عبد الرحمن عارف.. الرئيس العربي الوحيد الذي أدى دور الملك الدستوري
الجزيرة/د. محمد الجوادي:كان الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف 1916-2007 إنسانا متميزا لا شك في ذلك، حتى لو أنكر كثيرون أن تكون البساطة تميزا، وحتى لو أنكر كثيرون أن توجد زعامة إنسانية مع حياة سلسة خالية من العقد والتعقيد. وكان وصول الرئيس عبد الرحمن عارف إلى حكم العراق بمثابة حل من الحلول الوسطى الذكية التي يمكن وصفها باختصار بأنها حلول تلقى القبول لكنها لا تلقى الاستمرار، فقد توفي شقيقه الأصغر منه بأربع سنوات الرئيس عبد السلام عارف 1920- 1966 في حادث طائرة مفاجئ، وكان الرجل الثاني والمرشّح الطبيعي في ذلك الوقت الذي كانت العراق قد استقرت فيه نوعا ما هو رئيس الوزراء المدني الاقتصادي العلامة الدكتور عبد الرحمن البزاز، لكن القوى المحيطة بالعراق لم تكن ترغب في هذا النوع من القيادة المدنية الحكيمة التي ستستند إلى مؤسسات وديموقراطية، وهكذا فإن القوة العربية القريبة من العراق والمسموح لها بالتدخل المحدود فيه بما يتسق مع الحسابات الدولية (وهي مصر) كانت جاهزة بمرشّحين اثنين، أولهما هو الرئيس عبد الرحمن عارف شقيق الرئيس الذي توفىّ لتوّه، وثانيهما هو عارف عبد الرزاق الذي قام بمساعدة مصر بمحاولتي انقلاب: كانت الأولى في عهد الرئيس عبد السلام عارف وكانت الثانية في عهد شقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف.
لا تختلف الروايات المصرية المتعددة كثيرا في توصيف مدى تدخّل صاحب القرار المصري وأسباب تفضيله للرئيس عبد الرحمن عارف (ويبدو أن هذه كانت وجهة نظر فريق الرئيس جمال عبد الناصر) أو لعارف عبد الرازق (ويبدو أن هذه كانت وجهة نظر المُشير عبد الحكيم عامر)، لكن أمين هويدي الذي عمل سفيرا لمصر في العراق والذي كُلّف بتبليغ رأي مصر في الخلافة والعمل من أجل تنفيذه، روى ذكرياته في كتابين من كتبه، وفي مواضع أخرى بما يكشف النقاب عن نفوذ وغطرسة المسؤولين المصريين الذين تعاملوا مع هذا الملف، وبما يكشف النقاب أيضا عن حجم مُعاناة العراق من أشقّائها، وهي معاناة صامتة انتهت على غير تخطيط لمصلحة حزب البعث الذي كان على خلاف مُستعر (ومُستمر) مع الرئيس جمال عبد الناصر ونظام الرئيس جمال عبد الناصر بمن فيه المشير عامر بالطبع.
لكن العراقيين مارسوا كل ما كان مُتاحا لهم من آليات ديموقراطية، حتى أنهم أجروا انتخابات بين عبد الرحمن عارف، وعبد الرحمن البزاز، ومارسوا التصويت تحت ضغوط العسكر في أكثر من جولة مرت بها هذه الانتخابات. حتى استقر الامر للضابط على حساب الاقتصادي، وكلاهما اسمه عبد الرحمن.
نشأته ومناصبه العسكرية
تخرّج الرئيس عبد الرحمن عارف في الكلية الحربية 1939 بما يُوازي التأخر في التخرج بثلاث سنوات بعد الفريق أول محمد فوزي الذي ولد معه في عام واحد وتخرّج قبله في 1936 (والذي كان سابقا على قادة الثورة 1952 في الأقدمية والمولد) وظل الرئيس عبد الرحمن عارف يخدم في القوات المسلّحة حتى أحيل للتقاعد في 1962 أي في عهد عبد الكريم قاسم فلمّا قامت الثورة التي جاءت بأخيه رئيسا للعراق أُعيد للخدمة في نفس اليوم 8 فبراير 1963 ونال رتبة اللواء في العام التالي في 1964، وأُسندت إليه رئاسة أركان الجيش العراقي.
واصل الرئيس عبد الرحمن عارف في رئاسته للجمهورية سياسة شقيقه الرئيس عبد السلام عارف بنجاح كبير يُحسبُ له، وكان وجوده في حد ذاته ضمانا لاستمرار الخُطط التي بدأها عبد السلام عارف حتى لو لم يبدأ هو خُططا جديدة، وقد حافظ بأكبر قدر ممكن على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وعوامل التنمية الاقتصادية والتقدم الحضاري، وكان عهده خاليا تماما من الصرعات والصراعات على حد سواء، كما كان تعاونه مع أشقائه العرب مثلا للاتزان والانتماء، لكن هذا كله (كما نعرف) لا يكفي السياسي في العالم العربي الذي كانت جماهيره تتوق إلى الفعل ورد الفعل وإلى لسعة العبقرية، وتكاليف الزعامة، وهكذا كان البعث يُمارس تدبيره لإزاحة الرئيس عبد الرحمن عارف وتولي السلطة بدلا منه، وهو ما حدث بالفعل في يوليو 1968.
ومع أن وصول البعث للسلطة تم بترتيبات وتوافقات دولية ليس من الضروري أن تكون علنية، فإن كل الكتابات التاريخية التي تتناول هذه الحقبة تتصور وتصور أن إزاحة الرئيس عبد الرحمن عارف كانت نتيجة لغدر البعثيين ومن تعاون معهم من رجال القصر الجمهوري الذين فتحوا أبواب القصر لقادة الانقلاب البعثي للدخول إليه وتهديد الرئيس عبد الرحمن عارف، ثم الحصول منه على التنازل مع اشتراطه أن يصطحب معه ابنه قيس الضابط في البحرية العراقية إلى منفاه في (إسطنبول) تركيا.
إخلاصه هو سبب التخلص منه
والحق أن التأمل في دور الرئيس عبد الرحمن عارف (شبه الخاطف) في التاريخ العربي المعاصر ربما يقودنا إلى إدراك دوافع الغرب في التدخل في السياسة العربية وطبيعة هذا التدخل. فعلى الرغم من هذا الهدوء الذي كان العراق في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف يتعامل به مع الغرب والشرق على حد سواء، وعلى الرغم من بُعد العراق عن المُغامرات عربيا وإقليميا، فإن القوى الخارجية لم تكن لتقبل بهذا النوع من الاستقرار البسيط، وإنما كانت هذه القوى أمْيل إلى مُمارسة اللُعبة السياسية مع قوى تضطر نفسها بنفسها إلى أن تطلب تعاون الغرب أو أسلحته أو تدخّله، ولما كانت الناصرية في ذلك الوقت (1968) تلفظُ أنفاسها من الإجهاد والشيخوخة المبكرة لا من الهزيمة فحسب فقد كان الغرب يُعوّلُ على إعطاء الفرصة للبعث العربي لممارسة ما يصفه أعداؤه بأنه العبث بمُستقبل العراق من دون أن يدري كيان البعث أنه يعبث، وإنما هو على يد كثير من كوادره المخلصة له يُمارس مُراهقة فكرية يظنها شبابا، ويُمارس نزقا يظُنّه حماسا، ويُمارس اندفاعات مُتضاربة يظُنها إيجابية مُتعددة السُبُل..
وهكذا كان الإيعاز إلى البعث أو تهيئة الفرصة له كي يستولي على العراق في وقت لم يكن فيه من يستطيع أن يتصدّى له إلا الحكم الديموقراطي والمُناخ الديموقراطي الذي لم يكن موجودا ولا مسموحا للعرب به. وقبل هذا فإنني أميل إلى القول بأن السبب الحقيقي لإزاحة الرئيس عبد الرحمن عارف عن موقعه يعود إلى التجلي في موقف الجيش العراقي في حرب 1967 فقد أبلى هذا الجيش في هذه الحرب بلاء حسنا، وكان توجهه إلى النصر والثأر واضحا كل الوضوح على عكس موقفه في حرب 1948.. وقد انتقلت قوات الجيش العراقي إلى ما كان يُسمّى الجبهة الشرقية لحماية سوريا والأردن، ولم تتمكّن القوات الإسرائيلية من تحقيق أي نصر على هذه القوات العراقية، بيد أن الهزيمة النكراء التي شملت الاستيلاء على أراضي من أربعة دول مصر وسوريا والأردن (ولبنان) جعلت من الحديث الواجب عن بطولة الجيش العراقي ودوره نوعا من الأمور المُحرّمة. لكن الروح الإمبريالية الأمريكية المصحوبة بالذكاء انتبهت إلى ضرورة المسارعة بالعبث في هذه الجبهة القوية التي لم تكن في حساباتها قبل الحرب.
قصه هروب الجاسوس الطيار منير روفا بالطائرة السوفييتية الميج 21 إلى إسرائيل
ومن الحق أن نقول إن الأمريكان بدأوا فتح أعيُنهم وأعين العالم على جبهة العراق حين تمكّن الجاسوس الطيار منير روفا (1934 ـ 1998) من الهروب بالطائرة السوفييتية الميج 21 إلى إسرائيل في 16 أغسطس 1966 بتدبير من الموساد الإسرائيلي، وقد عُدّت هذه العملية من أنجح عمليات الموساد، وقد تمكّنت الموساد أيضا من تهريب عائلة منير روفا من العراق، ومع أن منير روفا في المؤتمر الصحفي الذي عقدته له إسرائيل عند هروبه بالطائرة طلب اللجوء والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإن طلبه لم يُجب بل لم يُسمح له بمغادرة الأراضي الإسرائيلية، حتى إنه عاش فيها ثلاثين عاما حتى توفي، وقد مُنح منير روفا الجنسية الإسرائيلية ومكافأة مالية فحسب. يُروى أن هذا الطيار قلّد في خطفه للطائرة أحد أفلام جيمس بوند، ومن ناحية أخرى فإن قصّة خطفه للطائرة نفسها صيغت في فيلم تلفزيوني أمريكي في 1988.
على كل الأحوال فإن هذين السببين المتمثلين في تطور التسليح العراقي الذي دل عليه حادث اختطاف الطائرة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تتطلع لأن تطّلع على أسرارها المُذهلة (أولا) ثم الأداء العسكري العراقي التحفزي والمتميز في حرب 1967(ثانيا) كانا بمثابة دافعين جوهريين للحرص على إقحام وإبقاء العراق في مشروعات قلاقل لا تُتيح له الاستمرار في خطة تنموية ولا تعبوية، وهو ما كان يتطلّب إزاحة رئيس عاقل من طبقة الرئيس عبد الرحمن عارف.
اتساق نهاية عهد الرئيس عبد الرحمن عارف مع الموازين الدولية
وهكذا كانت نهاية عهد الرئيس عبد الرحمن عارف أمرا واضح الاتساق مع الموازين الدولية الحاكمة في ذلك الوقت، ومن الجدير بالذكر أننا على الرغم من مُضي أكثر من خمسين عاما على وقوع الانقلاب الذي أطاح بالرئيس عبد الرحمن عارف لم نُواجه نُصوصا تُشير إلى أنه لجأ إلى أية قوة خارجية حين وقع الانقلاب، ولا أن أية قوة خارجية حاولت الاتصال به أو تأمين خروجه أو نفيه. كان خروج الرئيس عبد الرحمن عارف من الحكم هادئا على نحو ما كان دخوله إليه، وقد انتقل ببساطة شديدة إلى المنفى في إسطنبول لأنه لم يكن له خبرة بالحياة في الغرب مثل شقيقه الرئيس عبد السلام الذي كان قد عاش في ألمانيا، كما أنه بذكائه أدرك أن القاهرة لن تكون مريحة له.
لم يُشارك الرئيس عبد الرحمن عارف في أي نشاط سياسي بعد خروجه من منصب الرئاسة، بل إنه كما سنرى تقدّم بعد عشرين عاما (1988) بطلب للرئيس صدام حسين الحاكم القوي في العراق في ذلك الوقت كي يعود للإقامة في بغداد، وعاد، وعاش في هدوء حتى روى بعض الصحفيين في مقالاتهم أنهم كانوا يرونه في الحي الذي سكن فيه، وهو يتسوّق مرتديا الروب دي شامبر على الزي العراقي التقليدي. ومع أن مُحبّي أو عشاق الضجة التي تتولد عما يسمونه بالكاريزما لايزالون يستخدمون اسمه في السُخرية الظالمة من طراز جميل ونبيل ونادر من الرؤساء يعيشون الحياة الطبيعية فإن هذا لا يُقلّلُ من قدره ولا من قيمته عند من يحترمون الحياة الطبيعية وعند من يحترمون الحياة الإنسانية والأنسنة التي لا تتوافر للذين يتولون السُلطة فيُفسدون ويَفسدون. وقد كان الرئيس عبد الرحمن عارف، كما ذكرنا، إنسانا متميزا لا شك في ذلك حتى لو أنكر كثيرون أن تكون البساطة عظمة، وأن توجد زعامة إنسانية مع حياة خالية من العقد.
عودته من المنفى
في ١٩٨٨ وبعد عشرين عاما في المنفى عاد الرئيس عبد الرحمن عارف إلى العراق بإذن من الرئيس صدام حسين كما ذكرنا فلمّا وقع الغزو الأمريكي للعراق آثر أن ينتقل إلى عمان في الأردن حيث عولج، وحيث توفي في 24 أغسطس 2007، بل وحيث دُفن في مقابر للشهداء العراقيين في مدينة المفرق على الحدود العراقية الأردنية.
473 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع