اسرار تاريخية عراقية بعد مائة عام على مصرع الصدر الاعظم محمود شوكت باشا
د. سيّار الجميل
مرت قبل ايام ذكرى مرور مائة سنة على مقتل الصدر الاعظم في الدولة العثمانية الفريق اركان حرب محمود شوكت باشا ذلك القائد العراقي الكبير من الرعيل الاول ، اذ قتل صباح يوم 8 حزيران / يونيو 1913 برصاص مجهولين وهو يهمّ بالدخول الى الصدارة العظمى في العاصمة استانبول ،
وقد عتم على الحدث ولم يعرف حتى اليوم من كان وراء مصرعه .. ولقد قمت بالكشف في الندوة التي عقدت قبل ايام بباريس على القاعة العليا من معهد العالم العربي 8-9 حزيران / يونيو 2013 ، وفي ذكرى مرور مائة سنة على انعقاد المؤتمر العربي الاول في سانت جرمان بباريس 1913 .. كشفت في ورقتي عن معلومات تاريخية غير معروفة بصدد مصرع الوزير الاعظم محمود شوكت باشا قبل انعقاد مؤتمر 1913 بقرابة اسبوعين ..
كما كشفت عن العلاقة التي ربطت هذا القائد العراقي ببعض اعضاء المؤتمر العربي الاول وفي مقدمتهم السيد عبد الحميد الزهراوي والمداولة التي جرت بين الاثنين وما الذي وعد به محمود شوكت باشا الشباب العربي ؟ وماذا قال بصدد العرب ودورهم في مستقبل الدولة ؟
لقد غاب هذا الرجل عن اهتمام المؤرخين طويلا ، اذ لم يعط اي اهتمام ولم يمنح اي جهود ، علما بأنه قاد اخطر عملية تاريخية في حياة العثمانيين عند بدايات القرن العشرين .. انه قائد عراقي من بغداد ، ولكن لم يعرفه احد اليوم حتى من العراقيين ، بل ولم يقدّره المؤرخون حق قدره لأسباب تاريخية وسياسية وايديولوجية ..
خصوصا وان اسمه يثير جدل بعض العارفين كونه قضى على حكم السلطان عبد الحميد الثاني واشتغل مع الاتحاديين علما بأنه لم يكن منهم ابدا .. فمن هو محمود شوكت باشا الذي قاد تلك العملية التاريخية الخطيرة!؟
وقفة عند سيرته العراقية – العثمانية
تؤكد المراجع التركية ( وخصوصا : وخصوصا كتب علي بلغين اوغلو واسماعيل حامي دامشميند وحازم طقتاس وكارولين فينكول ) بأن الفريق الاول اركان حرب محمود شوكت باشا (1856 - يونيو 11 1913) كان احد رجالات الدولة العثمانية الكبار في بدايات القرن العشرين ، وهو القادم من بيئة عربية عراقية ومن أصل جورجي. ولقد وجدت بعض المصادر انه من الشيشان أو الشركسي أصلا .
صورة الكلية الحربية في العاصمة العثمانية استانبول مطلع القرن العشرين
ولد في بغداد حيث عاش في بيئة عربية عراقية وأنهى تعليمه الابتدائي قبل أن يذهب إلى الأكاديمية العسكرية ( المدرسة الحربية) في العاصمة اسطنبول ، وكان ان التحق بالجيش العثماني في عام 1882 برتبة ملازم.أمضى بعض الوقت في فرنسا في دراسته الميدانية عن التكنولوجيا العسكرية وكانت بعض تجاربه متمركزة في جزيرة كريت لفترة من الوقت.
ثم عاد إلى المدرسة الحربية بصفة عضو هيئة تدريس نظير تفوقه وذكائه ومهنتيه العالية . وعمل تحت امرة القائد الالماني الشهير كولمار فريهر فون در غولتز (غولتز باشا) لفترة من الوقت، وسافر إلى ألمانيا لتزداد خبراته ومعارفه ، ومن ثم تمّ تعيينه كحاكم لكوسوفو حيث قاد الجيش الثالث ، التي عرفت فيما بعد باسم حركات Ordusu بعد تورطها في حادثة 31 مارس. ولعب دورا تاريخيا مهما جدا في إنهاء احداث مارس 31 الانقلابية من قبل الائتلافيين العثمانيين ، فأنهى بنفسه عهد السلطان عبد الحميد الثاني علما بأنه لم يكن من حزب الاتحاد والترقي ...
وقد اختار بنفسه (السلطان محمد رشاد الخامس ) وكان هو بنفسه الذي يلتقي السلطان لاصدار الفرامين . ونظرا لمكانته ومهنيته وحسن قيادته شغل منصب الصدر الأعظم ، ( للفترة بين 23 يناير 1913 و 11 يونيو 1913) ، وتمّ اغتياله في إسطنبول وسط غموض تاريخي وتعتيم اعلامي وسياسة تفوق الاتحاديون في تنفيذها في خضم الاضطرابات التي اجتاحت العاصمة استانبول . وقيل بأن الفضل يرجع اليه في إنشاء الطيران العسكري العثماني في عام 1911.
اما المراجع العربية ، فتقول بأن محمود شوكت باشا هو ابن المؤرخ الاديب البغدادي سليمان فائق بك (1814 - 1896) قوقازي كرجي الاصل وهو من اسرة حاج طالب كهية سي ، وكان أبوه من وجهاء بغداد, وعدّ مؤرخاً كبيراً, وأديباً ذا اسلوب رفيع باللغة التركية. شغل الاب مناصب ادارية عدة في العراق منها متصرفية البصرة . وكان له أربعة أولاد ولدوا جميعاً في بغداد, وبرزوا في مجالات عملهم, أكبرهم محمود شوكت باشا ، ويليه مراد سليمان الذي كان من وجهاء بغداد ومثقفيها ونائباً عنها في "مجلس المبعوثان" العثماني ، وصاحب جريدة "بغداد" وتوفي سنة 1922, ثم خالد سليمان الذي تولى مناصب وزارية في العراق ايضاً ، وكان وزيراً مفوضاً للعراق في طهران.
وكان أصغرهم حكمت سليمان الذي تولى وزارات مهمة عدة, واصبح رئيساً للوزراء على أثر الانقلاب الذي دبره مع بكر صدقي سنة 1936في العراق .. لقد نشأ وكبر ودرس محمود باشا في بغداد التي عشقها ، ثم اكمل دراسته في العاصمة العثمانية وغدا ضابطا وتدرج في الرتب مع دراسة في المانيا والتأثر بأسلوب الالمان وثقافتهم .
لقد اكتشفت ان هذا الرجل العراقي محمود شوكت باشا الذي ولد ونشأ في بغداد ، لم يكن بسياسي ابدا ، ولم ينتم الى اي حزب من الاحزاب او جمعية من الجمعيات السياسية والفكرية القومية لا التركية ولا العربية .. كان قائدا عثمانيا حرفيا ، ومهنيا قحا وشديد التعلق بمهنته العسكرية كواحد من المع الضباط العراقيين العثمانيين ابان النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ولكنه بدا انه ضاق ذرعا بسياسة السلطان عبد الحميد الثاني ..
محمود شوكت باشا يدخل استانبول ليزيل السلطان عبد الحميد الثاني عن سدة الحكم وينصّب السلطام محمد رشاد
فقاد جيشه للقضاء على حكم السلطان عبد الحميد ودخل قصر يلدز ، فعزز دور الاتحاديين بنفي السلطان عبد الحميد الثاني وعائلته الى سلانيك ، واقام بدله اخيه الاصغر السلطان محمد رشاد .. ولقد نصّب محمود شوكت باشا صدرا اعظم للدولة ، فاحتفل اهل بغداد بذلك الحدث احتفاء كبيرا ، فبقي الرجل ستة اشهر في هذا المنصب حتى يوم مقتله في العاصمة استانبول في 8 حزيران / يونيو 1913 .
كان محمود شوكت باشا يحمل شحنة عاطفية قوية نحو العراق ، بل وان ثمة نسابة عائلية بينه وبين الفريق اركان حرب هادي باشا العمري ، ذلك ان محمود شوكت باشا وهادي باشا العمري هم أولاد الخالة وخدموا معا في الجيش العثماني فقد كان هادي باشا العمري الموصلي رئيسا لأركان الجيش العثماني ومحمود شوكت باشا البغدادي قائدا للفيلق الثالث منه, كما ان محمود شوكت باشا هو اخ اكبر لرئيس الوزراء العراقي حكمت سليمان الذي تولى الوزارة العراقية اثر انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936 .. صحيح ان اصل شوكت باشا شراكسيا . لكنه عراقي ، ولد عراقيا ، وتربى في طفولته وشبابه في بغداد وكان يعتز بالعراق كثيرا . ان كان العراق يعد بولاياته الثلاث الموصل وبغداد والبصرة صاحب مكانة كبرى عند العثمانيين فاعتمدوا كثيرا على الضباط والقادة العراقيين ابان عهد السلطان عبد الحميد الثاني .. ولقد استمر دورهم في العراق حتى سقوط العهد الملكي فيه عام 1958 .
محمود شوكت باشا الصدر الاعظم للدولة العثمانية عام 1913 ببزته الرسمية ونياشينه واوسمته
ظروف اعتلاء الصدارة العظمى
ثمة لحظة دموية في بدايات تاريخ القرن العشرين ممثلة بالإنقلاب الحكومي المضاد ، أي بمعنى يوم اقتحام مقر الباب العالي ومصرع وزير الحربية، ناظم باشا، واجبر الصدر الأعظم على الإستقالة وقبض على أعضاء الحكومة العثمانية وبدأ التنكيل بهم على يد الزعماء الإتحاديين وجرى ذلك خلال انعقاد جلسة للحكومة في 23/1/1913، وبعدها نُصّب الفريق اركان حرب محمود شوكت باشا صدراً أعظم مع طغيان فرح العراقيين في الشوارع كونه عراقي المولد والمنبت والنشأة وارتياح الشباب العرب المستنيرين الذين كانوا رافضين للانقلاب المضاد الذي قام به الائتلافيون ، ولقد فسر ذلك في الذهنية العثمانية انتصار العلمانيين على المتدينين ، وخابت امال اولئك المستقلون الذين كانوا قد رفضوا تجربة الاتحاديين من طرف ورفضوا في الوقت نفسه تجربة الائتلافيين المضادة .
وفي غمرة هذه الثورة الدموية وعلى اثرها مباشرة ، نصّب جمال باشا محافظاً لمدينة استانبول وامنها (1913) ومسؤولاً عن حفظ النظام السياسي والامني . وكان قد اخذ ببعض الإجراءات القوية التي أظهرت شدته، سواء ما يخص حماية المرأة - كما قال في مذكراته – كخطوة لتحسين وضع المرأة ، وكان يتباهى دوما بالمرأة التركية وعوامل التمدن. وبذل جهوده في عسكرة الشعب لصد البلغاريين .. وكان يبطن كرها عميقا ازاء العرب وكل القوميات الاخرى المتعايشة مع بعضها الاخر في الظل العثماني ، وقام بإحباط كل من خطط لقلب نظام الحكم معتمدا على "قلم الإستعلامات" والبوليس السري، الذي كان يده المساعدة في مراقبة المعارضين. وكان يرصد حجم تدخل السفارات في شؤون الدولة العثمانية ، ولا سيّما السفارتين البريطانية والفرنسية. انه بالرغم من تسجيله آسفه على مقتل محمود شوكت باشا ، وقوله على الرغم من عمليات المراقبة والمنع ، فقد نجح من يُسميهم جمال باشا بالمتآمرين في اغتيال الصدر الأعظم، محمود شوكت (1913)،
مصرع الرجل العراقي
لم يتساءل احد حتى يومنا هذا عن سر مصرع ذلك الرجل كأول قائد عراقي يصل الى ذلك المنصب السامي مع وجود عدة قادة عراقيين آخرين .. لم يتساءل اي مؤرخ عربي حتى اليوم وبعد مرور مائة سنة على هذا الحدث عن اسرار تلك الاحداث ؟ وهل كانت هناك ثمة علاقة بين محمود شوكت باشا وبين تلك النخبة من الشباب العربي الذين كانوا يطمحون لبناء اطار جديد من العلاقة العربية العثمانية ، وقد اسموا ذلك الاطار باللامركزية ؟ لم لم يكشف لنا حتى يومنا هذا عن سر لقاء جمع بين محمود شوكت باشا رئيس وزراء الدولة وبين رأس اولئك الشباب السيد عبد الحميد الزهراوي ؟ وهل ثمة ربط بين اعدام الزهراوي لاحقا وبمعيته كوكبة من الشباب المناضلين والمثقفين العرب وبين مصرع محمود شوكت باشا البغدادي الصدر الاعظم ؟ وهل كان محمود شوكت باشا قد وعد الشباب العربي بأية وعود سيسعى لتحقيقها لهم سرا مما يخالف سياسة الاتحاديين ، علما بأن الرجل لم يكن اتحاديا ولم ينتظم في جمعية الاتحاد والترقي ابدا ، كما اشيع عنه ؟ وللعلم ان مدير امن العاصمة استانبول كان جمال باشا ، ذاك الذي دعي بالسفاح الذي اصدر اوامر الاعدامات بحق الشباب العربي في دمشق وبيروت لاحقا ..
جمال باشا ( السفاح ) عند ولايته لبغداد وهو بين شيوخ القبائل العراقية في جنوب العراق
وقبل ذلك كان جمال باشا قد نصب واليا على بغداد لمدة سنة .. وفشل في مهمته بعد الاضطرابات السياسية التي حدثت ببغداد وانحاء العراق ضد سياسته ، وبعد ان عرف عدة اسرار سياسية عن موقف العراقيين والسوريين معا من حكم الاتحاديين .. ؟؟
لقد قلت في ورقتي البحثية التي القيتها في ندوة باريس قبل ايام : لقد تأكد لي من خلال الاطلاع على وثائق واوراق تاريخية ومراسلات ( لم تنشر بعد حتى يومنا هذا ) ان الصدر الاعظم محمود شوكت باشا قد قتل صباح يوم 8 يونيو / حزيران 1913 جراء مؤامرة نفذها مجهولون،ولكن خطط لها الاتحاديون بالرغم من فرح الائتلافيين بمصرع الرجل الذي قضى على محاولتهم الانقلابية ، ويبدو لي بشكل واضح ان جمال باشا ( السفاح ) كانت له علاقة مباشرة بالموضوع وقد صرّح في العاصمة الاستانة ، وكان محافظا لها بالتالي عقب حادثة الاغتيال بثلاثة ايام ، اي في يوم 12 حزيران / يونيو ، قائلا : " بأنه لا يد لأحد من رجال الجيش في جريمة قتل شوكت باشا " . وعقّب قائلا : " بأن لديه تعليمات عن القاتل الذي كان معه ثلاثة شركاء " . ( نقلا عن اوراق وكالة هافاس )
العلاقة مع المؤتمر العربي الاول
السؤال المهم : ما علاقة مصرع هذا القائد الذي غدا رئيسا للوزراء ( = الصدر الاعظم ) بمؤتمر باريس العربي الاول ؟ وهل ثمة علاقة بين مصرعه وشباب ذلك المؤتمر ؟
اقر بعض ابناء الجالية العربية الذين نزحوا الى باريس المطالبة بالإصلاح من خلال عقد مؤتمر يجمعهم في نهاية شهر حزيران / يونيو 1913 في العاصمة الفرنسية ، وقاموا بالدعوة الى المشاركة فيه بنشره في عموم الارض العربية ، ورجوا ان على من لا يحضر قيامه بإرسال برقية او رسالة بريدية سواء بصدد مشاركتهم او ما يتقدمون به من طلبات .. ولقد تضمنّت الدعوة الى ابناء الامة العربية عدة افكار من اجل مناقشتها لتقديم مطالبات العرب الى الدولة العثمانية .
نعم ، قبل انعقاد المؤتمر بقرابة اسبوعين يقتل رئيس الوزراء ( الصدر الاعظم ) محمود شوكت باشا والذي حكم اقل من ستة اشهر ( حكم بين 25 /1/ 1913 وبين 11 /6/ 1913 ) . هنا يتبادر السؤال الذي يفرض نفسه : هل كانت عراقيته سببا في التخلص منه ؟ وتحوم اسئلة اخرى : اذا كان جمال باشا يحكم الامن في العاصمة استانبول ، فلماذا جرت تغطية رسمية على الجريمة ؟ لقد كشفنا بأن ثمة صلة بين محمود شوكت باشا وبعض المؤتمرين العرب وخصوصا السيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر ؟ وعليه ، لماذا لم يتم التحقيق مع القتلة الذين قبض عليهم ؟ وما مصيرهم ؟ لماذا لم يسمع العالم شيئا عن محاكمتهم وادانتهم وتنفيذ العقوبة بهم ؟ هل كان محمود شوكت باشا يعرف اهداف المؤتمر ، او حتى على اطلاع بسيط على غاياته وخطط مؤسسيه العرب ؟ وهل وعد الشباب العربي بأية وعود ، وخصوصا حول نظام اللامركزية العثمانية الذي كان المؤتمرون يطالبون بتطبيقه في الولايات العربية ؟ ما علاقته بالعضوين العراقيين في المؤتمر ، وهما كل من توفيق السويدي ( طالب القانون في السوربون ) وسلمان عنبر التاجر العراقي المعروف ؟ لقد درس السويدي الحقوق في استانبول وتخرج في كلية الحقوق سنة 1912 واكمل دراسته الاكاديمية في فرنسا حيث مثل العراق في المؤتمر العربي الاول الذي عقد هناك سنة 1913 (وكان برفقة التاجر العراقي سلمان عنبر الذي لم ازل ابحث عن اية معلومات عنه ودوره في المؤتمر ) . إذا كان المؤتمر العربي الأول يعد محاولة سياسية عربية اولى في اقناع الاتحاديين كي يعترفوا بحقوق العرب في اطار الدولة العثمانية من خلال منحهم النظام اللامركزي .. وقد وجهت الدعوة الى عدد من الساسة والمثقفين العراقيين والسوريين المشتغلين في القضية العربية من دون العسكريين ، وبالنظر لتواجد توفيق السويدي وهو
طالب القانون في باريس ، فكان ان قام بتمثيل العراقيين والقى كلمتهم في المؤتمر .. ولقد تم نتيجة المفاوضات التي اجريت في العاصمة استانبول عقد اتفاقية سرية من اثني عشر بنداً ، ومنها ما تضمنه الفرمان السلطاني الصادر في ٥ آب / اغسطس ١٩١٣ .
محمود شوكت باشا بين موقفين متضادين
كان مصرع الرجل بمثابة كارثة للعراقيين ، اذ اثار الحدث حزن الناس وتعاطفهم مع هذا القائد العراقي الكبير الذي اتسم بمهنيته العالية وقوة شخصيته والتزامه بالمؤسسة العسكرية في الدولة .. ناهيكم عن كونه اول صدر اعظم في الدولة العثمانية عراقي المنبت والثقافة والتكوين .. كما حزن عليه العرب الذين جسّد امالهم وتعاطف مع قضاياهم وربطته علاقات قوية بهم .. اضافة الى ان الحدث هزّ كيان الدولة العثمانية كلها .. ولقد وقف ضده الائتلافيون الاسلاميون علنا سواء كانوا من الترك ام العرب ، في حين تخّلص منه الحكام الاتحاديون نهائيا .. ولقد كتبت كل الصحف العثمانية في تأبينه وذكر مآثره ومنجزاته وفتحه الطريق الجديد لتاريخ جديد في القرن العشرين .
ينتقد محمد رشيد رضا الصدر الاعظم محمود شوكت باشا بعد مصرعه .. وبالرغم من ثنائه عليه ، ولكن ينال منه ومن سياسته التي لا تتفق ورأي رضا ، ويقول عنه انه لو كان شجاعا لقضى على الاتحاديين ، ولكنه يسجل بأن محمود شوكت باشا ذهب يزور عبد الحميد الزهراوي الذي كان مبعوثا عن اللامركزيين العرب ، كما ينتقده على موقفه من الحوادث التي جرت في بعض المدن العربية وسياسة القمع العثمانية ضد الثائرين ، ولكن شوكت باشا خطب في نظارة الحربية وامر بامتناع الضباط الاشتغال بالسياسة .. ولعل من اخطر الاقوال التي قالها شوكت باشا :
" إنني أسمع كلامًا في هذا لا يعجبني وأرى مستقبل الدولة لنا نحن العرب ؛ لأننا أكثر عددًا وأزكى فهمًا وأنشط في العمل ، ولكن يجب أن ندخل أولادنا مدارس الدولة ونرتقي بها ، ولكنه مع هذا لم يساعد العرب .. " .. وبالرغم من انتقادات محمد رشيد رضا للصدر الاعظم كونه لم يساعد العرب ولا كفَّ عنهم شيئا من العدوان بل هو الذي سير الحملات العسكرية إلى اليمن و الكرك و حوران إطاعة للجمعية . على أن هذه الشدة هي التي كونت المسألة العربية الحاضرة . لقد وجدت محمد رشيد رضا متحاملا على الصدر الاعظم ، اذ لا اعتقد ان التمردات التي حدثت في اليمن وحوران والعراق وغيره من الاماكن العربية جديدة ، بل يعود تاريخها الى ازمان سبقت ، ولم تكن تلك التمردات تنطلق من مبادئ عربية ، بل كان بعضها يحمل شحنات غضب محلي ، وبعضها الاخر يعكس التعاطف مع السياسة الحميدية ..
من المؤكد ، ان محمود شوكت باشا ، - كما ورد في الاخبار الخاصة - كان عازما على إجابة العرب إلى مطالبهم الإصلاحية ، وإن كان هو الذي أمر بتشديد حازم بك على طلاب الإصلاح في بيروت . وقد أشار طلعت بك ، وكان احد القادة الاتحاديين في كلام له نشرته احدى الصحف العثمانية إلى ميل شوكت باشا إلى إجابة العرب إلى ما يطلبون من الإصلاح المعقول . وبدا لنا بشكل واضح ان عبد الحميد الزهراوي كان حلقة وصل بين المثقفين والساسة الشباب العرب سواء كانوا من الاصلاحيين او القوميين وبين محمود شوكت باشا الصدر الاعظم الذي بدا من كلامه انه كان متعاطفا مع الآمال العربية ، وانه كان يؤمن بمطالب العرب ، بل ويعتقد بأن العرب لهم القدرة على تسيير امور الدولة .. وان محمد رشيد رضا يعكس وجهة نظر مغالطة في موقفه من الصدر الاعظم ، اذ كان رضا يعبر عمّا يحمله الائتلافيون من مواقف مضادة ازاء الوضع الجديد الذي كان محمود شوكت باشا وراء صناعته ، وكانوا متعاطفين مع السلطان عبد الحميد الثاني .. فانتقده في تسيير الحملات ضد بعض البؤر العربية من دون ان يعلم طبيعة تلك التمردات المحلية وهو لا يعرف لا تواريخها ولا طبيعة عواملها واسبابها .. لقد قتل محمود شوكت باشا في خضم الازمة السياسية الداخلية ، ولم يكشف تاريخيا حتى يومنا هذا عن الاسباب الحقيقية لمقتله الذي جاء قبل انعقاد المؤتمر العربي بأيام قليلة ، علما بأن كل الدلالات تشير الى طبيعة العلاقة بينه وبين بعض المستنيرين العرب ، وخصوصا مع عبد الحميد الزهراوي الذي قام بشنقه جمال باشا السفاح بعد قرابة سنتين مع اركان المؤتمر العربي الاول بباريس وابرز المشاركين فيه والمتعاطفين معه ، وخصوصا عندما تولى جمال باشا حكم الشام .
واخيرا .. ماذا اقول ؟
اننا بعد مائة سنة على رحيل قائد عسكري عثماني عراقي وقتله .. وهو محمود شوكت باشا الصدر الاعظم للدولة يمثل لنا ذلك حدثا تاريخيا مهما جدا .. وبالرغم من بقائه يعيش في الذاكرة التاريخية ، الا ان حقه التاريخي قد غبن كثيرا من قبل العراقيين انفسهم والذين تحوّل تاريخهم بالكامل اثر الحرب العالمية الاولى وطويت صفحات التاريخ العثماني .. وسواء كانت للرجل حسناته او سيئاته ، فيكفي انه كان علاقة مع المصلحين والمثقفين والساسة العرب وانه يؤمن بأن الثقل العربي في الدولة العثمانية اكبر بكثير من الثقل التركي .. وان مصرعه نفسه يحمل دلالات عديدة لصالح تاريخ الرجل .. وليكن معلوما بأنه بقي يرتبط بالعثمانيين حتى آخر لحظات حياته ويدافع عن الدولة دفاعا مستميتا ، ويؤمل بإحداث اصلاحات متنوعة سياسية وادارية واقتصادية ، وكان من البساطة عليه والدولة ومصيرها بيديه ان يعلن القضاء عليها ويؤسس نظاما جديدا فيها ، خصوصا وان هناك قادة عراقيين كبار في الجيش العثماني سواء كانوا من الموصل ام بغداد ، امثال محمود شوكت باشا ( الصدر الاعظم ) وهادي باشا العمري رئيس الاركان وسامي باشا الفاروقي قائد الجيش الجنوبي وجاء من بعدهم : جعفر باشا العسكري قائد الحملة العثمانية في الحرب الطرابلسية ضد ايطاليا وياسين باشا الهاشمي رئيس اركان حرب حاكم سورية العسكري ونوري باشا السعيد رئيس اركان حرب الشريف حسين ضد الاتحاديين وغيرهم .. وكان كل من العراق وبلاد الشام حتى تلك اللحظة التاريخية من 1913 ما زالا في المجال العثماني .. ان مصرعه في تلك اللحظة التاريخية يعد بمثابة ايقاف متعمّد للتاريخ من قبل الاتحاديين الذين اتبعوا سياسة شرسة جدا بعد تلك اللحظة التاريخية وما اعقبها بعد ايام من عقد للمؤتمر العربي الاول أي بين 8- 20 حزيران / يونيو 1913 ، فبدأ التنكيل بالعرب جهارا ، وتدخل الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى ،...
ويزداد التنكيل والاضطهاد بإعدام قوافل من الشهداء السياسيين والمثقفين النهضويين وقادة المؤتمر العربي الاول والجمعيات العربية التي كان قد انضم اليها اغلب المثقفين العرب الاحرار من بلاد الشام والعراق مع(عزيز علي المصري ) ويحتل البريطانيون كل من العراق وفلسطين ويدخل الانكليز كل من بغداد باحتلالها من قبل الجنرال مود ، والقدس واحتلالها من قبل الجنرال اللنبي .. وجرى كل من الحدثين في سنة 1917 ، ونتيجة للسياسة القاسية التي اتبعها الاتحاديون ضد العرب اشتعلت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين بن علي من قلب الحجاز وتقدمها نحو دمشق عام 1916 . ان كثيرا من الناس تنتقد ثورة الشريف حسين كونها ثورة ضد الشرعية العثمانية من دون اية معرفة بتفاصيل السياسة القاسية التي اتبعها الاتحاديون باسم العثمانيين ضد القوميات المتنوعة في الدولة العثمانية ، وخصوصا تعاملهم ازاء المسألة العربية .
نشرت في الزمان اللندنية ، 25 حزيران / يونيو 2013 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل www.sayyaraljamil.com
الگاردينيا: هذه المادة التأريخية المهمة أرسلها لنا كاتبها الأستاذ الدكتور /سيٌار الجميل .. فشكرا له..
نشرها ايضا على صفحته في الفيسبوك
438 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع