من صور الصراع الدولي حول العراق .. مشروع سكة حديد برلين – بغداد
لم يكن النشاط الاقتصادي الألماني في العقود الأولى من القرن التاسع عشر كبيراً في العراق وبعد ذلك اخذ العراق يشغل حيزاً بارزاً في خطط ألمانيا التوسعية فقد اجتهد الجنرال البروسي فون مولتكة (Von Moltka) عندما كان يعمل خبيراً في الجيش العثماني في المدة من 1835 إلى 1839 في نشر العديد من المقالات في الصحف الألمانية والتي يدعو فيها الأوساط الحاكمة في برلين إلى العمل على ان يستوطن الألمان في وادي الفرات مشيراً إلى الثروات الهائلة التي تتمتع بها هذه المنطقة لاسيما الزراعية منها والتي تبدوا مغرية بالتنمية والاستثمار على ايدي الألمان وقد جهر بهذه الدعوة الكثير من رجال الفكر والاقتصاد الألمان وقد أثمرت هذه الدعوات ظهور عدة دراسات تبحث في جغرافية العراق وثرواته الكامنة وفرص الملاحة في أنهاره ففي العقد الخامس من القرن التاسع عشر تناول كارل ريتر (Karl Ritter) اعالي وادي الرافدين كما وصلت إلى العراق عام 1875 بعثة ألمانية بقيادة المهندس سرنك (Srenge) كان الهدف منها البحث عن الثروات وفرص الملاحة في نهري دجلة والفرات كما شهد العقد التاسع عشر مزيداً من الدراسات الألمانية عن العراق فقد كتب شليغلي (Schlafli) عن جغرافية جنوب وادي الرافدين كما صدر كتاب من تأليف بيكر (Becker) عنوانه رحلة من البصرة عبر وادي الرافدين إلى الموصل.
جاء الاهتمام الألماني بالعراق والطرق الملاحية فيه نتيجة حاجة الألمان إلى الأسواق لتصريف البضائع الألمانية نتيجة النمو الاقتصادي السريع وحدوث تفاوت كبير ما بين الإنتاج ومحدودية السوق الألمانية وكان الحل في نظر الأوساط الحاكمة هو التوسع الاقتصادي الخارجي وكسب أسواق جديدة وقد حصل التقدم الألماني نحو العراق عبر طريقين الأوّل من الشمال حيث اصبحت الدولة العثمانية نقطة انطلاق الألمان للعبور إلى العراق وذلك بإنشاء سكة حديد برلين – بغداد. اما الطريق الثاني فمن الجنوب عبر الخليج العربي إلى البصرة ومنها إلى بغداد بواسطة البواخر.
عندما تولى عبد الحميد الثاني مقاليد الحكم عام 1876 كانت الدولة العثمانية بأمس الحاجة إلى انشاء خطوط للسكك الحديد فمن الناحية العسكرية كانت بمثابة شرايين لدولة كبيرة تحيط بها المخاطر من كل جانب ومن الناحية الاقتصادية فانها تساعد على ربط الولايات العثمانية وبالتالي زيادة واردات الدولة من هذه الولايات ومن الناحية السياسية اراد السلطان عبد الحميد الثاني من مشاريع سكك الحديد في الدولة العثمانية اذكاء المنافسة والمصالح المتضادة بين الدول الأوربية من اجل ضمان عدم تكتلها ضد الدولة العثمانية وانه لاسبيل امامه لانجاز مشروع سكة حديد الانضول الا بالتلويح بمصالح اقتصادية لدولة يرغب في تقريبها إلى الدولة العثمانية واختار السلطان عبد الحميد الثاني المانيا التي اصبحت اكبر دولة منافسة لبريطانيا الطامعة في الدولة العثمانية ليعطي لها حقوق مد خط الانضول إلى بغداد وجاء اختيار المانيا من قبل السلطان عبد الحميد الثاني لاعتقاده بان مكانة المانيا على الصعيد الأوربي والعالمي كان كبيراً وان صوتها بات مسموعاً كما كان يعتقد ان المانيا ليست لها مطامع في الدولة العثمانية وبالتالي رغب في جذب انتباه اصحاب رؤوس الاموال والمؤسساتالالمانية للاستثمار في الدولة العثمانية وفي الوقت نفسه كان السفير الالماني في استانبول هتزفيلد (Hatzfeld) وهو سياسي محنك يعتقد ان هناك فرصاً لزيادة النفوذ الالماني في الدولة العثمانية.
في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر قام السلطان عبد الحميد الثاني بتوسيط فون بروسل (Von Pressel) واحد رجال المال الالمان وهو الهرفون كاولا (Von Kaula) بالاتصال بالمصالح المالية الالمانية لغرض الحصول على مساندتها لتمويل مد سكة حديد إلى بغداد..
وقد رفض مدير البنك الالماني(Dei Deutsche Bank) الهر جورج فون سيمنس (Georg Von Siemens) بحجة ان الموضوع خارج عن نطاق المشاريع التي يهتم بها البنك الالماني ..
غير ان تسلم وليم الثاني(William II) مقاليد الحكم في المانيا ادى إلى تغير تلك السياسة واخذت البيوت والمؤسسات المالية الالمانية تهتم بتوظيف رؤوس اموالها في الدولة العثمانية فقد حصل الفون كاولا مندوب البنك الالماني في السابع والعشرين من ايلول والرابع والعشرين من تشرين الأوّل عام 1888 على امتيازين من الحكومة العثمانية يقضي الأوّل بانشاء سكة حديد من حيدر باشا في ضواحي استانبول إلى ازمير بطول 485كم وتضمن الامتياز الثاني مد سكة حديد ازمير إلى انقره ويعد هذان الامتيازان اولى خطوات المانيا لمد خط سكة حديد إلى بغداد وبعد اشهر عدة من الحصول على هذين الامتيازين اسس البنك الألماني وبنك فيرتينبرغ (Wurttenberg Bank) في الثالث والعشرين من اذار عام 1889 الشركة العثمانية لسكة حديد الانضول التي استطاعت عام 1893 بناء سكة حديد الانضول وايصال الخط إلى انقره بطول ثلاثمائة ميل. وفي عام 1896 اكمل مد فرع من هذا الخط إلى قونيه وهي اقرب نقطة إلى العراق يصلها خط سكة حديد الانضول.
شهدت السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر حدثين مهمين كان لهما بالغ الاثر في تعجيل حصول الالمان على امتياز مد خط سكة الحديد من قونيه إلى البصرة الأول تعين البارون مارشال (Baron Marshall) سفيراً لالمانيا في استانبول عام 1897 وهو وزير خارجية سابق ومن اقدر رجال السلك الدبلوماسي وقد اختاره القيصر وليم الثاني لهذا المنصب اعتماداً على خبرته بشؤون الشرق
وما كان معروفاً عنه من ميل للاستعمار والعداء الشديد لبريطانيا وهو من مؤيدي بسط النفوذ الالماني في الدولة العثمانية والحدث الثاني هو قيام القيصر الالماني عام 1898 بزيارة الدولة العثمانية وكان هدفه الحصول من السلطان على ضمان لتوسع اقتصادي الماني وقد اسفرت هذه الزيارة عن موافقة السلطان المبدئية في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1899 على العرض الذي تقدمت به شركة الانضول لمد سكة الحديد من قونيه إلى نقطة على الخليج العربي وتعهدت الشركة بمد خط السكة الحديدي هذه في مدة ثمان سنوات ولقد احدث هذا الامتياز انقلاباً في تاريخ الشرق الاقتصادي فحتى ذلك الوقت كانت خطوط المواصلات العالمية تدور حول البلاد العثمانية دون ان تخترقها فكانت المواصلات البرية تمتد من روسيا إلى اسيا الوسطى والخطوط البحرية تمتد من قناة السويس اما خط سكة حديد بغداد الذي يخترق اربعة عشر مدينة فقد فتح طريقاً برياً إلى إيران والهند.
بعد صدور موافقة السلطان عبد الحميد الثاني شكلت شركة حديد الانضول لجنة ضمت كلاً من الدكتور مكنزن (Mackensen) مدير سكة الحديد البروسية والدكتور فون كاب (Von Kapp) وهو مساح في سكك الحديد في فيرتينبرغ والرائد مورغن (Morgan) وهو ملحق عسكري الماني في استانبول كما ضمت اللجنة ممثلين عن وزارة الاشغال العثمانية واغاسيان رئيس قسم التجارة في شركة سكة حديد الانضول وكانت مهمة اللجنة اجراء مسح شامل للامكانيات الاقتصادية والستراتيجية واجراء الاستكشافات الفنية وتعيين الخط الحديدي المتصور مدة من قونيه إلى بغداد.
منح الامتياز النهائي لسكة حديد بغداد في الخامس من اذار عام 1902 ووقع الاتفاق عن الجانب العثماني ذهني باشا وزير الاشغال وعن الجانب الالماني الدكتور زندلر (Zandler) المدير العام لشركة سكة حديد الانضول واعطى الامتياز الحق للشركة بمد خط سكة حديد الانضول من قونيه إلى اورفه – ماردين – الموصل – بغداد على نهر دجلة ثم إلى كربلاء – النجف – البصرة على نهر الفرات مع مد فروع إلى عدة مناطق اهمها حلب وخانقين ونقطة على الخليج العربي يتفق بشأنها بين الحكومة العثمانية واصحاب الامتيازكما اعطيت الشركة الحق بالبحث عن المعادن وتملكها على مسافة عشرين كيلومتر على جانبي الخط وفي صباح السبت المصادف 27 تموز عام 1912 جرى الاحتفال بوضع حجر الاساس لسكة حديد بغداد في جانب الكرخ وقد حضر الاحتفال والي بغداد أحمد جمال باشا ورئيس الاشغال مسنر باشا.
في البداية لم تدرك بريطانيا مخاطر مشروع سكة حديد بغداد على مصالحها التجارية والملاحية في العراق لانها كانت تعتقد انها حققت في العراق تفوقاً سياسياً واقتصادياً يصعب على المانيا اضعافه الا ان سكة حديد بغداد كانت اكثر من خط حديدي وانما هي طريق رئيسي للتوسع الالماني صوب العراق الامر الذي يهدد المصالح البريطانية في العراق ويلحق بشركة لنج
اضراراً فادحة ويأتي تهديد سكة حديد بغداد لنشاط شركة لنج من جانبين الأوّل طبيعة النقل بواسطة القطارات ففي الوقت الذي كانت فيه بواخر شركة لنج تقطع المسافة بين بغداد والبصرة في مدة تتراوح ما بين اربعة وخمسة ايام في ظروف مناخية مناسبة فان القطارات تستطيع قطع المسافة بين بغداد والبصرة في مدة يوم واحد وهي محملة بالمسافرين والبضائع وفي مختلف الظروف المناخية.
اما الجانب الثاني فقد كان يكمن في الفقرتين التاسعة والثالثة والعشرين من الامتياز والتي تعطي شركة سكة حديد بغداد الحق في حيازة واستخدام البواخر والسفن الشراعية في شط العرب وفي نهري دجلة والفرات لنقل مواد سكة حديد بغداد وغيرها من المتطلبات كما اعطيت الشركة الحق في انشاء موانيء في بغداد والبصرة، وقد وجدت شركة لنج ان هاتين الفقرتين تشكلان تهديداً صريحاً لامتيازها الملاحي في نهري دجلة والفرات ويجعل من شركة سكة حديد بغداد شريكاً لها في الارباح الهائلة التي كانت تحصل عليها شركة لنج للملاحة من نقل البضائع بين بغداد والبصرة باجور عالية كانت تفرضها من دون رقيب بعدما حصلت شركة سكة حديد بغداد على حق استغلال الملاحة في الانهار العراقية كما دلت الدراسات التي اجرتها شركة لنج على ان استخدام القطارات في النقل اكثر فائدة في نقل البضائع والمسافرين من النقل بالبواخر الامر الذي زاد من حدة معارضتها لمشروع سكة حديد بغداد وتمسكت بالدفاع عن مصالحها في الانهارالعراقية وقامت بعصيان في بورصة لندن وزينت البورصة بشعارات وطنية مناهضة لسكة حديد بغداد واعلنت شركة لنج انها لن تغادر ميدان الاستثمار في العراق الا على رؤوس الحراب وطلبت من الحكومة البريطانية حماية مصالحها في الانهار العراقية وقد اتضح موقف الحكومة البريطانية من التهديد الذي تشكله سكة حديد بغداد في التقرير الذي رفعه جورج كلارك (Geoge Clarke) من لجنة الدفاع عن المستعمرات الذي دعا فيه إلى منع الاضرار التي ستلحق بشركة لنج نتيجة منافسة سكة حديد بغداد لها.
حاول هاري كسلر (Harry Kessler) التوصل إلى تسوية بين شركة لنج والبنك الالماني بخصوص الملاحة في الانهار العراقية حيث حصل اتفاق في الثالث من تموز 1912 بين شركة لنج للملاحة والبنك الالماني صاحب امتياز سكة حديد بغداد على انشاء شركة بين الجانبين في مدينة بروكسل (Bruxelles) البلجيكية بأسم شركة النقليات النهرية في الشرق يشترك برأسمالها البالغ مليونين ونصف المليون فرنك كلٌ من شركة لنج للملاحة والبنك الالماني وقد كان الغرض من انشاء هذه الشركة ضمان حصول شركة لنج للملاحة على قسم من الإيرادات من عمليات نقل معدات شركة سكة حديد بغداد وللشركة الجديدة ان تؤجر أو تستأجر بواخر ومقطورات لنقل البضائع في نهري دجلة والفرات وقرر القائمون على الشركة الجديدة اجراء اتصالات مع الحكومة العثمانية لتأسيس شركة بريطانية المانية عثمانية تحتكر الملاحة في الأنهار العراقية، واسفرت في النهاية عن تأسيس الشركة العثمانية للملاحة.
علي مدلول الوائلي
عن رسالة (شركة لنج للملاحة 1861-1914-
دراسة تاريخية)
619 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع