(لمحات مضيئة وذكريات عن مشاهداتنا ومعايشاتنا لأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية في بغداد أيام زمان)
كان هناك مطر قبل يومين في الشارقة خلال مشيتي مع صديقإ لى عند البحيرة متوجهين الى المقهى الممتد إلى الرصيف المحاط بالشجيرات القصيرة المضاء من داخله الجميل بمظهره وديكوراته، مشينا إليه، جلسنا في ركن دافيء..
فأنا من ألمحبين للمقاهي كثيراً، أشعر بالألفة فيها كما في أي مقهى أزوره، في الغربة المقهى بيتنا الثاني، فزوار المقاهي مألوفين وكأننا نشعر بأنهم يعرفوننا منذ زمن بعيد، كأنهم متواعدين ليلتقوا أما هرباً من صخب الحياة أو هرباً من المشاكل والهموم أو ملتقى لتقصي الأخبار أو مجرد ألتقاء وحوار أو تأمل وتفكير وتذكرالماضي بحوادثه ومناسباته وشخوصه، حتى الموسيقى حين تسمعها تذكرك بحالة قلبك وعاطفتك للأيام الماضية ودرابين ألهاماتك وأحلامك كيف كانت..،
تصاعد البخار من قدح الشاي لصديقي و منظر القهوة عندما أرتشفت أول شربة منه ونحن ننظر الى شجرة الميلاد الموضوعة في منتصف المقهى، في هذا الجو الغائم الجميل المرفق لجلستنا ونحن ننظر الى الشجرة المزينة وأضوائها الجميلة، سرح بذكرنا كيف كانت أعياد الميلاد ورأس السنة في بغداد ومدن العراق أيام الزمن الجميل، بهذه الشذرات من الذكريات بدأنا رحلة مشوقة لتذكر ذلك وبكل شوق وحنين.
يعتبر عيد الميلاد ثاني أهم الأعياد المسيحية بعد عيد الفصح( القيامة) ويمثل تذكار ميلاد يسوع المسيح عليه السلام وذلك من ليلة 24 كانون الأول ونهار 25 من نفس الشهر، وهناك من يتبع التقويم البولياني عشية 6 كانون الثاني( الأرمن ) ويترافق عيد الميلاد بأحتفالات دينية وصلوات خاصة وأجتماعات عائلية وأحتفالات أجتماعية.
لقد ظلت أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية محتفظةً عبر السنين بنكهة خاصة لدينا سائر العراقيين، فالتحضيرات في البيوت تبدأ قبل يوم أو يومين حيث تبدأ الطقوس بتجمع العائلة في تزيين الشجرة التي يتشاركون فيها مع الأقارب والأهل....
https://www.youtube.com/watch?v=owoci98-Kgk
ويستمعون خلال هذا التجمع إلى أغنيات وتراتيل فيروز الدينية وترتيل أخرى جميلة تبعاً للمكونات المتعددة، والتي تعرف بالترانيم الدينية بمناسبة ميلاد المسيح، فالشجرة ارتبطت بالأعياد الرومانية وتقاليدها، فأوراقها الخضراء ذات الشوك رمز لإكليل المسيح، وثمرها الأحمر هو رمز لدمه، فضلا عن أنها ترمز الى الحياة الجديدة التي ارتبطت بميلاد المسيح، فيما ترمز النجمة على الشجرة الى النجمة التي ظهرت في تلك الليلة، والتي قادت المجوس الى مكان ولادته في المغارة، وتوضع الهدايا أسفل الشجرة المرسلة والتي وضعها بابا نوئيل ...
وتقام وليمة كبيرة فالأكلات بالعيد سمة من سمات ثقافتها الموروثة وتعتمد على المنطقة التي ولدوا وتوارثوا فيها، هي مائدة خاصة يوضع فيها جميع انواع الطعام من الكبة والدولمة والباجا والديك الرومي المحشى باللوز والكشمش والرز أو الدجاج المحشي وكعك العيد والكليجة ويجتمع حولها الاقارب والاصدقاء تبدأ طقوس الاحتفال بالتكامل شيئاً فشيئاً ولا ننسى بأن أفراح المسيحيين تمتد من ليلة الخامس والعشرين كانون الأول، موعد العيد، وحتى موعد رأس السنة، هناك عادات وتقاليد نقلها وتناقلها المسلمون والمسيحيون عن بعضهم البعض بكافة المناطق والمحافظات العراقية بما يؤكد عمق الصلة بينهما كنسيج لوطن واحد وهي في معظمها تنبع من أرضية واحدة واضاف عليها كل منهم لمساته ومنها عادات تبادل الأكلات المنزلية في الأعياد والمناسبات وتبادل الزيارات والهدايا.
في أول يوم العيد عادة يذهب المسيحيون الى الكنيسة بالثياب الجديدة للمشاركه بقداس العيد، وبعد أن يخلص القداس، يبدأ الآباء بزيارة كل العوائل بيتا بيتا، ليقدموا التهاني بمناسبة العيد ومن ثم الذهاب الى زيارة الاهل حيث يتبادل التهاني والتبريكات.
تختلف الاحتفال بليلة رأس السنة بالعراق حسب عادات واتجاهات كل فرد ، لعل في نفس كل منا جملة من الذكريات الجميلة والسعيدة والحزينة أحيانا، كما ان لكل انسان افكارا معينة لقضاء عطلة رأس السنة الميلادية على الرغم من قصرها، الشباب يعتبرها فرصة للانطلاق وتفريغ الطاقة المكبوتة خلال عام بالسهر فى الحفلات الصاخبة وقاعات الرقص، تتبادل اطراف الحديث حول امنية كل منا في العام الجديد سواء على المستوى الشخصي او المهني والبعض الاخر يسافر الى أماكن الهدوء والاستجمام،
وكثير من الناس يتخذه فرصة للاحساس بجو الاسرة المفقود بسبب الانشغال فى العمل او أى ظروف اخرى فيسهرون ليلتهم في البيت مع أولادهم وبعض من أقربائهم، ومنذ أوائل السبعينات لحين الأحتلال، وفي الهواء الطلق البارد وتحديداً في بعض من أجزاء الكرادة وعرصات الهندية التي أصبحت مكان التجمع السنوي لآخر يوم من السنة الميلادية التي يأتيها الشباب والشابات والعوائل القادمة من الأعظمية والكاضمية والكرخ والرصافة بالسيارات أو بواسطة وسائل النقل وكلهم فرحين مبتهجين وبأجمل ملابس يرتدونها، والجميع يغني مع مزامير (هورنات) السيارات الذي لا ينقطع،...
وترى بعض من بيوتات العائلات المسيحية يوزعون الكليجة للمارين وبكل طيبة ومودة، كما تشهد الملاهي كالطاحونة الحمراء وسليكت والأمباسي وعلي بابا والحرية وعبد الله ونادي الصيد ونادي المنصور ونادي الهندية ونادي العلوية ونادي المشرق ونوادي النقابات كالمهندسين والاطباء والصيادلة والمعلمين والمالية والصحفيين وبعض من صالات الفنادق تقاوم النعاس، يشرق حسنها، تتزين وتصدح بالموسيقى والغناء، طلتها كلها جمال في جمال وإغواء، تنحدر النجوم على أرصفتها وصالاتها شلال نور وشموع، تحيل الكلمات إلى أغان، تحيل الورد والياسمين إلى عطور، طوفان من الحب والأمنيات بعد أن تدق الساعة معلنة اليوم الجديد للسنة الجديدة، فيحيل المنطقة والنوادي والمطاعم إلى نهار، كل من شارك في الأمسية يتحدث بروعة السهرة والأمسية، منها أمسية لم تنم فيها المدينة لحظة، نامت الريح والعتمة نوماً عميقاً، نسيمات تستدر الغناء في البيوت من الذي يغني؟ من التي تصدح بأبيات شعر؟ ومن التي سببت هذا الشعاع الذي أنار المدينة لثوان؟ تساؤلات أطلقتها أكثر من حنجرة، لم تكن الإجابة حاسمة، إذ قيل بأن تلك الليلة كانت ليلة رأس السنة الميلادية.
أهم الأكلات التي تحرص العوائل المسيحية في بغداد والموصل وكركوك والسليمانية والحبانية والبصرة والموصل ودهوك وأربيل وغيرها من المناطق على إعدادها خصوصاً مع بداية العام الجديد ...
وبالتحديد في اليوم الأول هو الكبة والدولمة والباجا وكذلك إعداد كبة القيسي التي جاءت تسميتها نظراً لاحتوائها على الطرشانة المعروفة بالمشمش المجفف، وتتألف كبة القيسي من لحم مفروم بالإضافة إلى إضافة المطيبات كالملح والبهارات، فيما تتألف مرقة الكبة من عصير التمر (الدبس) والتمر المجفف المعروف بتمر الأشرسي والتين المجفف وقليل من العنب المجفف (الزبيب) وبذلك يكون مذاق المرقة حلوة للغاية وقد حددوا أكل تلك الطبخة مع بداية العام لكي تمر أيام العام كلها بحلاوة على العائلة، كما أن هناك أكلة يشتهر بها أهالي الموصل ودهوك وأربيل وكركوك تعرف ب الكشك وتتألف من الشلغم بالإضافة إلى سيقان السلق وبالتأكيد كبة الكشك التي عادة ما تغلف بالبرغل الناعم وتحشى بلحم الغنم المفروم وهذه الأكلة عادة ما تتصدر موائد العوائل المسيحية.
تذكرنا أصدقائنا ممن سكنوا في الكرادة والبتاوين والأعظمية والمنصور وعكد النصارى الذي كان لنا أصدقاء عديدين في تلك المنطقة البغدادية العتيقة نسبة الى التمركز العالي للعوائل المسيحية ذات البيوت المتلاصقة التي كانت تسكن المنطقة وتحيط بكنيسة أم الأحزان، وكذلك ايضاً وجود( 4) كنائس مهمة جدا بجوار كنيسة أم الأحزان...
وفيها الكثير من المراقد ومنهم مرقد الكاهن والعلامة انستاس الكرملي فارس وخادم اللغة العربية، وتذكرنا كنيسة الدولمة وكانت للطائفة الأرمنية، وقد هدمت وقامت مكانها عمارة تجارية ومحلات سميت سوق الأرمن..
كنيسة الأرمن قرب ساحة الطيران ببغداد
ان وجود (5) كنائس،ثلاثة منها بحجوم كبيرة يعطي اي باحث أو متقصي صورة، عما كان عليه وضع ونوعية السكان في تلك الأحياء البغدادية الشعبية للسنين التي خلت، فقد كانت المنطقة مليئة بالعوائل المسيحية، والتي سكنت هذه البيوت المتلاصقة والمزدحمة حتى عقد الستينات.
كثيرون ممن كانوا أطفالاً في تلك الفترة، كيف كانوا يفرحون عند مرورهم مع الأهل للتسوق لمناسبة أعياد الميلاد وراس السنة الميلادية وهم يمرون بجانب المكتبات المتواجدة في شارع الرشيد وباب الشرقي والكرادة، ويتلهفون للفرجة على الكتب المختلفة وبعضها مزيّن بصور وألوان جذابة وكيف كانت تشدّها كثيراً زاوية قصص الأطفال وبطاقات التهنئة بأعياد الميلاد وصور الشجرة وبابا نوئيل والمواليد، صورها الجميلة ورسومها الواضحة كانت بالنسبة إليهم أبلغَ من ألف حرف، كما حرصت، مثل غيري على شراء بطاقات المعايدة الجميلة للمناسبات الخاصة والأعياد ورأس السنة الميلادية التي كنا نحتفل بها في الثانوية والكلية ومع الأصدقاء من المسيحين، كثيرون عاشوا تلك الذكريات الجميلة ويستحضرونها اليوم بحسرة، نتيجة لما وصل إليه حال العراق خصوصاً وبغداد عموماً.
أن مسيحي العراق ومنذ القدم منذ تواجد الحضارة العراقية وانتشار الأديان السماوية هم أبناء العراق الأصلاء وهم يعيشون بسلام ووئام ولم يشهد التاريخ لا القديم ولا الحديث أي أذية لهم، بينما الآن وبسبب ماحدث ويحدث بعد الأحتلال فقد تناقص بشكل مخيف أعداد المسيحيين حيث يشكل المسيحيون الآن نحو 2% من سكان العراق بعد أن كانوا قرابة 5% قبل الاحتلال الأميركي عام 2003 أي أنهم كانوا قرابة مليوني مسيحي قتل كثير منهم وهاجر قسم كبير ممن تبقى بينما هجر آخرون داخل وطنهم وهم الاصلاء، في الغربة يراسلني أصدقائي من شتى بقاع العالم من نيوزلندا حتى كندا وحنينهم لبلدهم باق ومحافظين على عاداتهم وتقاليدهم النبيلة وأنتمائهم الأصيل...
وهنا لا يسعني ألا وأن أتقدم لجميع أصدقائي ومعارفي وجميع العوائل أعياداً سعيدة وان يحفظهم الله أينما كانوابأمن وآمان مع تحقيق الآماني، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
الگاردينيا: أدناه رأيي أحد أصدقاء الأخ كاتب المادة ألأستاذ/ سرور ميرزا محمود (ابو أحمد).. يعبر هنا عن شعوره تجاه تلك الأيام الجميلة التي راحت مع أهلها الطيبين ولانظن أن تتكرر في هذه الظروف.....:
من منا ينسى أيام زمان منذ الخمسينيات وإلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، أيام كنا كعائلة مسيحية تجلس حول مائدة واحدة، تضم الوالدين والإخوة والأخوات وأحيانا كثيرة الجدة والجد لنتناول الطعام، سواء أكنا في صباح أول أيام أعياد الميلاد، أو في عيد الفصح، نذهب كعائلة سوية إلى الكنيسة لنأخذ القربان، وبعد أن يخلص القداس..
يبدأ الآباء بزيارة كل العوائل بيتا بيتا، ليقدموا التهاني بمناسبة العيد أحب أكلة كانت لنا نحن الصغار أيام العيد هي الـ(كليجة)...
حيث كان لعابنا يسيل ونحن نشاهد أمهاتنا مع شقيقاتنا وهنَّ يعملنَّ الـ(كليجة) قبل العيد بأيام، ولا نقدر أن نأكلها لأن معظم أفراد العائلة كانوا صائمين. فكنا في القداس الالهي، نأخذ القربان المقدس وهو الذي يرمز إلى جسد المسيح"له كل المجد" الذي بذله من أجل دفع ثمن خطايانا على الصليب.
بعدها نعود إلى البيت لنتناول الفطور، حيث ما لذَّ وطاب من البيض المسلوق (الملون بشتى الألوان) والمقلي والاجبان بأنواعها والألبان وفي مقدمتها الـ(كليجة) فترانا نلهم آكلين منها الكثير. كانت أيام جميلة لا يمكن لنا أن ننساها...
سرور ميرزا محمود
606 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع