبع المضافة هي لإدارة السجن والسجانيين ومخازن للطعام ومشاجب للاسلحة.
الملازم صلاح والمنايا
وانا أدور بين قاعات العذاب والنضال الحقيقي استعمرت ذهني صورة الشهيد البطل الملازم صلاح احمد حمدي الذي استطاع الهروب من السجن بمساعدة الشاعر والمناضل الفريد سمعان الذي كان نزيلا ومراقبا للقسم العاشر في سجن النكرة في ذلك الوقت،ولكنه توفي في الصحراء عطشاناً وهو مريض،وكان الشهيد مهندسا للطرق والمواصلات،وقد كان استشهاده أدمى قلوب السجناء بمختلف انتماءاتهم،وقد رثاه الشاعر الكبير مظفر النواب بقصيدة رائعة يقول في مطلعها:
المنايا الما تزورك زورها
خطوة التسلم ذبايح سورها
طافح عله الريح عينه يدورها
أملح من ترابها وناعورها
صكر للبيــــده تعــز صكورها
وبأثر جدمه تلوذ طيورها
وســفه ما حفظـت صكرها
وسلمته بليل عـد ناطورها
شعر النواب وغناء الحديثي
قلت لصديقي محمود لعلنا نجد ذكرى للمناضلين الموجودين حاليا،وقمت ارسم في المكان صورة المظفر وهو يشحذ الهمم بقصائده،وصوت الدكتور سعدي الحديثي وهو يغني بحسرة الغريب وبزهو المناضل،شعر الفريد سمعان وتعليقات الناقد فاضل ثامر،خجل جمعة اللامي وهو يلقي ورقة ابداعه،ناظم السماوي وهو يكتب محروميته في الاغنية الرائعة (ياحريمة)،صور لنشاطات المناضلين وهم يرسمون لوحة الحرية داخل اسوار أوحش سجن في العالم، كيف يأكلون؟ كيف ينامون؟ كيف يضحكون وسط صحراء حافلة بالحزن والموت؟
في قاعة أخرى وجدنا صورة مرسومة على الحائط لرجل بالزي الكردي اسمه حسن عامر ابو فارس، وذكرى للسجين ابراهيم هراييم من الطليعة وبجانبها صورة لرجل كردي، وللتقادم الزمني اختفى العديد ، بل اغلب الكتابات الموجودة في تلك القاعات،وبذلك اختفت شهادات نضالية مهمة لأبطال حقيقيين وليسوا مزيفيين كما هو حال بعض المدَّّعين الموجودين الآن في السلطة !
البطل المنقذ عبد عباس المفرجي
يقول المناضل السجين السابق الشاعر والأمين العام لاتحاد ادباء وكتّاب العراق الفريد سمعان مستذكراً لـ(المدى) الفترة التي قضاها هناك"نحن اتينا بقطار الموت الى السماوة في تموز من عام 1963وكدنا نموت جميعا لولا بسالة وشجاعة سائق القطار البطل عبد عباس المفرجي والد الزميل علاء المفرجي، وكذلك لا ننسى موقف اهل السماوة الابطال الذين هبُّوا لنجدتنا بعد ان سمعوا بوجودنا ،ويعتقد سمعان ان الذي اخبرهم الناس المتواجدون في كل محطة نقف فيها لاننا كنا نصرخ باعلى اصواتنا باننا شيوعيون ويحاول البعثيون قتلنا ونطلب النجدة منهم ، كما يوضح سمعان،مضيفا: إن الاهالي كانوا يجهزون لنا الماء والثلج في ذلك الصيف الحار، وتوفي من المعتقلين شخص واحد وهو ضابط برتبة نقيب، وكان هناك طبيب اسمه رافد قام بنصيحتنا بشرب الماء مخلوطاً بالملح لكون جميعنا منخفضي الضغط والملح يساعد برفعه، بعدها تم نقلنا بسيارات خشبية الى سجن نكرة السلمان،وكان الطريق ترابياً ولا توجد فيه أية معالم.
150 نزيلاً في قاعة واحدة
وصلنا الى هناك كما يُبيِّن سمعان لنجد العديد من السجناء قد سبقونا الى هناك،وفور وصولنا تم توزيعنا على القاعات العشر ومن ضمنهم تقريبا 20سجينا من البصرة منهم الشاعر سعدي يوسف،ويقول سمعان الذي اصبح المسؤول عن القاعة العاشرة من ابرز الوجوه التي كانت في قاعتي الدكتور رافد والشاعر مظفر النواب، والشاعر فائز الزبيدي،والدكتور سعدي الحديثي، والشاعر ناظم السماوي ،فضلا عن السجناء الطيارين والجنود والعمال، بحيث وصل العدد في القاعة الى 150 نزيلا، مما اضطررنا الى تضييق افرشة النوم الى نصف ماكانت عليه،موضحا بان الفطور في السجن هو شوربة مع خبز وان الاكل بالعادة يكون جماعياً،ويذكر سمعان ان الطباخين والعمال هم من السجناء ،وهناك خفارات لاستلام الماء الذي يأتي بواسطة شاحنات ويزود لنا بواسطة انبوب في الجدار نملأ فيه (التنكات) الموجودة لدينا لتوفير المياه للشرب والغسل وغيرها من الاستخدامات،وكل شيء كان بتقنين ، فمثلا السبح للنزيل كان اسبوعيا ومخصص له (13) قوطية مربى لا تزيد ولا تنقص،وكانت هناك لجنة ثقافية مشكلة بعضوية فاضل ثامر وانا ومحمد الجزائري ندير المسائل الثقافية في السجن،وهناك ادباء خلقوا داخل السجن مثل جمعة اللامي والشاعر قدوري.
قصة هروب الملازم صلاح
يذكر الفريد سمعان أن عدد المعتقلين في قطار الموت واغلبهم من الضباط لم يتجاوز الـ (400)ضابط، وحينها كان هو ضابط احتياط برتبة ملازم ثان ٍ.
وعن قصة هروب الملازم صلاح يقول سمعان: انا من المساهمين في هزيمته مبينا بان المطبخ كان قرب القاعة العاشرة التي انا المسؤول عنها،وفي كل قاعة كان هناك بابان الاول قبالة السياج والآخر على الساحة،وعند هروب صلاح كنت اذهب للمطبخ لغرض التعداد، ثم اعود من الباب الآخر لغرض التعداد مرة اخرى لغرض التغطية على الملازم صلاح اثناء فترة هروبه وبقينا على هذه الحالة لمدة خمسة ايام من دون ان تكشف عملية هروب صلاح، وبعد ان الغينا عملية التستر لاعتقادنا بان صلاح وصل لمبتغاه، اكتشفت ادارة السجن النقص وذهبت تفتش في البادية، فوجدته داخل حفرة وقد نهشت الذئاب جزءاً من وجهه، والظاهر انه نتيجة التهاب الكلى لم يستطع التواصل حسب قول الفريد سمعان.
والى حكاية أخرى من حكابات هذا وطني
751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع