لا يمكن للقادم من مدينة الموصل إلى تلكيف أن يشاهد شيئا من أجزائها تقريبا إلا بعد أن يصير على مسافة قصيرة منها، ذلك لأن أكثر أقسام البلدة قد بنيت في منخفض كبير طلبا للامان...
هذه المدينة الكلدانية العريقة التي يقطنها خليطا من الأقوام المعروفة بحضارتها الراقية في بلاد مابين النهرين، عايشت حضارات وتعاقبت على ربوعها أجيال السومريين والأكاديين والآشوريين الذين مكثوا فيها حتى بعد سقوط عاصمتهم (نينوى) ليتجانسوا مع أقوام نزحوا إليها من الجهات الشمالية والغربية اثر الغزوات المتكررة التي قام بها تيمورلنك على الموصل وضواحيها في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي.
تل الحجـارة
* تقول صفحات التأريخ إن مدينة تلكيف نشأت قبل نشوء التأريخ، ومن التأريخ استمدت اسمها المركب (تل.. كيبة) ويعني بالآرامية الشرقية (تل الحجارة) وهو قديم جدا استخدمه الآشوريين كحامية أو كحصن عسكري لحماية عاصمة الإمبراطورية الآشورية (نينوى).
وهذا التل حسب وصف (فكتور بلاس) والذي تحول فيما بعـد إلى مدينة، إن هو إلا تل اصطناعي بارتفاع 18 متر كان الآشوريين قد استحدثوه بمساحة واسعة تربو على (10) ألاف متر مربع بمحيط يبلغ (383) متر ليطوق خصر المدينة من جهاتها الشرقية والجنوبية والغربية يحف به سور طوله (175) مترا بارتفاع (4) م.
*يؤكد المؤرخون: إن مدينة تلكيف الحالية قد شيدت فوق هذا التل الكبير الذي جلب حراس الحامية صخورهم الكبيرة لرصها في صدره من جميع جهاته لحماية تربته من الانجراف في مواسم الأمطار، ويرجع تأريخ هذا التل إلى الأدوار الآشورية والأكادية وهي الأدوار المعروفة بطبقة (نينوى الخامسة).
وان وجود المدينة فوق هذا التل يقترن بقيام تأسيس القرى الأولى في بلاد مابين النهرين في الألفين الخامس والسادس قبل الميلاد حيث أقام قبل (8000) ألاف سنة عدد من الفلاحين في جوار هذا التل، فتكونت المدينة من خلال تجمعاتها واستيطانياتها.
وبعد تزايد السكان فوق التل الكبير اضطرتهم الحاجة إلى حفر بئر في أعلى التل، وقد أنطمر ذلك البئر لآلاف من السنين ولم يتم الكشف عنه إلا في عام 1886 حيث يذكر المؤرخ الدكتور بهنام أبو الصوف: إن هذا البئر تم حفره في القرن السابع قبل الميلاد ومنه تتفرع أربع قنوات شمالية وشرقية وجنوبية وغربية على شكل سواقٍ لتسقي سكان التل وتلبي حاجاتهم اليومية من الماء.
وهناك أسطورة يتداولها سكان مدينة تلكيف تقول إن ملك المدينة اشترط على خاطبي ابنته الوحيدة والجميلة بالعمل على انجاز مشروع إروائي كبير يكفي لسد حاجة مواطني المدينة، وان من ينجزه بشكله المتكامل من حقه الاقتران بابنة الملك، وان المشروع يعد مهرا لها في حالة انجازه، وقد حفز هذا الشرط احد الشباب حيث تولى حفر ساقية كبير تستمد مياهها من البئر مباشرة في اعلي التل ومنها تتفرع سواق ثانوية باتجاهات الأحياء السكنية، وهي الخارطة ذاتها التي اعتمدتها شبكة المياه الحديثة في توزيع المياه التي تضخ من خزان كبير يقع في أعلى بقعة من ارض المدينة لتصل إلى الإحياء السكنية في جهات المدينة الأربع.
* النظام المعماري للمدينة لا يختلف كثيرا عن النظام السائد في مدينة الموصل، فالمعمار الذي أنجز خارطة الدار الموصلية هو نفسه الذي يقوم على انجاز المعمار في ضواحي المدينة والمدن المتاخمة، إذ أن الصفة الغالبة على الطرز المعمارية في تلكيف كما هو شأن مثيلاتها من المدن المجاورة تتصف بتلاصق البيوت وضيق الطرقات وإقامة القناطر الساندة لجانبي الطريق، والتي تشكل خصوصية البناء الموصلي المتفرد بشكله المعماري الجميل.
* مدينة تلكيف التي تبعـد عن مدينة الموصل (15) كم باتجاه الشمال بدأت تنهض بحضارة معاصرة في مجالات ثقافية واجتماعية واقتصادية من خلال حملات الإعمار الشاملة التي توزعت على أحيائها الخمسة (السلام وهو مركز المدينة، وآشور، وعشتار، بابل، أور) والتي اتسمت بطابع معماري حديث وشوارع فارهة واسعة، وأسواق متكاملة تتوافر فيها جميع البضائع والسلع اغلبها محلية الصنع ،حيث اشتهرت المدينة بصناعات متعددة في مجال الحياكة، إذ لا تخلو دار من وجود (جومة) لحياكة الخام الأبيض الذي يتم استعماله لأغراض متعددة وكذلك تصديره إلى مدن العراق والبلدان المجاورة وإلى جانب شهرتها بصناعة العباءات الرجالية من الأقمشة القطنية، كما إن نسيج الخيام البدوية من شعر الماعز تشتهر في هذه المدينة، وكان الحائكون التلكيفيون يجلبون خيوط الحرير من الموصل لينسجوا منها أقمشة خاصة للعرائس، تصبغ بألوان زاهية وتنقش فوقها صور الطيور والورود. إلى جانب ذلك فان تلكيف تمتلك صناعات متعددة مثل صناعة الراشي والمئونة المنزلية (البرغل والحبية) وصناعة الجبن الأبيض الذي يتم تصديره إلى مدن كثيرة منها العاصمة (بغداد) والموصل وكركوك ومحافظات أخرى في أنحاء العراق.
* لغة سكان تلكيف هي اللغة الآرامية الدارجة والمعروفة بالسورث نسبة إلى سوريا التي انتشرت فيها في السابق، وهي لغة التخاطب السائد في بلاد مابين النهرين بعد سقوط الدولة الآشورية... وتنقسم الآرامية إلى قسمين شرقية وغربية، ويحرص التلكيفيون على التخاطب بلغتهم الآرامية الشرقية أينما وجودوا أو تواجدوا في مشارق الأرض أو مغاربها لأنها لغة أجدادهم.
جوانب ثقافـية
عرفت تلكيف عام 1856 أول مدرسة أنشأها الأهالي في المدينة، أما أول مدرسة حكومية رسمية تم افتتاحها في تلكيف فهي مدرسة تلكيف الابتدائية الأولى للبنين وذلك في عام 1919 وما تزال قائمة حتى يومنا هذا، فيما افتتِحت المدرسة الثانية للبنات عام 1946 وتوالت المدارس في المدينة، إذ افتتحت أول متوسطة فيها عام 1955 للبنين أعقبها في عام 1960 افتتاح متوسطة ثانية للبنات، وتضم البلدة حاليا (10) مدارس اثنتان منها لرياض الأطفال، ومدرستان ابتدائية للبنين، ومثلها للبنات ومتوسطة وثانوية للبنين ومثلها للبنات، إلى جانب مركز خاص للشباب، ومجلة تحمل اسم تلكيف تعبر عن أنشطتها الفكرية تصدرها اللجنة الخيرية في المدينة. وتضم مدينة تلكيف بين جنباتها إلى جانب دور العلم، جامعا كبيرا، وكنيسة ومزارات (7) هي: [مزار مار يوسف / مزار مارت شموني/ مزار أولاد مارت شموني/ مزار يوحنا المعمدان / مزار يوخت سهرا/ مزار عمر بيني/ مزار مار دانيال].
وقد أنجبت بلدة تلكيف عبر تأريخها القديم والحديث شخصيات ثقافية كثيرة عرفت بالتميز في مجالات المعرفة والعلوم والآداب والفنون، وكانت الآنسة (ماري تريز اسمر) واحدة من ابرز شخصياتها التي عرفت بالمغامرة والسفر والتجوال حول العالم، والتي أطلقت على نفسها لقب أميرة بابلية، وأصدرت عام 1844 كتابا يضم مذكراتها بمجلدين تحت عنوان (مذكرات أميرة بابلية)، ثم أصدرت عام 1845 كتابها الشهير (صوت من الشرق)، بحثت فيه عن مجد الشرق، وقد شبهت نفسها في هذا الكتاب الملكة الآشورية (سميراميس).
وكذلك الآنسة (مريم نرمي) التي بدأت صحفية في بغداد، وعملت في مجلة دار السلام الذي كان يصدرها الأب (انستاس الكرملي)، وفي عام 1937 أصدرت جريدة (فتاة العـرب) وكانت أول جريدة نسوية في العراق، وصاحبتها أول صحفية عراقية اقتحمت ميدان القلم، ومهنة البحث عن المتاعب..
914 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع