إبراهيم الداوود : انا قائد ثورة تموز ١٩٦٨ والبعث سرقها مني

                   

إبراهيم الداوود : انا قائد ثورة تموز ١٩٦٨ والبعث سرقها مني

حاوره غسان شربل – الحياة:“ما عاشه العراق في العقود الثلاثة الماضية هو نتيجة جريمة غير مقصودة ارتكبها قائد الحرس الجمهوري ابراهيم الداود. لو لم يفتح ابواب القصر لما نجح البعثيون في اسقاط عبدالرحمن عارف والعودة الى السلطة. وكان اول ما فعلوه هو إطاحة الداود وحليفه عبدالرزاق النايف”. واضاف: “قتلوا النايف لاحقاً اما الداود فيلتزم صمتاً مطبقاً ويعيش مع مشاعر الغضب والندم”. ضاعف كلام السياسي العراقي البارز رغبتي في اخراج الداود من صمته.

كان ذلك في 30 تموز (يوليو) 1968. نفذت قيادة البعث قراراً كانت اتخذته قبل يومين من استيلائها على السلطة في 17 من الشهر نفسه.
دخل صدام حسين وصلاح عمر العلي بالرشاشات الى مكتب الرئيس احمد حسن البكر. شهرا السلاح في وجه رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف ودفعاه الى المنفى. في اليوم نفسه ابلغ عضو مجلس قيادة الثورة وزير الدفاع الفريق الركن ابراهيم الداود خلال وجوده في عمان، بتجريده من كل مناصبه. حاول العودة عنوة فهددوا بإسقاط طائرته ودفعوه الى المنفى.
لم يكن حزب البعث في وارد القبول بشركاء في الحكم، خصوصاً من المؤسسة العسكرية. وكان واضحاً ان النايف والداود سيشكلان عقبة امام استقرار حكم الحزب وامام استقرار عهد احمد حسن البكر وصعود صدام حسين في ظله الى ان يحين موعد التهام القرار كاملاً. كان لا بد من الداود للوصول الى السلطة وكان لا بد من اقصائه للانفراد بها. وفي حوار نشرته “الحياة” بدءاً من 7 آذار (مارس) الماضي، في اطار سلسلة “يتذكر” قال صلاح عمر العلي عضو مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب سابقاً ان البكر التقى الداود واتفق معه وطلب منه ان يقسم على القرآن الا يبلغ احداً. واضاف ان الداود الذي كان شديد التأثر بمعاون مدير الاستخبارات عبدالرزاق النايف لم يحترم قسمه وابلغ الاخير، ما اضطر قيادة البعث الى اشراك الاثنين مع قرار سري بابعادهما سريعاً. هكذا تولى النايف غداة الانقلاب رئاسة الوزراء والداود وزارة الدفاع لكن الاثنين سيسقطان في الكمين في 30 تموز.
شعرت ان عبارة لم يحترم قسمه ستكون شديدة الوقع على الداود ان قرأ الحلقات. وهذا ما حصل. غداة نشر هذا المقطع اتصل نافياً ما ورد. سألته الخروج عن صمته فتجاوب والتقينا في الرياض عشية الحرب على العراق التي أملت تأخير النشر.

ولد ابراهيم الداود في 1932 في قضاء هيت في محافظة الانبار. التحق بالكلية العسكرية في 1949 وتابع دورات عدة في سلاح المدفعية. عمل آمراً للفوج الثاني في لواء الحرس الجمهوري، ثم عُيّن آمراً لجحفل هذا اللواء فبات الرجل القوي الذي يحرس القصر وسلامة الرئيس مستعيناً بـ20 ألف عسكري. غداة 17 تموز بدا ابراهيم الداود في صورة الرجل القوي، فهو عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الدفاع، وهو يؤكد انه كان ايضاً القائد العام للقوات المسلحة. في 30 من الشهر نفسه كان الداود يتفقّد القوات العراقية في الاردن حين صدر قرار عزله بالتزامن مع ارغام النايف على مغادرة البلاد. حاول العودة، فهددوا بإسقاط طائرته. تحول اسيراً في روما وارغموه لاحقاً على قبول منصب سفير، لكنه سيغادر منصبه بعد مقتل شقيقه الضابط الذي حاول اغتيال البكر.
كان ابراهيم الداود حاضراً في اصعب المحطات. ثورة 14 تموز 1958، وكلف يومها السيطرة على قصر الرحاب وشهد المجزرة التي وقعت هناك. كان حاضراً لحظة اعدام عبدالكريم قاسم بعد حوار قصير مع رفيقه اللدود عبدالسلام عارف. وكان مشاركاً في ابرز الاحداث التي عصفت بعهد عبدالسلام ثم بعهد شقيقه عبدالرحمن.
يتألم الداود حين تسأله. يعتبر ان اطاحته سهّلت لأحمد حسن البكر وصدام حسين دفع البلاد الى الكارثة.
تحدث الفريق الركن الداود عن محطات كثيرة مقدماً روايته لما شاهده وعاشه وشارك فيه. وهنا نص الحلقة الاولى:
متى التقيت صدام حسين وكيف؟
– كان لدي آمر الفوج الاول اسمه كمال جميل عبود. ألحّ عليّ كي اتدخل لنقل عمه، وهو معاون شرطة، الى النجف او كربلاء. مازحته، قلت اخشى ان يرتشي، خصوصاً اذا اراد الايرانيون اغراءه. الح وطلب مني ان افاتح رشيد محسن مدير الامن العام وكان صديقي. دخلت الى مكتب رشيد محسن فوجدت شابين واقفين امام مكتبه. كان ذلك في اواخر عهد عبدالسلام عارف. قال محسن للشرطي اخرج الشابين، فخرجا. سألني : هل عرفت هؤلاء السرسرية؟ فقلت: لا. قال: الاول اسمه صدام حسين والثاني اسمه عبدالكريم الشيخلي. عيّنت الاول مخبراً في الكرخ والثاني في الاعظمية. اقسم بالله ان هذا ما قاله حرفياً.
“سلّم على عمّك”
المرة الثانية ذهبت الى وزارة الدفاع للمراجعة في بعض الشؤون. مررت على مكتب الاستخبارات لزيارة عبدالرزاق النايف، معاون مدير الاستخبارات، ووجدت لديه شخصين سعدون غيدان وشاب مدني. قال النايف للشاب المدني: “قم سلّم على عمّك”. سلّم. سألت النايف من هو، فقال: صدام حسين. تصوّر ان هذا الرجل جالس في مكتب معاون مدير الاستخبارات وسعدون غيدان الذي كان ضابطاً في الحرس هو الذي جاء به الى مكتب النايف.
المرة الثالثة التي ورد فيها اسم صدام حسين مباشرة امامي كانت بعد 17 تموز وتولي منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. جاء حردان التكريتي ومعه معاون رئيس اركان الجيش عبدالجبار شنشل ولواء من آل الشوك. احضر حردان قائمة بخمسين اسماً يقترحون تعيينهم ضباطاً بنجمة او نجمتين وكان من صلاحيتي منح هذه الرتبة. امسكت القائمة وقلت لحردان بانفعال: “من قال لك اننا بعثيون؟”. مزّقت القائمة ورميتها في سلة المهملات. قبّلني شنشل بعدها في رأسي. وقال: هذا أملنا فيك. من بين الاسماء التي كانت في القائمة صدام حسين وطه ياسين رمضان وعزة الدوري.
ذهب حردان وأطلع البكر وصدام على ما جرى. طلب البكر من صدام ان يعد طلباً باسمه يقول فيه انه يريد رتبة ملازم في الجيش.
ذات يوم كنا نتناول الغداء انا والبكر والنايف وحردان وعماش، اي اعضاء مجلس قيادة الثورة، اعطاني البكر طلب صدام، فقلت له: “هذا لا يجوز، اذا مرّ صدام في الشارع وأدى له عسكري التحية هل يعرف كيف يردّ عليها؟”. قال البكر: “يدخل دورة عسكرية”. رفضت رفضاً قاطعاً. هذا الذي طرح نفسه قائداً تاريخياً رويت لك اين التقيته ومحاولته الحصول على رتبة ملازم. انه من فئة الشقاوات (قبضايات الاحياء). انا اعتقد ان السفارة البريطانية كانت تحرّكهم. هذا هو صدام. وأقول صراحة ان صلاح عمر العلي ينتمي الى الفئة نفسها. شقاوات. لديهم عطش الى السلطة والمناصب. وحين تحكّموا بالقرار اوصلوا الشعب العراقي الى الكارثة. أوصلوا الشعب الى الفقر والمهانة والتسوّل. وأوصلوا المنطقة الى الكارثة. طاهر يحيى عيّن صلاح عمر العلي في وزارة البلديات ولم تكن لديه المؤهلات. البعثيون سبب كارثة العراق. ليس لهم اي دور اساسي في 17 تموز. أتحداهم. أدوارهم بدأت بعد خروجي. ثورة تموز من صنعي وتنفيذي. البعث سرق الثورة. وعدد “الحياة” الصادر غداة خروجي حمل عنواناً عريضاً يقول: “البعث يقطف ثمار 17 تموز”.
تعتبر نفسك قائداً لثورة 17 تموز؟
– نعم. هذه المسألة محسومة. لو لم أُسقط انا القصر لما تجرأ أحد على الاقتراب. حتى عبدالرزاق النايف لم يكن يعرف الموعد. للاسف ما نُشر في الاعلام منذ 1968 كان مغرضاً او خاطئاً او غير دقيق. هناك روايات مغلوطة ومحاولات لتلميع دور فلان او فلان. ماكينة النظام الاعلامية والمالية كانت كبيرة وتتعدى حدود الاعلام العراقي. ان اول دليل على الدور الحاسم الذي لعبته هو انني توليت وزارة الدفاع ومنصب القائد العام للقوات المسلحة الذي كان البكر يتطلّع اليه.
متى بدأت التفكير جدياً في اطاحة عبدالرحمن عارف؟
– كنت اتحدث مع الرئيس في شؤون البلد. لم اكن اريد منه سوى ان يشغل فعلياً موقعه كرئيس للجمهورية. كنت اريد تجنيب البلاد ممارسات الحزبيين والتصفيات والثارات. الحقيقة انه كان اضعف من ان يقوم بهذا الدور. وما آلمني هو انني لم ألمس لديه على الاقل الرغبة في ذلك.


عشاء وخيم العواقب
اتصل بي سعيد صليبي قائد موقع بغداد، وهو من منطقتنا اي من الأنبار، وقال انهم تلقوا خروفاً من منطقة الرمادي ويريدونني ان اشاركهم العشاء. سألته عن الحاضرين فقال: “انت وعبدالرزاق النايف وكمال جميل عبود وهو آمر فوج. ذهبنا وما ان دخلت حتى فوجئت بوجود احمد حسن البكر وحردان التكريتي وصالح مهدي عماش. أنا سألت عن الحاضرين لأتفادى احتمال وجود هذا النوع من الناس. استقبلني البكر بالعتاب الودي، قائلاً: “انت رجل بلا وفاء لا تسأل عنا”. كان يشير الى انه كان استاذاً في الكلية العسكرية يوم كنت تلميذاً. اجبته: “يا ابو هيثم انا وانت لا نلتقي. انت في خط وانا في آخر ولا شيء يجمعنا”.
وتناولنا العشاء فطلب سعيد صليبي ان نجلس بشكل معين انا وعبدالرزاق النايف إلى يميني وكمال جميل إلى يساري. وفي المقابل جلس البكر وحردان وعماش. وقال الصليبي: تفاهموا. فقلت: “على ماذا نتفاهم؟”. قال البكر: “بعد أحداث البصرة أصدر الشيوعيون ضدك حكماً بالإعدام. الناصريون ضربوك مرتين ولو نجحوا لقصونا (ذبحونا) نحن وأنتم. نحن لا نريد شيئاً. أنتم أقوياء وفي السلطة. أنتم تحموننا ونحن ننقل إليكم ما يجري في الشارع”. قلت له: “أنتم اخطأتم في 1963 الشعب يكرهكم. قتلتم وذبحتم. وممارسات قصر النهاية لا تزال في ذاكرة الناس. لا أحد يحبكم”.
وبالطلاق أيضاً
قال البكر: “نحن اخطأنا فعلاً ونريد أن نكفر عما فعلناه”. قلت له هل تقسم بالقرآن على ما تقول، فأجاب: “اقسم بالقرآن وبالطلاق أيضاً”. قال: “أنا وحردان وعماش نعترف باخطائنا ونقسم. نحن لا علاقة لنا بحزب البعث ونريد العمل كمواطنين ونتعاون معكم للتكفير عن سيئاتنا”. طلبت من الصليبي أن يحضر القرآن. وهكذا أقسم البكر ورفيقاه. قلت لحردان: “أنت لك سمعة غير طيبة إذا تعاونت معي سأتحمل عبء سمعتك”. أنا تألمت من صلاح عمر العلي لأنه قال انني اقسمت وحنثت بقسمي. الحقيقة أن الثلاثة أقسموا وحنثوا بقسمهم.
في ذلك العشاء لم تكن هناك فكرة لإطاحة عبدالرحمن عارف. كانوا يعرفون أن لا فرصة لنجاح أي عملية تغيير من دون موافقة الحرس الجمهوري. وان الحرس ستكون له الكلمة الفصل في حال مقتل الرئيس لا سمح الله أو وفاته. وكانوا يعرفون أيضاً انني لست في وارد القبول بأي علاقة مع الشيوعيين وان الباب موصد بيني وبين الناصريين. طرحوا فكرة اللقاء كوطنيين. يمكن القول إن فكرة التعاون كانت من باب الاستعداد للمفاجآت.
كتّاب التقارير
بدأ نوع من التعاون، وهنا أريد أن أسجل للتاريخ وبأمانة كاملة. كان البكر وحردان وعماش، وهم في التقاعد، يرفعون تقاريرهم إلى عبدالرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات. أنا قرأت هذه التقارير التي تتحدث عن الأوضاع السياسية والمسائل المطروحة في الشارع ومواقف مختلف القوى. وقد تكون هذه النقطة بالذات تفسر لماذا تآمروا عليّ وعلى النايف بعد تولينا السلطة في 71 تموز 1968. بعد ابعادنا بفترة وجه النايف رسالة إلى البكر يطالب فيها بمحاكمة محايدة وعلنية يبرز فيها كل طرف مآخذه على الآخر. لم يقبل كتّاب التقارير ذلك فقد سرق البعث ثورة 71 تموز وأوصل البلد إلى ما نحن فيه.
هل انتظم التعاون؟
– كنا نقيم عشاء شهرياً. نجلس ونتبادل المعلومات ونتحدث في أوضاع البلد. كنا نلتقي في بيت مولود مخلص بناء على اقتراح حردان التكريتي. كان يحضر العشاء خمسة فقط البكر وحردان وعماش والنايف وأنا. هذه هي الأسماء الخمسة التي ستكون لها علاقة بـ17 تموز، لكن الدور الحاسم سيكون لي، إذ انني الوحيد القادر على اسقاط القصر الجمهوري بلا معارك وقادر فيء الوقت نفسه على حماية الرئيس من أي محاولة انقلابية. وإذا عدت إلى البيان الأول لثورة 17 تموز لم تجد عليه إلا الأسماء الخمسة.
أبو قيس… والمعتصم
ماذا كان وقع حرب 1967 على هذا التعاون؟
– حرب 1967 هزت مشاعرنا بعمق. كانت الهزة عنيفة جداً. نظرت إلى الجنود والدبابات وسألت نفسي ماذا نفعل إذا لم نتحرك حين تحتاجنا الأمة؟ هل نبقى مسمرين في أماكننا دفاعاً عن هذا الموقع أو ذاك؟ امرأة من سورية اطلقت صيحة ترددت في أعماق نفسي قالت: وامعتصماه. هل فقدنا النخوة والمروءة. انتابتني حالة غضب شديد. سألت عن الرئيس فقيل لي انه يرأس اجتماع مجلس الدفاع الأعلى. قصدت القاعة وخاطبت الرئيس أمام الحاضرين: “يا أبو قيس هل ماتت غيرتنا. امرأة من سورية تصرخ وامعتصماه ولا أحد يجيب. لمن هذه الدبابات إذا؟ أنا سأتحرك غداً على طريق أعالي نهر الفرات الى سورية وصولاً الى الجولان”. نهض وزراء وعانقوني. في اليوم التالي توقفت الحرب. استدعاني عارف وقال انتهت الحرب ولا مبرر لتحركك.
شعرت يومها ان التغيير ضروري. عبدالرحمن عارف ضعيف. تعاطى مع موقع رئاسة الجمهورية كموظف بسيط. عندما تصبح الساعة الثانية والنصف كان ينظر الى ساعته ويقول: الحمد لله انتهى الدوام. تصور ان رئيس الجمهورية ينتظر موعد انتهاء الدوام، كما يفعل موظف كسول يترقب موعد مغادرة المكتب. على من يتولى موقع المسؤولية والقرار ان يصل الليل بالنهار للقيام بدوره.
“يسمونك حرامي بغداد”
هل كان ضالعاً في الفساد؟
ـ لعبدالرزاق النايف صلة قربى مع عارف. جاءني النايف ذات يوم وقال لي ان الرئيس غير نظيف، فقد تقاضى أموالاً ووضعها في مصرف في بيروت، لكن الصدفة شاءت ان يفلس المصرف. لا أذكر تحديداً ماذا كان اسم البنك”. المهم ان أموال عارف ضاعت.
كنت أحياناً أتناول الغداء الى مائدته ونتحدث في المواضيع المطروحة. ذات يوم قلت له ان العالم تحكي. والضباط يقولون هل نسهر نحن ونضحي لنحمي سرقات طاهر يحيى الذي كان رئيساً للوزراء. أذكر هنا ان عبدالسلام عارف استدعى ذات يوم يحيى وقال له: “طاهر يحيى أنت يسمونك حرامي بغداد. اقرأ هذه التقارير في حقك”. طاهر يحيى تولى رئاسة الوزراء في عهد العارفين.
أعود الى عبدالرحمن عارف. قلت له ان شخصاً رفيعاً أخبرني ان شركة “ايراب” الفرنسية جاءت لأخذ تعهد بالحصول على الكبريت وقدمت 5 ملايين دينار عمولات ثم زادتها مليوناً بناء على طلب طاهر يحيى. فرد ببرودة: “شكو بيها. خلّي 23 عراقي يستفيدوا”. لم أعرف من أين جاء الرقم ومن هم الأشخاص. سألته لماذا ليسوا أكثر بواحد أو أقل بواحد. وقلت: حين تقدم الشركة عمولات بقيمة ستة ملايين دينار فإنها ستسرق على الأقل 60 مليوناً من أموال الشعب.
ذهبت اليه في يوم آخر. كان اسم سكرتيره عبدالرزاق العبيدي دخلت على رئيس الجمهورية. قال: “يا ربي ماذا نفعل اذا أعطينا الامتياز للأميركيين يقولون عنا امبرياليين”. واعطاني رسالة وإذ هي من جمال عبدالناصر حملها لوزير اميركي سابق جاء للحصول على امتياز الكبريت. قال عبدالناصر ان الاميركي صديق وطلب منه أن يتدخل للحصول على الامتياز بدلاً من “ايراب” الفرنسية. وللحق أقول ان عبدالناصر ختم رسالته داعياً عبدالرحمن عارف الى اعتماد الخيار الذي يناسب مصلحة الشعب.
بدا عارف حائراً وراح يردد: “يا ربي ماذا أفعل؟ اذا اعطيتها للأميركي سيسارع البكر وطاهر يحيى الى تسميتنا امبرياليين”. قلت له: “انت لا تستطيع ارضاء كل الناس. افعل ما تعتقده مصلحة الناس فأنت مسؤول ولا مبرر للتخوف من الانتقادات”. قلت له ان اخطر المعارضين لا يزيد عددهم عن خمسين بين بعثيين وناصريين ومستقلين. أنا استطيع ان أطلب من النايف ان يضع بهم قائمة ونمسكهم ونلقيهم في نقرة السلمان ونرعى عوائلهم. اذا كنت متخوفاً على البلد تحمل مسؤوليتك. بهذا الاسلوب لا تستطيع ان تحكم”. قال: “خوش فكرة”. كان رئيس الوزراء ناجي طالب ونائب رئيس الوزراء وزيرالداخلية رجب عبدالمجيد.
المهم اقتنع عارف واتفقت مع النايف على أن تقوم الاستخبارات باعتقال البكر وطاهر يحيى وسائر الأسماء. في الليل قال عارف انه لم يبلغ رئيس الوزراء ووزير الداخلية فقلت له لن يوافقا وإذا أبلغتهما سيفتضح أمرنا.
تمسك بموقفه واتصل بهما فجاءا عند منتصف الليل. حين طرح الفكرة رفضاها فخرجت وطلبت من النايف ان تلحق سيارات مدنية بطالب ورجب بعد خروجهما لنعرف ما إذا كانا سيبلغان كبار من كنا ننوي اعتقالهم.
صباحاً جئت الى عارف حاملاً تقريراً يفيد انهم زاروا أبرز من كنا نخطط لاعتقالهم. بسبب ذلك تعرضت لحملة شديدة من الحزبيين الذين نعتوني بالديكتاتور واتهموا الحرس الجمهوري بالضغط على السياسيين. بعدها أقام لهم غداء وتكلم الحاضرون وبينهم البكر. انتحيت جانباً وعاهدت نفسي ان أزيح عارف لأنه عاجز عن اتخاذ قرار.
اتخذت قرار التغيير في ضوء جملة حوادث. لم تكن لي علاقات واسعة في صفوف المدنيين وربما هذا ما جعلني أقبل التعاون مع البكر ومجموعته. تلك الحادثة وموضوع الفساد وأجواء ما بعد 1967 كلها عوامل زادتني اقتناعاً بضرورة اخراج عبدالرحمن عارف من الرئاسة.
الحلقة الخماسية
من اتخذ القرار؟
ـ انا. لم يكن لعارف رصيد يحميه ولهذا كان مصيره معلقاً بموقف الحرس الجمهوري. أشعر بالألم من فرط التزوير الذي حصل ونشر وروّج. أنا اخترت بيني وبين نفسي موعد 17 تموز. كان النايف يعرف انني أسعى الى ازاحة عارف لكنه لم يكن يعرف الموعد.
هل يعقل ان الباقين لا يعرفون؟
ـ الحلقة تضم خمسة أنا والنايف والبكر وحردان التكريتي وعماش. قبل أكثر من شهر من موعد العملية اجتمعنا في منزل مولود مخلص. وأذكر ان حردان ذهب للاتيان بكباب للأكل، وان البكر ناداه مرتين يوصيه بأن يضعوا شيئاً من الجوز مع الكباب.
ألم تكن تعرف ان البكر يدير حزب “البعث” في الوقت نفسه؟
ـ كان ينفي علاقته بالحزب. اقسموا بالقرآن فصدقتهم.
كيف وزعتم المسؤوليات في حال النجاح؟
– قرر الحاضرون أن أكون أنا رئيساً للجمهورية. فكرت للحظات ثم قلت لهم أنا عمري 36 عاماً ولا أزال شاباً وأنا عسكري ولست سياسياً محترفاً واعتذرت. وقلت: “أنا اتنازل لأبي هيثم (البكر) شرط ألا يكون قائداً عاماً للقوات المسلحة في الوقت نفسه. أي رئيس جمهورية فقط”. بعدها عرضوا عليّ رئاسة الوزراء فقلت إذا لم أقبل الأولى فكيف أقبل الثانية. عندها اتفق أن أكون وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
إذا تم اختيار البكر رئيساً للجمهورية وأنا وزير الدفاع. طرح البكر فكرة أن يكون هو أيضاً رئيساً للوزراء. عارض النايف وقال له أنت عليك صفة بعثية والأمر سيعقد علاقتنا مع سورية التي يمر نفطنا في أراضيها. كما عارض النايف اسناد المنصب إلى عماش أو حردان التكريتي للأسباب نفسها. وهكذا لم يبق إلا النايف، فتقرر أن يكون رئيساً للوزراء. طلب حردان أن يكون رئيساً للأركان فعارضت. أمضى النايف أسبوعين يحاول أن يقنعني حتى وافقت. أما عماش فقد اتفق أن يكون وزيراً للداخلية. هكذا توزعت المناصب بين الخمسة على أن يعتبر الأربعة أيضاً نواباً لرئيس الجمهورية وهو البكر. هكذا تم الاتفاق على مجلس قيادة الثورة.
سر 17 تموز
أنا اخترت موعد 17 لأنني اتفاءل به. ابني أركان ولد في 17 أيلول (سبتمبر). اعتبر هذا التاريخ مباركاً. اخترت 17 تموز وكان ليل الأربعاء – الخميس. صلاح عمر العلي لا يعرف لماذا اخترت 17 تموز. أنا قررت الموعد وليل الأربعاء – الخميس ذهبت بالزي المدني إلى مركز الاستخبارات العسكرية. قلت للنايف اريدك أن تأخذني إلى نادي المنصور لأنني اريد أن أشرب. استغرب سعدون غيدان الحاضر وقال: “خالي منذ متى تشرب أنت؟”. وعرض أن يرافقنا فقلت اريد أن أشرب مع النايف وحده. الحقيقة أنها كانت ذريعة للتحدث إلى النايف، فأنا لم أشرب في حيـــاتي. ذهبنا إلى مطعم فاروق وجلسنا في زاوية. قلت للنايف: “أنا قررت ازاحة عبدالرحمن عارف. اياك أن تبلغ أحداً. لم يكن البكر وحردان وعماش على علم بالموعد. كانوا يعرفون انني قررت إطاحة عبدالرحمن عارف لكنهم لا يعرفون الموعد. ربما لهذا السبب راودتهم شكوك على رغم اتفاقنا على توزيع المناصب.
صارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. قلت له أنا سأتوجه إلى البيت لارتداء ملابسي العسكرية. بعد قليل قرع الباب، وإذ بالنايف يقول اخبرت الثلاثة فجنوا وأصروا أن يروك ولو دقيقتين.
ذهبنا إلى بيت مولود مخلص فاستقبلني البكر قائلاً: “يا أخي أبو أركان هل حسبتها جيداً؟”. فأجبت: “ستكون كشربة السيجارة، اطمئن”. قال حردان: “أنا لا أملك بزة عسكرية وجسمي قريب من جسمك فلو تعطيني واحدة”. وكان عماش حاضراً.
ألم يكن صدام وصلاح عمر العلي هناك؟
– لم يكن لهم هناك أي أثر. كنا نحن الخمسة وحدنا.
رجعت إلى البيت وأعطيت النايف بزة عسكرية ليلبسها حردان. وكنت وعدت البكر أن أرسل ضابطاً لاحضاره إلى القصر مع حردان وعماش، فطلب أن تكون السيارة ذات ستائر حتى لا يعرفه أحد.
ذهبت إلى بيت ابن شقيقتي محروس توفيق خلف وهو ضابط في الحرس الجمهوري وطلبت منه أن ينادي مجموعة من الضباط وأصدرت أوامري. سيطرنا على القصر، ونحن حراسه أصلاً، وسيطرنا على بغداد. عرف عارف بوجود تحرك وقال لمن اتصلوا به الآن يأتيهم ابراهيم ويحبط التحرك فأبلغوه انني قائد التحرك. عندها لم يبقَ عليه إلا أن يتقبل قدره.
سيطرنا على القصر والعاصمة. سألوني ماذا نفعل بالرئيس، فقلت نرسله إلى لندن حيث تعالج زوجته. واتصل حردان بنجل الرئيس وهو ضابط وصعد معه إلى الطائرة. الواقع أن عارف نقل إلى بيت حردان بانتظار تحضير الطائرة.
هنا كنت ارسلت ضابطاً اسمه طارق حمد الجبوري لاحضار أحمد حسن البكر وأدخلتهم إلى القصر الجمهوري. انتهى كل شيء واحضر هيثم نجل البكر غداء تناولناه في مقر كتيبة الدبابات. وبين وقت وآخر كان البكر يسألني متى سندخل القصر، أي مكتب الرئاسة.
لكن صدام يقول إنه دخل القصر على أول دبابة؟
– دعك من روايات صدام وصلاح عمر العلي. 17 تموز أنا قائدها. أمن القصر من مسؤوليتي وأنا سيطرت عليه.
والبكر؟
– جاء به طارق الجبوري قبيل الصباح وبعد انتهاء كل شيء. وقد اعدموا الجبوري لاحقاً.
من أبلـــــغ عــــارف بالحـــركة الانقـــلابية؟
– اتصل به عبدالرزاق النايف وقال له هناك ثورة في البلد. فأجاب: “الآن يأتيهم إبراهيم”. فأجابه: “ابراهيم هو القائم بها”. أخذ إلى بيت حردان وجاء ابنه الملازم أول قيس وأمن حردان لهم طائرة إلى لندن.
هذه هي الرواية الحقيقية. أنا سيطرت في الثانية فجراً على القصر. والاذاعات كانت بيدي. أتحدى صدام وغيره. ما هذه الروايات والأكاذيب. اعترف أنهم خدعوني لكن أن يزوّروا مجريات 17 تمــوز فهـــذا غـــير مـــقبول

         

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

964 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع