أحاديث متباينة عمّن أخبر "عبدالكريم قاسم" بحقائق مجزرة كركوك؟؟؟
الدكتور صبحي ناظم توفيق
(عميد ركن متقاعد- دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
18/12/2017
تمهيد
من السذاجة مجرد التصور بأن أخبار "مجزرة كركوك" لم تبلغ ساعة وقوعها إلى "الزعيم قاسم" مساء (14/تموز/1959)، ولكنها -ربما- على لم تصل سوى على شكل ((تقارير رسمية)) عُرِضَت أمام ناظريه تفيد-:
(أن مجاميع من التركمان قد تآمروا ضد "الزعيم" ونظّموا حركة شبيهة لمؤامرة "العقيد عبدالوهاب الشوّاف" في "الموصل"، وإعتصم مسلّحوهم في "قلعة كركوك" بقيادة عدد من ضباطهم ومتقاعديهم، وأن وحدات الجيش والمقاومة الشعبية والشبيبة الديمقراطية هبّت لوأد هذه المؤامرة الرجعية الرعناء في مهدها).
ولكن أقاويل دارت عن كيفية إيصال حقائق المجزرة الدامغة إلى "الزعيم عبدالكريم قاسم"!! ومن أول شخص وصل إليه وعرض أمام أنظاره وعلى مسامعه ((أكذوبة المؤامرة التركمانية)) بحيث غيَّرَ قناعاته حيال الشيوعيين واليساريين وإنقلب عليهم بين عشية وضحاها؟؟؟.
لقد حاولتُ منذ عقود وفي مناسبات مختلفة إستشفاف الحقيقة، وسجّلتُ أحاديث عديدة من أفواه شخصيات بارزة حبيبة على قلوبنا، ولكنها بَدَت متباينة بين بعضها البعض، رغم أن ألوفاً من جيلنا قد عاشوا تلك الأحداث عام (1959) أو كانوا قريبين منها قبل (ستة) عقود مضت، والتي لا يمكن عدّها بعيداً بمنظار التأريخ.
لقد لامَني البعض وعاتبني آخرون لدى طرحي هذه الحقائق، فالمترسّخ لديهم -كما حال معظم التركمان- أن "العقيد" (في حينه) "عبدالله عبدالرحمن" هو (((الشخص الوحيد))) الذي أقدَمَ على هذه الخطوة، بل عاتبني عدد من أقربائه لإيرادي أسماء سواه في هذا الشأن وكتبوا بحقي ما لا أستحقه.
ولـمّا كنت قد سجّلتُ وسط يومياتي في حينه حديث "العم عبدالله" إلى جانب أحاديث آخرين كانوا قريبين من ذاته ومستواه، فقد إستشعرتُ بإدّعاءات غير مريحة ومفارقات في الوقت والتأريخ يستوجب إيضاحها، لذلك وددتُ سردها ببعض التفصيل كي لا تضيع في مجاهل التأريخ، وليُمسي القارئ الكريم والمتابع العزيز بصورة أوضح عنها ليحكم بنفسه على صحة هذا وذاك.
أولاً. حديث العميد "عبدالله عبدالرحمن"
هذا الضابط التركماني المخضرم كان برتبة "عقيد" عام (1959) متبوّئاً منصب مدير الإدارة لدى قيادة الفرقة/2 ومقرها في قلب مدينة "كركوك"، قبل أن يترفّع إلى رتبة "زعيم (عميد)" بعدئذ ويُحال على التقاعد عام (1963)، وكنتُ على علم بكونه وسط هذه الأحداث العصيبة.
ففي مساء (الخميس-15/تموز/1965) -وكنت ضابطاً برتبة "ملازم" في الحرس الجمهوري- وحالما أُنتُهِيَ الإحتفاء بالذكرى السنوية السادسة للمجزرة وسط حدائق نادي الإخاء التركماني في "حيّ العيواضية" -كالعادة التي سرت منذ تأسيسه مطلع الستينيات- فقد دعانا "العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن" للجلوس في مكتبه، وقتما كان رئيساً مُنتخَباً للهيأة الإدارية لهذا النادي، فقد رجوتـه أن يتكرّم بتنويرنا عن حقائق دوره المسموع في تعريف "الزعيم عبدالكريم قاسم" بأحداث تلكم المجزرة خدمةً للتأريخ.
فأجاب أمام أنظار وأسماع جمع من الشخصيات التركمانية، أستذكر من بينهم الآن -وعلى سبيل المثال لا الحصر- كلاًّ من "الدكتور عبدالقادر سليمان، الدكتور رضا محمود دميرجي، المحامي حبيب الهرمزي، السيد جلال النقيب، المهندس جمال خضر، السيد نجم الدين عزالدين، السيد عادل شريف، المذيع نهاد نجيب آوجي"، قد أستطيع إجماله بما يأتي:-
العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن- رئيس نادي الأخاء التركماني في أواسط الستينيات ولغاية السبعينيات.
الدكتور رضا محمود دَميرجي- أحد الحضور لحديث العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى "الزعيم عبدالكريم قاسم".
رجل الأعمال السيد عادل شريف- أحد الحضور الآخرين لحديث العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى "الزعيم عبدالكريم قاسم".
المحامي "حبيب الهرمزي" أحد الحضور الآخرين أثناء حديث العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى الزعيم "عبدالكريم قاسم".
المذيع التركماني "نهاد نجيب آوجي" أحد الحضور لحديث العميد المتقاعد عبدالله عبدالرحمن عن إيصاله حقائق مجزرة كركوك إلى الزعيم "عبدالكريم قاسم".
• نعم... كنت برتبة "عقيد" عام (1959) بمنصب مدير إدارة الفرقة/2.
• وقبل حوالي أسبوع من المجزرة وحالمـا تبيَّنَ لنـا أن قائد الفرقة/2 "الزعيم (العميد) الركن داود سلمان الجنابي" سوف لن يعود من "بغداد" إلى "كركوك" لأسباب لم نتعرّف عليها،
الزعيم (العميد) الركن داوود سلمان الجنابي –قائد الفرقة الثانية في كركوك- وقد إستدعاه "الزعيم عبدالكريم قاسم" إلى "بغداد" قبل أسبوعين من المجزرة، ولم يًعُد إلى منصبه لأسباب غير معروفة.
فقد أصدر الزعيم "عبدالكريم قاسم" أمراً بتكليف مدير إدارة وميرة الفرقة "العقيد محمود عبدالرزاق" ليكون قائداً للفرقة بالوكالة، إعتباراً من يوم (9/تموز/1959) ولحين تعيين قائد جديد للفرقة بالأصالة، بحكم كونه أقدم الضباط في عموم الفرقة.
وكل ذلك في وقت كنا نتهيّأ للدخول بأقصى درجات الإنذار قبل أيام من الإحتفاء بالذكرى الأولى لإنقلاب (14/تموز/1958) تحسّباً لأي طارئ، أُضيفَ إليها سريان إشاعات عديدة تشير إلى أحداث كبيرة قد تفرض أوزارها على "كركوك" يوم (12/تموز/1959)، والذي مرّ من دون حادث يُذكَر.
• بعد نهار حافل من العمل وشدّ الأعصاب منذ صبيحة (14/تموز/1959)، عدتُ عصراً إلى مسكني على مقربة من معسكر "كركوك" لأتمتع بقسط من الراحة بعد عناء طال حوالي (24) ساعة، حين إنتبهتُ مع المغيب لوابل من النيران الكثيفة من أسلحة رشاشة عَمَّت سماء مدينة "كركوك"، ولمّـا طلبتُ إحضار سيارتي العسكرية سراعاً للوصول إلى مقر الفرقة فإن سائقها لم يستطع الوصول إلى مسكني.
• هاتفتُ "وكيل قائد الفرقة" عن طريق الخط العسكري الخاص فأوضح لي أنه ((لا يستطيع حراكاً ونصحني بعدم الوصول إلى مقر الفرقة))!!!!؟؟؟؟ ما أثار علامات إستغراب لديّ.
• أسرع إليَّ ضابط كردي صديق يسكن بجواري ليفاجئني بأن هناك إشاعات تفيد بـ((أنني أقود مؤامرة تركمانية ضد "الزعيم عبدالكريم قاسم" يشترك معي فيها ضباط تركمان آخرون ومتقاعدون، وهم معتصمون جميعاً في "قلعة كركوك" فاتحين نيران أسلحة فتاكة نحو المدينة))!!!؟؟؟؟
• وفوراً قررتُ المخاطرة بالسفر إلى "بغداد"، وتَنَـكَّرتُ بـ((دشداشة ويشماغ وعقال عربي)) كي لا يتعرف عليّ أحد، وسرتُ على قَدَمَيَّ حتى بلغتُ محطة القطار التي كانت هادئة وشبه خالية، فإقتنيتُ بطاقة درجة/3، وأظهرتُ نفسي وكأني ((أصمّ وأبكم)) قبل أن ينطلق القطار بعدد ضئيل من الركاب في موعده المحدد بالساعة/9 نحو العاصمة.
• وحالمـا وصلتُ "بغداد" صباح اليوم التالي (15/تموز) إنطلقتُ بسيارة أجرة إلى وزارة الدفاع بالملابس ذاتها، وبعد إطلاع الإستعلامات على هويتي ورتبتي وضرورة مثولي أمام ((الزعيم الأوحد)) لأمر ذي أهمية خاصة يجب إطلاع سيادته عليها شخصياً، فقد أوصلوني إلى سكرتيره الشخصي "الرئيس أول (الرائد) الركن جاسم العزاوي".
"الزعيم قاسم" وإلى جانبه سكرتيره الشخصي وكاتم أسراره "الرئيس أول (الرائد) الركن جاسم كاظم العزاوي".
• وقد علمتُ منه أن تقريراً خاصاً من وزارة الداخلية قد عُرِضَ على ((الزعيم)) يزعم فيه "مدير أمن كركوك" كوني ((متآمراً)).
• إستغرب "عبدالكريم قاسم" كثيراً لمثولي أمامه بتلك الملابس الشعبية في مكتبه الرسمي، فأجلسني قبالته قبل أن أوضح له:-
(صدّقني يا سيدي، لا مؤامرة، ولا ضباط تركمان، ولا أسلحة، ولا قلعة، ولا هم يحزنون، بل أن وكيل قائد الفرقة "العقيد محمود" ربما يكون محجوزاً بمكتبه يا سيادة الزعيم... فهذه كلها أكاذيب وإفتراءات، وإذا وددتَ التأكد فإتصل هاتفياً مع كل من ورد إسمه أمامك، وبإمكانك أن تبعث أشخاصاً تثـق بهم لزيارة مسكن أي منهم للتحقق من موقفه).
• قبل كل شيء سارع "عبدالكريم قاسم" لـمُهاتفة قائد القوة الجوية "العقيد الطيار الركن جلال الأوقاتي" طالباً منه أن يجري أحد الطيارين فوراً (إستطلاعاً بصرياً) فوق "قلعة كركوك" ليتحقق بناظرَيه عن مصداقية أخبار تفيد بأن أناساً مسلّحين يطلقون نيران أسلحتهم نحو المدينة وفي سمائها.
• بعد ذلك طلب إستحصال هاتفَي العقيدَين المتقاعدَين "مصطفى عبدالقادر بك، ونورالدين صابر" فوراً ليتحدث معهما شخصياً في مسكنيهما... فتم ذلك مع "أبي سعاد وأبي ياووز" خلال دقائق، ولكن حديثه معهما كان أشبه بمجرد سلام وإطمئنان على أحوالهما ومن دون أن يذكر شيئاً عن جلوسي معه أو يتطرّق لـ((المؤامرة التركمانية)) المزعومة.
• وبعد أن أمرني بالمبيت في إحدى غرف "نادي الضباط" كونه على مقربة من مبنى الوزارة، فقد طلب حضوري بمكتبه في ساعة متأخرة من الليل، حيث كان قد تأكـد من صحة كلما أوردته أمامه ظهيرة ذلك اليوم، وأنه كلّف "العقيد عبدالرحمن محمد عارف-آمر كتيبة المدرعات التابعة للفرقة/3 في "جلولاء"- بالتوجه فوراً لإعادة السيطرة على "كركوك" والقبض على كل من كان سبباً في هذه المحنة الكارثية.
ثانياً. حديث "اللواء الركن نايف حمودي ياسين"
هذا الرجل المخضرم صاحب الذاكرة العجيبة واليوميات الدقيقة، والذي تدرّج ضابطاً في صنف "الهندسة العسكرية" بالجيش العراقي منذ أواخر الثلاثينيات حتى أضحى برتبة "زعيم (عميد) ركن" مطلع (1959).
وقد تواصَلَ بالمناصب العسكرية والتي كان آخرها "مدير الحسابات العسكرية العامة" في عهد "الزعيم عبدالكريم قاسم" ومرتبطاً به -بحكم منصبه- قبل أن يترفع لرتبة "لواء ركن" مطلع (1963)، ليُمسي -بعد إحالته على التقاعد- رئيساً للجنة إعمار الشمال في عهد الرئيس "عبدالسلام محمد عارف" ثم "متصرفاً/محافظاً لكركوك" في أواسط الستينيات.
اللواء الركن نايف حمودي ياسين -مدير الحسابات العسكرية بوزارة الدفاع- والمرتبط بحكم المنصب بشخص الزعيم "عبدالكريم قاسم" عام (1959) ولغاية (1963).
ولمـا ربطتني به علاقة مصاهرة بعد إقتران إبنه "رافد" بإحدى أخوات زوجتي، لذلك كنتُ ألتقي معه كثيراً وأستأنس في تبادل الأحاديث حول مسيرة الجيش وأحداث العراق المعاصر معه.
وفي مسكنه بـ"زيونة-بغداد" مساء (الجمعة-11/1/1985) وحين إستذكرنا أحداث "مذبحة كركوك" فقد طرح على مسامعي ما يأتي:-
((نعم... فقد حضرتُ بمكتب "الزعيم عبدالكريم قاسم" بالساعة السابعة من مساء يوم (15/تموز/1959) وقد كنتُ على موعد محدد معه على أمل أن أعرض أمام أنظاره -بحكم منصبي- الحسابات الختامية لوزارة الدفاع للربع الثاني من ذلك العام، حيث وجدته منزعجاً بل ومرتبكاً قبل أن يطلب مني الجلوس وإرجاء موضوعة الحسابات إلى موعد لاحق، حتى دار بيننا الحديث الآتي:-
الزعيم قاسم:- هناك مشكلات كبيرة في "كركوك"، فقد وردتني تقارير متتابعة عن إعتصام عدد من الضباط التركمان في "قلعة كركوك" وإعلانهم العصيان... ولكني تأكدتُ اليوم وبشخصي أن تلك المزاعم برُمَّتها ليست سوى أكاذيب وإفتراءات.
أنـا:- يا سيادة الزعيم، -أنتَ سيّد العارفين- فالمعروف عن تركمان العراق أنهم أناس وطنيون ومسالمون، إذْ لم نسمع عنهم سوى التسامح والإلتزام بالقوانين، ويستحيل أن يقدموا على مثل هذه الأمور.
الزعيم قاسم:- والله صحيح يا "أبا فريد" فطوال تأريخ العراق، وخصوصاً المُعاصر، لم يقترفوا شيئاً من هذا القبيل، فعلى عكس جماعتنا العرب وكذلك الأكراد في عصياناتهم لمرات عديدة وفضلاً عن الآثوريين المدنيين المنخرطين في "قوات الليفي" المرتبطة بالإنكليز، فإن أيـاً من التركمان لم يشارك قطّ في أية حركة مناوئة للدولة العراقية، ولم نعرف عن أصدقائنا وزملائنا من الضباط التركمان سوى الطيب وسموّ الأخلاق والشجاعة والإلتزام لخدمة الجيش والوطن، وأن "حرب فلسطين" خير شاهد على ذلك... وواقع حالي الآن أن ظنونـاً عميقة بدأت تراودني منذ ظهيرة اليوم في صحة مزاعم الشيوعيين والبارتيين وسواهم حتى عمّـا أوردوه عن وقائع الأحداث في "الموصل"، وقد أستثني منها فقط ما يخص حقيقة مؤامرة المقبور "عبدالوهاب الشواف" صبيحة يوم (8/مارت) الماضي.
أنـا:- وماذا نويت أن تفعل يا سيادة الزعيم من أجل "كركوك"؟؟؟
الزعيم قاسم:- قبل ساعة طلبتُ من "العقيد عبدالرحمن عارف" أن يهيّئ كتيبة مدرعاته ليحركـها من "معسكر جلولاء" بأقصى سرعة نحو "كركوك" لفرض الأمن هناك، وسألحقها بفوج مشاة من الفرقة/3، لأن وحدات "كركوك" -وغالبيتهم من الأكراد- فإن شكوكاً تراودني بوقوفهم ضد التركمان... وإذا صحّ ظني فسأضرب بيد من حديد كل من ساهم في إحداث هذه المشكلة ولا أرحم منهم أحداً، وسأريهم ما لا يتوقّعونه، فنحن نروم لتهدئة الأمور والعودة من التصرفات الثورية إلى الحياة الطبيعية بعد إنقضاء عام كامل على ثورتنا المباركة، والتي لم نَبتَغِ لدى إقدامنا عليها سوى تحقيق حياة آمنة لهذا الشعب المسكين الذي ذاق الأمَرّين لعقود أو قرون من الزمن)).
وبعد ذلك تسلستُ مع السيد "اللواء نايف حمّودي" في الحديث بجملة تساؤلات أجابني عليها ببعض التفصيل:-
أنـا:- باشا.... هل ذكر ((الزعيم)) شيئاً عن كيفية تعريفه بحقائق ما حدث في "كركوك"، وعن حضور "الزعيم (العميد) عبدالله عبدالرحمن" أمامه صبيحة يوم (15/تموز/1959).
اللواء نايف:- لم يتطرّق لأي شيء سوى ما ذكرته لك.
أنـا:- مساء يوم (19/تموز/1959) تهجّم "عبدالكريم قاسم" بخطابه في كنيسة "مار يوسف" على ما جرى في "كركوك"، ولكنه لم يستجلب إسم الشيوعيين والبارتيين أو سواهم من الذين خططوا للمجزرة ونفّذوها، بل أطلق عليهم مصطلحاً عاماً إنحسر في تسميتهم بـ((الفوضويين)).
اللواء نايف:- في يوم (19/تموز) تحديداً ينبغي أن نستذكر أن الحدث كان قد وضع أوزاره توّاً، ولم يكن بمقدور "الزعيم" أن يُشَخِّص أو يقذف بالتهمة على طرف معيّن، ولكنه كان قد إتخذ قرارات فورية وإجراءات قانونية سريعة وشكّلَ العديد من اللجان للتحقيق حول المُجريات.
أنـا:- وحتى بعد ذلك فلم يُسَمِّ أولئك بالإسم رغم التوصّل المفترض لتلكم اللجان إلى حقائق دامغة عن "مجزرة كركوك"، وإحالة العديد من المتهمين -المعروفين بإنتماءاتهم السياسية- إلى المجلسَين العُرفيّين الأول والثاني... فهل أن ((الزعيم)) -وحسب معرفتك به وقربك منه بحكم منصبك في عهده- كان شيوعياً في حقيقته؟؟؟ أم كان مَيّالاً لمعتقداتهم؟؟ أم يسايرهم فقط ويغازلـهم؟؟ ولماذا؟؟؟
اللواء نايف:- لا علاقة لـ"عبدالكريم قاسم" بالشيوعية على الإطلاق رغم أقاويل زعمت بإنتمائه إلى الحزب قبل قبوله بالكلية العسكرية أو بعد أن أمسى ضابطاً في صفوف الجيش، ولم أستشعر أنه كان ميالاً إلى معتقدات شيوعية رغم محدودية تمسّكه بالدين الإسلامي، وأنه -على علاّته- لم يكن مُلحِداً، ولكنه -في تصوّري- قد رأى نفسه فجأةً على ((سدّة الحكم المسحورة)) إلى جانب إفتقاره الشديد إلى الخبرة السياسية الداخلية والخارجية ولعبات الأمم الإقليمية والعالمية لكونه عسكرياً محترفاً لم يتبوّأ سوى منصب ((آمر لواء)) في معسكر بعيد عن "بغداد"... ولكنه بعد أن تعرض لعدد من المؤامرات التي حيكت ضده بعد إنقضاء شهرين فقط على الثورة فأنه أمسى مُجبَراً للإستناد على قاعدة شعبية تؤازره وتسند نظامه، ولم يكن هناك من الأحزاب الثورية سوى الحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني من يدعمه في الشارع العراقي، ولذلك فقد غازلهما كثيراً وبالأخص لـما وقفوا إلى جانبه بكل قوة وبأس ضدّ "حركة العقيد الشواف" التي تُعَدّ أعظم ما واجهه من مخاطر حتى ذلك الوقت... ولكنه وفور معرفته بحقائق ما جرى في "كركوك" فقد إنقلب عليهم وإعتقل العديد من قادتهم وأحالهم أمام القضاء وبسرعة.
أنـا:- ولكن بعد تعرّض "عبدالكريم قاسم" إلى محاولة إغتيال مساء يوم (7/10/1959) فقد عاد إلى مغازلة الشيوعيين، في حين لم تكن دماء ضحايا "كركوك" قد جفّت بعدُ، ولم ينقَضِ على قتلهم وسحلهم والتمثيل بجثامينهم سوى أقل من (3) أشهر.
اللواء نايف:- صحيح ذلك، ولكن لو وضعنا أنفسنا محلّ ((الزعيم)) فمن الـمُسَلَّم به أن ينظر إلى محاولة إغتياله بمثابة خطوة ربما أخطر بكثير -نحو شخصه وكرسيّ حكمه- حتى من "حركة الشواف" الخطيرة، فلم يستهدف البعثيون هذه المرة نظامه فحسب بل حاولوا قتله وسط الشارع، ولذلك أرى من الطبيعي أن يعود إلى من كان يؤازره وسط المجتمع العراقي الذي بدأ ((الزعيم)) يتحسس أن فئات عديدة منه قد باتت تكرهه أو تتضادد حياله أو لا تقف بشكل مُرضٍ إلى جانبه... ولكنه -والحق يُقال- فإنه لم يَعُدْ إلى مسايرة الشيوعيين وتابعيهم بالثقل ذاته الذي كـان عليه قبل أحداث "كركوك"، بل أمسى يقدم من وراء الكواليس على خطوات تتعاكس معهم وتحول دون تمكّنهم من العودة إلى سيطرتهم السابقة على العراق، وفوق ذلك فقد أبعد ((الأكراد)) والمناوئين منهم على وجه الخصوص بعد أن أعلن "ملا مصطفى البارزاني" عصيانه المسلّح حيال الدولة عام (1961) ولم يعد يثق بهم كثيراً كما في سابق عهده، معتبراً إياهم بمثابة ((خنجر في ظهر العراق)) منذ تأسيس دولته الحديثة ولغاية ذلك اليوم، نادماً من أعماقه على دعوة "ملاّ مصطفى" للعودة من "موسكو" إلى "العراق" وكَـيل كل التقدير والإحترام له وللذين رجعوا معه معززين مكرّمين، واصفاً ذلك القرار بـ((غلطة العمر، وجريمة "كريم قاسم" التي لا تُغتفَر بحق العراق)).
ثالثاً. حديث "اللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي"
كنتُ قد سمعتُ عصر يوم (14/تموز/2003) أمام العشرات من الحضور -بمن فيهم السيد "فاروق" نجل المرحوم "عبدالله عبدالرحمن" وسط حديقة "نادي الأخاء التركماني"- على لسان "اللواء الطبيب المتقاعد ناجي أحمد حمدي" عن كيفية وصوله شخصياً إلى مكتب "الزعيم عبدالكريم قاسم" منذ الصباح الباكر ليوم (15/تموز/1959)، وإنتظاره لإياه حتى الظهر لإبلاغه حقائق ما يجري في "كركوك" بحق التركمان.
لم أهمل حديثه -بالطبع- وأردتُ تسجيل دقائقه، فحصل ذلك في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، حيث كان مقيماً مع العائلة، وقتما طرحتُ هذا الموضوع للمناقشة ظهيرة (الثلاثاء-13/نيسان/2007) بمسكنه في "حي الرابية" وسط "عمّـان"، وبحضور "اللواء الطبيب إبراهيم طه أحمد، العميد الطبيب عادل عبدالمجيد ترزي، والسيد عادل النقيب"، رحمة الله على أرواحهم الطاهرة جميعاً... فأجاب:-
اللواء الطبيب "إبراهيم طه أحمد" أحد الحضور بمسكن صديقه الحميم "اللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي" في حديثه عن إيصاله لأخبار "مجزرة كركوك" إلى الزعيم "عبدالكريم قاسم".
العميد الطبيب عادل عبدالمجيد ترزي- الحاضر الثاني بمنزل صديق عمره الحميم "اللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي" أثناء حديثه لكيفية إيصاله لأخبار "مجزرة كركوك" إلى الزعيم "قاسم".
• أكرر وأكرر وأٌصرّ بأن ليس سواي من أوصل حقائق "مجزرة كركوك" إلى "الزعيم عبدالكريم قاسم"... فأنا أول شخص وصلتُ لمكتبه لأبلغه بالكارثة.
• ففي عام (1959) كنتُ برتبة "رائد طبيب" والأخصائي الأقدم بأمراض الأذن والأنف والحنجرة لدى "مستشفى الرشيد العسكري"، لذلك كنت أحد الأطباء الأخصائيين المشرفين على العناية بصحة "عبدالكريم قاسم"... ولـمّا كان "الزعيم" يعاني من مشكلات في جيوبه الأنفية فقد كنت متواصلاً على زيارته بوزارة الدفاع مرتين في الشهر الواحد، أو عند الطلب.
• واليوم -ومع إحترامي الشديد لأخينا الكبير وشهيدنا المرحوم "الزعيم (العميد عبدالله عبدالرحمن)"- إذْ لا يُعقَل أن ضابطاً برتبة "عقيد" يلي وكيل قائد الفرقة بالقدم العسكري يقرر في غضون ساعة ويترك وظيفته وواجباته ويسير على قدمَيه متنكّراً ويصل إلى محطة القطار بسلام، ويغادر مدينة "كركوك" المشتعلة بنيرانـها وفوضاها ويسافر إلى "بغداد" ليتقابل مع "عبدالكريم قاسم" في صباح اليوم التالي.
• والحقيقة -والله يشهد على كل كلمة أتلفظها أمامكم الآن- فلا مصلحة أبتغيها لشخصي من وراء ذلك أو ((أحيد النار لقرصة خبزي)) بعد إنقضاء (48) عاماً على الحدث.
• فالواقع الذي عشته أنه في مساء (14/تموز/1959) كنتُ مدعواً مع عائلتي لحفلة ساهرة في "نادي الأطباء" ببغداد، ولم أعد إلى مسكني إلاّ مع منتصف الليل لأُفاجَـأ بالهاتف يرنّ مراراً، فأسرعتُ لأرفع السمّاعة فكان صديقي "الرائد الطبيب خليل طه" "آمر مستشفى كركوك العسكري" على الطرف الآخر متحدثـاً من مستشفاه، صارخاً ومستنجِداً بأن مذبحة تجري في "كركوك" وهناك قتلٌ بالجملة وسحلٌ في الشوارع وهجماتٌ على البيوت والمحال التجارية وإستهدافٌ لمعظم شخصيات المدينة ووجهائها وقد أُستُشهِدَ العديد منهم، ومن بينهم أصدقاؤنا الأعزاء (الرائد المتقاعد عطا خيرالله الحَسَني، وقاسم بك نفطجي) وآخرون كثيرون... وطلب مني الإسراع بإيصال هذه الفواجع إلى أعلى المراجع لـما معروف عن علاقاتي المهنية مع أصحاب المناصب العليا.
• حاولتُ مُهاتفة "كركوك" حتى الفجر، حيث بيت والدي وأخي "نجيب" ومساكن أهلي وأقربائي ولكن من دون جدوى، فقد كانت الهواتف مقطوعة، فلم أنم الليل بطوله، وكم تمنيتُ أن تشرق شمس الصباح قبل ساعات من موعده.
• وما أن حلت الساعة الثامنة ليوم (15/تموز) حتى كنت بمكتب "الرئيس أول (الرائد) جاسم العزاوي- السكرتير الشخصي لوزير الدفاع"... ولكن لسوء الحظ كان ((الزعيم)) خارج الوزارة لرعاية إحتفاء ما، ولم يعد إلاّ ظهراً.
• منتصف النهار رَحَّبَ بي "عبدالكريم قاسم" مستغرباً عن زيارتي المفاجئة هذه... ولكني مـا أن بدأتُ بعرض ما جئتُ لأجله، فقد أوضح أنه تسلّمَ مساء أمس تقريراً عن "أمن كركوك" يفيد بـ((إعتصام تركماني مسلّح في "قلعة كركوك"))، ومنذ الليلة الماضية وهو يحاول إستيضاح الحقيقة، مضيفاً أنه إرتاب كثيراً من نبرة صوت وكيل قائد الفرقة/2 "العقيد محمود عبدالرزاق"، ولكنه بعد ذلك لم يستطع إستحصاله صباحاً ولحين مغادرته الوزارة.
• وبعد أن شرحتُ له ما أبلغني به "الدكتور خليل طه" هاتفياً، فقد إستغرب وبان الإرتباك على محيّاه، وطلب من سكرتيره الشخصي الإسراع إستحصال وكيل قائد الفرقة فوراً، وعدد من الضباط التركمان المتقاعدين من سكنة "كركوك" وفقاً لقائمة أرقام هواتف سلّمتُها بين يديه، ومن بينهم "الدكتور خليل طه" والعقيدان المتقاعدان "مصطفى عبدالقادر، ونورالدين صابر" اللذين ورد إسماهما في المؤامرة الأكذوبة.
• وبعد أن تحدث مع أولئك لبضع دقائق فقد غضب بشدة، وأسرع بمهاتفة قائد القوة الجوية "جلال الأوقاتي" طالباً منه إستطلاعاً جوياً فورياً فوق "كركوك" وبالذات قلعتها.
• ولكني لم أدرِ ما حصل بعدئذ؟؟ وكيف تصرف؟؟ وكيفية تحريكه لقوات من خارج "كركوك" لإعادة الأمن إليها، سوى أن "جاسم العزاوي" هاتفني مساء اليوم ذاته وأبلغني شكر "الزعيم الأوحد" على ما أقدمتُ عليه أمام سيادته ذلك اليوم.
رابعاً. حديث المؤرخ "المحامي عطا ترزي باشي"
لم يَدُرْ ببالي أن ألتقي في شأن "مجزرة كركوك" ووقائعها وأحداثها مع هذا المؤرخ التركماني الكبير والمحامي البارز الأستاذ "عطا ترزي باشي"، المعروف لدى الجميع بحذاقته ودقته وعدم قبوله أي تحوير أو إدعاء أو زعم، وكونه لا يسطّر كلمة واحدة إلاّ بعد التحقّق واليقين التام من صحتها.
المحامي والمؤرخ ذائع الصيت "عطا ترزي باشي" صاحب عشرات الكتب، ومن بينها "منوّعات تركمانية" عام (2010) باللغة التركية.
إحدى صفحات مقالة المؤرخ الكبير "المحامي عطا ترزي باشي"، وفيها يتطرق لكيفية إيصال أخبار مجزرة كركوك إلى الزعيم عبدالكريم قاسم.
الصفحة التالية من الكتاب ذاته حول موضوعة بحثنا، وأسماء الشهداء التركمان
ولكن "الأستاذ عطا" فاجأ الجميع عام (2010) بمقالة مختصرة وسط كتابه الموسوم (منوّعات تركمانية -الجزء الثاني-) باللغة التركية الحديثة، متطرّقاً إلى هذه الموضوعة في صفحتيه (62-63) تحت عنوان:- ((كيف عُرِّفَ "عبدالكريم قاسم" بالمجزرة؟؟))... وإليكم تعريباً (بتصرّف) للمفيد منها:-
(((فور بدء المجزرة مساء (14/تموز/1959)، وبإلتفاتة إنسانية من متصرفية (محافظة) كركوك، حفاظاً على أرواح البعض من الـمُستَهدَفين الذين يداهمهم الخطر، كان قد تقرر سَوقَهم إلى "بغداد" تحت ذريعة كونهم مطلوبين هناك... وكنتُ على رأس القائمة إلى جانب كل من "الرائد المقاعد سيد يونس سيد عمر النقيب"، والسيد "مدحت داوودا" أحد رؤساء العشائر، والناشط القومي "سعدالدين جايجي"، وكذلك "المحامي حبيب الهرمزي" الذي علمنا بعدئذ كونه ملتجئاً إلى مسكن أحد أصدقائه في الصوب القديم.
في الظاهر قُبِضَ علينا ليلاً وأُودِعنا معتقَلين لدى "موقف شرطة كركوك" تحت إشراف مُفوَّض شرطة (عربي) من أهالي "الحَويجة"، وتم تسفيرنا -نحن الأربعة- بكتاب رسمي إلى "بغداد" بصفة موقوفين، وأوصَلَنا إلى "معتقل تسفيرات شرطة السراي"، حيث لم يصدّق مسؤوله حديث "المفوّض الحَويجي" كونه قد جيء بنا تحت هذه الذريعة، فأبقانا معتقَلين لغاية مساء (15/تموز) حتى تدخّل المدير العام ليتأكد -بعد العديد من المهاتفات السلكية واللاسلكية- من مصداقية الذريعة وإستمع إلى أحاديثنا عـمّا يجري في "كركوك" وإلحاحنا عليه بضرورة إيصال الفواجع إلى أسماع "الزعيم قاسم" كي يتخذ إجراءات لإيقافها.
في اليوم التالي (16/تموز) لم يفلح "الرائد سيد يونس" رغم جهوده الـمُضنية في إستحصال موعد لمقابلة "الزعيم قاسم" باليوم ذاته، بل تحددت الساعة/11 من ظهيرة يوم (17/تموز) موعداً للمثول بوزارة الدفاع.
يوم (17/تموز) وفي الوقت الذي حضرنا فيه بمكتب السيد "جاسم العزاوي" -السكرتير الشخصي للزعيم- شارحين له بعضاً من مآسينا، فقد أوضح أن ((وفداً معاكساً)) يجمتع الآن في غرفة مجاورة مع "الزعيم" محاولاً إقناع سيادته بأن التركمان قد أعلنوا عصياناً وحملوا السلاح ضده، وأن (الثوريين) إستطاعوا القضاء عليهم دفاعاً عن ثورة تموز ومنجزاتها!!!!)))
ويضيف السيد "عطا ترزي باشي" في ختام مقالته الموجزة بما يخص شأن موضوعتنا هذه:-
(((لقد إستغربتُ من إدعاء أحد أقرباء "الزعيم (العميد) المتقاعد عبدالله عبدالرحمن" في مقالة له وسط إحدى المطبوعات المحلّية، أن المرحوم "عبدالله" هو مَن أوصل أخبار مجزرة كركوك إلى "عبدالكريم قاسم"، وبذلك أنقذ التركمان من الإبادة الجماعية... والحقيقة أن "المرحوم" -بعد معرفته إنقطاع الطريق العام نحو "بغداد"- قد سلك طريقاً ثانوياً لبلوغها، قبل أن ينضمّ إلينا في "بغداد" ظهيرة يوم (17/تموز/1959) للمثول أمام "عبدالكريم قاسم"))).
تحليل بسيط للأحاديث الأربعة
تلك هي الأحاديث الأربعة التي سجّلتُها بشأن كيفية إيصال أخبار "مجزرة كركوك/1959" إلى "الزعيم قاسم"، وأتمنى كوني دقيقاً وصادقاً في كل كلمة سطَّرتُها.
إلاّ أن القارئ الكريم والمتابع العزيز يتفق معي حول تباينات عديدة في تحديد ((التواريخ والتوقيتات))، والتي تعتبر ذات أهمية بالغة في سرد مثل هذه الأحداث التي رواها (أربعة شخصيات) مرموقة، وقد نستطيع تلخيصها وفقاً للنقاط الآتيات:-
• فـ"الزعيم (العميد) عبدالله عبدالرحمن" يذكر أنه سافر من "كركوك" بالقطار ليلة (14-15/تموز/1959) ووصل "بغداد" صباح (15/تموز)، وإنطلق إلى وزارة الدفاع ليمتثل أمام "الزعيم قاسم" مع بدء الدوام الرسمي لدحض أكاذيب القائمين بالمجزرة بصدد قيادته مؤامرة تركمانية مزعومة.
• و"اللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي دميرجي" -ذو الأواصر الخاصة مع "الزعيم قاسم"- يصرّ على عدم وجوده صباح (15/تموز) بمكتبه... ويصرّ على كونه أول من شرح أخبار المجزرة أمام أنظار "الزعيم" لدى عودته بعد الظهر.
• فيما يتحدث "اللواء الركن نايف حمودي" أن "الزعيم قاسم" طلب حضوره بمكتبه مساء (15/تموز) مُبدِياً شكوكه حيال الأحداث القائمة في "كركوك"، ولكن من دون أن يذكر شيئاً عن مثول ضباط تركمان أمامه في ذلك اليوم.
• بينما يكتب "المحامي عطا ترزي باشي" عن حضوره -بصحبة شخوص تركمان آخرين- أمام "الزعيم قاسم" ليس قبل ((اليوم الرابع)) من بدء المجزرة (17/تموز) لشرح الوقائع أمامه، وأن "الزعيم (العميد) المتقاعد عبدالله عبدالرحمن" قد إصطحبهم -بالصدفة-.
الإستنتاج النهائي
لذلك تاهت عليّ -كما يتيه على آخرين- كل هذه الأمور وراودتني شكوك وتشوشت أفكاري نحو:-
• حقيقة أول شخص أوصل حقائق "مجزرة كركوك" إلى "الزعيم عبدالكريم قاسم"!!!!
• هل أُعلِمَ "الزعيم قاسم" بها صباح (15/تموز)؟؟ أم بعد ظهر اليوم ذاته؟؟
• اليوم المحدد لإيصال الحقائق إلى "الزعيم قاسم"... هل كان يوم (15/تموز)؟؟ أم (17/منه)؟؟؟
لذلك لم أعُد أُصدّق بأحداث التأريخ!!!؟؟؟
هذه التناقضات والمفارقات وأمثالها تُرافق أحداثاً ووقائع عشناها ورأيناها وعاصرناها أو قرأنا عنها وسمعنا، بل وتعايشت معها أجيالنا قبل (ستة) عقود ليس إلاّ... فكيف بنا أن نصدّق أو لا تراودنا الظنون في مصداقية كل أحداث التأريخ وصولاً إلى آلاف السنين؟؟!!
تلك معضلة أُعانيها منذ ولجتُ في كتابة مقالات ومذكرات عن مثل هذه الوقائع وغيرها، سواءً إعتمدتُ على أحاديث أو إستندتُ على مقالات أو دراسات أو بحوث.
"الفريق الركن طارق محمود شكري" يفجّر قنبلة جديدة
وأخيراً فاجأني قائدي ومعلّمي "الفريق الركن طارق محمود شكري" -المعروف لدى ضباط الجيش العراقي وقواته المسلّحة بدقته وحذاقته وبراعة قلمه وتسجيله لصغائر الأمور في يومياته- بتفجيره قنبلة أحدث في شأن هذه المجزرة، وذلك في مداخلة لسيادته عن حديث "اللواء الركن نايف حمودي" بأن "الزعيم قاسم" كان قد أمر بتحريك كتيبة مدرعات بقيادة "العقيد عبدالرحمن عارف" من "معسكر جلولاء" إلى "كركوك" لإستتباب الأمن فيها.
صورة الفريق الركن طارق محمود شكري
وفي حين كون واقع الحال المترسخ لدى أذهان أهالي "كركوك" -ولغاية يومنا هذا- بأن تلك الكتيبة هي التي أعادت الأمن لربوع مدينتهم، فإن السيد "الفريق طارق" يؤكد -بتحديد الساعات- أن فوج المشاة/1 من لواء المشاة/1- والذي كان أحد ضباطه مقره عام (1959)- هو الذي كُلِّفَ بهذه المهمّة الصعبة يوم (15/تموز/1959) وليس كتيبة مدرعات "العقيد عبدالرحمن عارف" مطلقاً.
ولكن لهذه ((القنبلة)) مقالة أخرى أعددتها لتُنشَرَ في هذا الموقع الأغر لاحقاً.
656 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع