في الذكرى الثالثة بعد المائة لتأسيس جيش العراق الباسل
اللواء الركن المتقاعد
علاء الدين حسين مكي خماس
6 / 1 / 2024
يصادف هذا اليوم السادس من شهر كانون الثاني 2024 الذكرى الثالثة بعد المائة لتأسيس الجيش العراقي الباسل عام 1921. ولئن كنا نتذكر هذا اليوم التاريخي، فإنما نتذكر أهم مقوم من مقومات دولة العراق المعاصر التي تأسست في مطلع ذلك العام تحت الحماية البريطانية والتي نالت الاستقلال عام 1932 وانضمت إلى عصبة الأمم ذلك العام. والجدير بالذكر أن الجيش العراقي قد تشكل قبل أن تتشكل الدولة العراقية، فكان المرتكز الأساس لكيانها، وحامي حماها والمدافع عنها وعن مصالحها، ليس هذا وحسب، بل إنه كان البوتقة التي انصهرت بها جميع مكونات شعبنا العراقي الأبي. فقد كان من بين جنوده وقادته عدد من الكرد والتركمان والمسيحيين ضباطاً وصلوا إلى اعلى المراتب ، وكان جنوده ومراتبه ولاسيما بعد إدخال الخدمة الإلزامية يشكلون مجتمعا عراقيا مصغرا يعملون جميعا بتآخي وإخلاص لخدمة العلم ( علم العراق) وليس علم آخر ، تربطهم جميعا علاقة احترام ومحبة ضمن اطار من الضبط العسكري والتدريب الراقي والتقاليد والسياقات التي تكونت على مر السنين والتي مكنت هذا الجيش ، بالرغم من الصعوبات التي لقاها خلال مسيرته التاريخية من الحفاظ على كيانه وتجاوز الصعوبات والنكبات التي مر بها والتي يعرفها الجميع .
وقد شارك جيشنا بكل قوة وهمة في كل معارك العراق والأمة العربية سواء في فلسطين أو غيرها ممن لم تتناوله وسائط الإعلام بالشرح الكثير. كما ساهم جيشنا في تأسيس وتطوير جيوش عربية أخرى كالجيش الأردني الذي أسست كلية أركانه من قبل الضباط العراقيين والجيش الليبي الذي تأسست كليته العسكرية من قبل ضباطنا وقبلهما الجيش اليمني في الأربعينيات القرن الماضي حيث كانت البعثة العسكرية العراقية آنذاك هي من ساهمت في تحديث ذلك الجيش، كما أن جيشنا ساعد الثوار الجزائريين في قتالهم ضد فرنسا لنيل استقلالهم، وساعد جيوش المغرب ولبنان والأردن بإهداء الكثير من الأسلحة والتجهيزات لهم وبأعداد ليست بالقليلة كالدبابات والطائرات المقاتلة ناهيك عن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
ولا بد لنا ونحن نتحدث عن جيشنا الباسل أن نذكر المعارك التي خاضها دفاعا عن العراق وانتصر فيها بالرغم من عدم تناسب موازين القوى وأهمها حرب السنوات الثمانية مع ايران ، تبعتها حرب الحلف الثلاثيني ضده بعد أحداث الكويت والتي قارع فيها اعتى القوى العالمية وتمكن من ايقافها، واعترف الخصم بها وما معركة (خط التشريق 74 ) عام 1991 إلا مثال واضح على ذلك، اضطر بعدها الأمريكان إلى إيقاف حربهم آنذاك، ليباشروا حصاراً قاسيا على العراق استنزف الشعب والجيش، ثم ليشنوا عليه حرباً عالمية بكل معنى الكلمة ويحتلوا العراق عام 2003 وكان ما كان .
وبهذه المناسبة فقد اطلعتُ على تقرير امريكي اجراه محللون استراتيجيون تابعون لمركز الدراسات الاستراتيجية لكلية الحرب للجيش الأمريكي ، وقد كتبوه عام 1990 ، أي إبان ازمة الكويت وعندما كان الجيش مازال هناك . وكانت غاية هذا التقرير دراسة إمكانات جبيشنا لكي يتوصلوا الى احسن طريقة للتعامل معه . والتقرير طويل ، وهو بمثابة شهادة من الأعداء عن جيشنا ، لكن من يقرأه لا بد ان يشعر (من الناحية المهنية على الأقل) بنوع من الفخر والاعتزاز بما وصل اليه جيشنا في ذروته وامكاناته . لذا وددت نقلها الى القارئ الكريم للاطلاع عليها ، ليس من باب الإصرار على الفعل السياسي الذي كلف به جيشنا آنذاك بغزو الكويت، ولكن من باب المهنة العسكرية البحتة والتي بينتها شهادات الأعداء. راجيا اطلاع القارئ الكريم عليها .
ترجمة لخلاصة تقرير الدروس المستنبطة من الحرب العراقية الايرانية:
خرج العراق من حربه مع إيران كقوة عظمى في الخليج العربي. لكن لم تكن هذه هي غاية الحرب ، فهو لم يلجأ الى الحرب بشكل متعمد لتعزيز موقفه الاستراتيجي أو لفرض هيمنته على المنطقة. لقد حقق العراق مكانة القوة العظمى الإقليمية من خلال سلسلة من الخطوات التصعيدية التي كانت مطلوبة لصد الحملة المتشددة من ايران الإسلامية. لقد نجح القادة العراقيون في تعبئة وتحشيد قوات شعب متعدد المكونات ، وتعزيز قواته المسلحة، وتوحيد مجتمعه وتحويله الى قوة تمكنت بالتالي من شن العمليات التعرضية وإنهاء الحرب مع إيران.
ان الأمر الرئيسي الذي حققه العراق كان نجاحه في تعبئة جيش يضم مليون مقاتل، من مجموع شعب لا يتجاوز عددهم 16 مليون نسمة. وقامت هيئة الأركان العامة العراقية بتدريب المجندين على التقنيات المعقدة للحرب الحديثة وتجهيزهم بأحدث الأسلحة.
وبالتالي، تمكنوا - في معركة ( الحصاد الأكبر) الحاسمة- التي تسميها ايران( كربلاء الخامسة ) الحاسمة ، من توجيه ضربة مدمرة لإيران، والتي انهتها يومذاك كقوة عسكرية في الخليج العربي .
يشرح هذا التقرير كيف حقق الجيش العراقي هذا الإنجاز. ويقوم بتتبع تقدمه خلال مراحل مختلفة من تطوره، ويوضح المهارات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية(التعبوية) التي أظهرها في الحملات النهائية عام 1988
وفي الوقت نفسه، يستخلص التقرير درسًا قاتمًا من الصراع وهو أن الحروب الطويلة، وخاصة تلك التي تُخاض بضراوة كما في تلك الحرب ، تكون تكلفتها باهظة جداً على المنتصرين وكذلك على المهزومين. ويجدر بالذكر أيضا ان العراق اكتشف بعد الحرب، أنه أصبح يعتبر تهديدًا لاستقرار المنطقة؛ إذا أن الدول الأخرى بدأت تخشى من قوته الفائقة. بل حتى الدول التي كانت قد ساعدته سابقًا في قتاله ضد إيران، رفضت تقديم المساعدة اللازمة بعد الحرب.
ونتيجة لذلك، لم يتمكن العراق من سداد الديون الهائلة التي تكبدها لخوض الحرب، ولم يتمكن من الحفاظ على الجيش المكون من مليون مقاتل والذي أصبح مصدر فخر وطني. بل أن قيادته توقعت أن كارثة تلوح في الأفق سوف تقع ، ما لم تجد طريقًا للخروج من مأزقها.
يستمر معدوا التقرير فيقولون : وفي النهاية، يبدو أن العراق قد اعتبر غزو الكويت حلاً محتملاً، وهو فعلٌ أثار استنكار العالم بأسره تقريبًا. وقد تنجح هذه المقامرة العراقية التي ما زالت قائمة ، على الرغم من شكوكنا في ذلك. حيث توصلنا نتيجة دراستنا المعمقة للموضوع الى قناعة، أن المستقبل السياسي والاستراتيجي للمنطقة سيكون حالكا ً ومفعما بالمتاعب في الخليج العربي. فقد كان الخليج في يوم من الأيام جزيرة تنعم بالاستقرار، وأصبح الآن في مهب الريح من مصالح القوى المتضاربة. ومن الصعوبة تحديد ما إذا كان يمكن استعادة السلام في هذه المنطقة.
وعلى الرغم من ان الازمة الحالية في الكويت منفصلة عن موضوعة الحرب العراقية الإيرانية التي ندرسها ونحللها في هذا التقرير، لكننا يمكن أن نقول انها نتيجة لها.
الدروس الأساسية المستبطة على مستويات فن الحرب هي:
دروس سياسية / استراتيجية
- يعتبر الجيش العراقي جيشاً من الشعب: أو جيش الشعب Peoples Army . وقد قام النظام باستدعاء كامل للقوى العاملة المتاحة في عام 1986، أي ما يمكن ان يقال عنه انه نفير عام. وكانت الاستجابة الشعبية جيدة. فلم تحدث أعمال شغب بسبب التجنيد؛ بل إن الشباب، حتى طلاب الجامعات، قد استجابوا وانخرطوا في صفوف القوات المسلحة دون أي اعتراض او حادث. وتبين لنا حقيقة أن الجمهور أستجاب للدعوة، أن العراقيين كانوا يدعمون حكومتهم.
- لا يعتبر الانتماء الى صنف المشاة في العراق أمراً معيبا: تم تسجيل طلاب الجامعات في أفواج المشاة لقوات النخبة “الحرس الجمهوري” والتي تعتبر قوات تابعة للرئيس مباشرة ، مرتبطة به لذا تلقى عنايته المستمرة أكثر من الوحدات الأخرى ، حيث يتم تكريمها ومكافأتها على انجازاتها.”
- الأركان العامة في العراق ليست سياسية ( مسيسة). إنها مشابهة إلى حد كبير النموذج التركي. وهي ليست مهتمة بالتدخل في السياسة، ولن تفعل ذلك طالما تم الحفاظ على كرامة الجيش. ان أحد التغييرات الرئيسية التي أحدثتها الحرب كانت اضعاف السيطرة السياسية على الجيش. على الرغم من أنه لا زال هناك مفوضون سياسيون مرتبطون بالوحدات الكبرى، ولكنهم لا يستطيعون التصدي للأوامر العسكرية او مخالفتها او تغييرها. ولكن في الوقت نفسه، يمكن أن يكون مصير الضباط الذين يفشلون فشلاً ذريعاً هو الإعدام ، وهذا بالتأكيد عائق ضد حريتهم في اتخاذ إجراءات مستقلة او قرارات جريئة في ميدان المعركة إذا كان فيها بعض المجازفة.
- معدل القراءة والكتابة لدى الجنود العراقيين مرتفع نسبياً؛ ويعتبر هذا المستوى عالٍ جداً مقارنة بمستواه في الجيوش العربية الأخرى. السبب في هذا يعود الى ان النظام كان قد سعى قبل اندلاع الحرب، الى تحقيق معدل القراءة والكتابة 100 في المئة من خلال برامج محو الامية . إن معدل خمسة وثمانون في المئة من منتسبي الجيش هم من الطائفة الشيعية. أما الأكراد ، وهم الأقلية الكبيرة في البلاد، فهم لا يخدمون في القوات المسلحة . حيث قاوموا بشكل مستمر دعوات التجنيد والخدمة العسكرية.
- لا يعاني الجيش من شحة التمويل والموارد من تسليح وتجهيز : إن الجيش معتاد على أن تتم رعايته بشكل جيد مع تزويده بجميع المعدات والامتيازات التي يرغب فيها. وخلال الحرب قام شيوخ الخليج النفطيون بدعم وتمويل هذه الاحتياجات. اما الآن وبعد أن تم قطع التمويل، فقد تنشأ مشاكل. ونحن لا نعرف كيف سيتصرف الجيش العراقي تحت برنامج التقشف .
- يميل العراق إلى استخدام قوات كبيرة بشكل مفرط في المعركة، وذلك لمعادلة تأثير الفرق في جودة قوات العدو ، أي بمعنى آخر يعوض عن الجودة بالكمية.
فعلى سبيل المثال، استمر النظام في استخدام - الجيش الشعبي – حتى بعد فترة طويلة من معرفة ان كفاءتهم القتالية لا يمكن الاعتماد عليها او الوثوق بها.
- الجيش لديه احترام ذاتي مؤسسي عالي. الروح المعنوية جيدة بعد النصر على إيران. وان الجندي الاعتيادي يرى نفسه كوريث لتقاليد تاريخية في القتال، حيث ساهم العراقيون بشكل رئيسي في نشر قوة الإسلام في العالم القرن السابع الميلادي . كما أن الضباط مدربون جيدًا وواثقون، وطالما لم يفعل صدام شيئًا للإضرار بكرامة الجيش، فسوف يدعمونه إلى النهاية.
الدروس العملياتية ( على مستوى العمليات)
- العراق ممتاز في الدفاع. جيشه مجهز جيداً ومدرب لإجراء عمليات الدفاع السيار.
- اسلوب عمل قواته في الدفاع السيار، هو إنشاء منطقة دفاعية محصنة متكاملة وعميقة مسندة بكميات كبيرة من المدفعية. وهذه المنطقة الدفاعية تسندها قوات مدرعة سيارة، ذات قدرة عالية على الحركة.”
- قوات احتياطية قوية. يتم نقلها بسرعة عبر طرق مصممة خصيصًا لنجدة القوات في الخطوط الأمامية في حالات الطوارئ. باستخدام هذه التكتيكات، تمكن العراقيون من صد غزوات إيرانية ضخمة - وفي بعض الأحيان تصل إلى 100,000 مقاتل - على جبهة تبلغ 730 ميلاً لمدة 8 سنوات.
- لدى العراقيون خبرة محدودة في توجيه القوة . طوال معظم سنوات الحرب، أبقى صدام حسين جيشه تحت السيطرة، مقيدًا إياه بشكل كبير على الدفاع الثابت. ولكن فقط بعد عام 1986 تحول الرئيس إلى الدفاع السيار المتحرك، وفي ذلك الوقت خول قدرًا كبيرًا من السيطرة العملياتية لجنرالاته. ونتيجة لذلك، اصبح الجنرالات أكثر قدرة على اتخاذ القرارات، وكانوا يفضلون الرد على تحركات العدو، بدل المبادرة الى شن الهجمات عليهم. لكن الحملة النهائية للحرب أظهرت قدرتهم على اخذ المبادرة والاختراق بعمق وادامة العمليات لمدة حوالي أسبوع.
- خبرة ممتازة في استخدام الصنوف المشتركة : لدى العراقيون خبرة جيدة صقلتها الممارسة، على استخدام الصنوف المشتركة التي تكون فعالة جدا ضد قوات المشاة الخفيفة. وفي مستوى العمليات فهم يفضلون الدفاع باستخدام التحصينات بفعالية، وهم جيدون في ذلك.
- تأمين نسبة تفوق عالية في الهجوم : أما في الهجوم فهم يفضلون تأمين نسب تفوق عالية في حجم القوات والاسناد الناري الثقيل جداً واستخدام السياقات و التدريبات بفعالية.
- المرونة وحل المشاكل بطرق مبتكرة: وعلى الرغم من تفضيلهم العمليات المدبرة والمخطط لها والمنظمة بشكل جيد، ومع ذلك، فانهم يتمتعون بالمرونة. ويعتبرون ممتازون في حل المشكلات التي قد تجابههم ، حيث يجدون لها حلولا ومن ثم يعودون وينفذون الأمر بشكل صحيح، أو يتخذون الإجراءات الاستراتيجية المطلوبة للتكيف حسب الحاجة.
- استخدام الأسلحة الكيميائية بشكل مؤثر تعبويا: لقد مارسوا الاستخدام المتكامل للأسلحة الكيميائية بتأثير جيد؛ وهم يعترفون بشكل صحيح أن هذه الأسلحة لها فائدة تعبوية جيدة. هذا وان الأهداف المفضلة لاستخدام الأسلحة الكيمياوية هي وحدات المدفعية ، والمؤسسات والوحدات اللوجستية ، وعناصر القيادة .”
- تشكيل القتال الأساسي هو اللواء : يعتبر اللواء هو تشكيلهم القتالي الأساسي، ويتمكن مقر فرقة واحدة من السيطرة على عدد متغير من الألوية. وعند الهجوم فهم قادرون على إجراء الحركات بشكل سلسلة من نظام المرور عبر الخطوط بشكل تعاقب متتالي ما يؤمن استمرارية تدفق القوات الى الامام والحفاظ على زخم الهجوم”. انتهت ترجمة المقتطفات من التقرير
الخلاصة
إن الحديث عن جيشنا الباسل يمكن أن يطول إن أردنا الاستطراد به، لكن من أهم الأمور التي تميز بها جيشنا بالرغم من كل المصاعب والظروف المعاكسة والتدخلات السياسية هي انه حافظ على توازنه كجيش من الشعب، من كل الشعب، فأحبه الشعب، وهو جيش يحمي الشعب، فاحترمه الشعب، وهو جيش يمثل وحدة البلاد ويحميها فكان ملاذها في كل وقت وحين. وهكذا ينبغي ان يكون الجيش دوماً. وعلينا جميعا ان نحافظ على تاريخه، ونذكر منجزاته، ونسير على تقاليده ونستفيد من خبراته ونكرم محاربيه القدامى. رحم الله شهداء جيشنا الأبرار وحيا الأحياء منهم.
1232 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع