فنجان قهوة .. مع الموسوعي د. عبد الحسين شعبان
اعتذار ومحبة
ـــــــــــــــــ
حظيت لقاءات " فنجان القهوة " التي كانت تنشرها " الگاردينيا " في ما مضى ، بإعجاب الجميع ، لأن كاتبتها ومعدتها الاديبة والشاعرة والتشكيلية الجميلة " إيمان البستاني " كانت تقدمها بأسلوب صحفي جديد ، وتعدها من ارقى انواع البُن ، على نار هادئة من المعرفة والثقافة ، فارتشفنا قهوة لذيذة مع رموز واعلام لهم شأن ومواقع في الفضاء المعرفي العراقي والعربي .. فللبستاني الغالية التحية ، واعتذر بأسمى الشخصي كوني ، سأواصل نهجها في اعداد " فنجان القهوة" بعد تكليف الاستاذ جلال چرمگا .. وهكذا هي الصحافة ، صفحات تلد صفحات .. واول من سنرتشف معه القهوة ، سيكون د. الموسوعي عبد الحسين شعبان .
*رنا خالد *
د. عبد الحسن شعبان ، الأكاديمي والمفكر والدبلوماسي و المختص في القانون الدولي والخبير في ميدان حقوق الإنسان واستشاري في عدد من المنظمات والدوريات الثقافية والإعلامية، وعضو في عدد من المنظمات العربية والدولية وأكثر من ذلك ... فأنني في الحقيقة مهما تحدثت معه ، لن انتهي من كتابه منجزاته .. رجل احب الحياة ورفض الظلم والاستبداد عاش ليوصل كلمة الحرية التي لا يريد التنازل عنها لأ سبب كان ,كما وانه وصف دائماً بالصراحة وشجاعة الرأي والموقف
ولادته ونشأته...
ولد في مدينة النجف الأشرف (العراق) في 21 اذار (مارس) 1945 لأسرة عربية كبيرة، يعود أصلها الى اليمن( جبل النبي شُعيب)، وهي بطنٌ من حمْيَر القحطانية، وكان لعشيرة آل شعبان رئاسة الخدمة في حضرة الامام علي (رض) منذ قرون. ودرس وتعلّم في مسقط رأسه ثم استكمل دراسته الجامعية في بغداد وتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد، وواصل دراسته العليا في براغ، حين نال درجتي الماجستير والدكتوراه (مرشح علوم) في القانون (دكتوراه فلسفة في العلوم القانونية) من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية.
حياته الأسرية ...
تزوّج عن عمر بلغ ثلاثة وأربعين عاماً ولديه ابنتان (سوسن) حاصلة على شهادة ماجستير قانون متزوجة وتعمل في دبي و(سنا) حاصلة على شهادة ماجستير في اللغة الانكليزية والثقافة وتعمل في الاسكوا " اللجنة الاقتصادية - الاجتماعية لغرب آسيا والباسك" التابعة للأمم المتحدة في بيروت. يقول دكتور شعبان "منحت بناتي كل ما كنتُ أتمنّاه لشخصي دون قيود ثقيلة وخاصة الحرّية".
اصدارته...
صدر له حوالي خمسين كتابا في القانون السياسي والدولي ,الاسلام والقاضايا الفكرية وفي الصراع العربي الصهيوني وايضا الثقافة والادب...بالاضافة الى مقالات كثيرة متنوعة المضمون وشيقت الطرح نشرت في صحف عراقية وعربية
**بعد كل هذا احببت ان يكون سؤالي له ..من هو الدكتور البروفسور عبد الحسن شعبان ؟
- طفلٌ صغيرٌ ما زال يحلم بكل عفوية ولا يريد لأحلامه أن تنتهي أو تخبو، فهو يطير معها ويلوّنها باستمرار لتبدو أكثر جمالاً وبهاءً وحيوية، طازجة وجديدة، حتى مع الخيبات والمرارات .
** الخيبات والمرارات ..لماذا هل أنت يائس؟
- كلّا أنا متشائم منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، لأن كل ما حولنا يدفعنا للتشاؤم، لكنني لست يائساً. أنا أوصّف الواقع، أما اليأس فهو استسلام للواقع، في حين إن تشخيصه هو الخطوة الأولى لمقاومته. وكنت في حوار مع الروائي أبو كاطع " شمران الياسري" بعد قراءتنا لرواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي " سعيد أبي النحس- المتشائل" حول التشاؤم المحبط والتفاؤل المفرط ، فاكتشفنا كل من موقعه تشاؤمنا المعتق، لدرجة قال لي إن تشاؤمه معتّق أكثر من تشاؤمي، وأراد بذلك أن يتفوق على تشاؤمي .
** هل هذه صفة المبدع أو المفكر؟
- المفكر ليس مهنة وأنا لستُ مفكراً، إلّا إذا اعتبرت كل إنسان هو مفكر على طريقته، فالكل يفكّر: رجل الدين والفيلسوف وبائع الخضروات والسياسي والحانوتي وسائق الباص ومعلم المدرسة.
** هل أن تعبير المفكر لا تستسيغه أم ثمة ما يستهويك غيره؟
- كلّا فالأمر له علاقة بالمهنة، فأنا حقوقي وقد درست القانون ولديّ دكتوراه في فلسفة العلوم القانونية، لكنني لست محامياً، لأنني لم أمارس المهنة، وقاربت القانون من زاوية الاستشارات وإبداء الرأي أو من زاوية حقوق الإنسان والتدريس لعلوم القانون، فهناك فرق بين الحقوقي والمحامي، وليس كل خريج من كليات الحقوق محامياً ، إلّا إذا مارس المهنة، وشخصياً أقول إنني كاتب وكفى والكتابة مهنة، سواء كنتُ باحثاً أم كاتباً صحفياً أم أكاديمياً، والمهم بم تفكّر وماذا تنتج وأي اجتهاد تقول به، وذلك من خلال ما تكتب.
** إذاً أنت مجتهد!
- أحاول ذلك والمجتهد له حسنتان إنْ أصاب، وإنْ أخطأ فله حسنة الاجتهاد حسب الإمام الشافعي والاجتهاد في الرأي والموقف له أربعة أبعاد، الأول في الرغبة والإرادة والثاني في التحقق والامتلاء والثالث في المعنى والدلالة والرابع في الموضوعي والذاتي .
** كيف تولّف ذلك؟
- في ثلاث حقول: أولها التنوير وثانيها التجديد وثالثها التغيير، وبالطبع في الفكر والممارسة وفي جسر التواصل بين الحداثة والقدامة، أو بين التراث والمعاصرة.
**يصفك الإعلام بأنك مثقف موسوعي وقد كتبت في أكثر من حقل وفرع واختصاص وفي كل لون أبدعت من القانون الدولي والدبلوماسي إلى الفقه الدستوري ومن السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع والمجتمع المدني وعلم الأديان مثلما كانت لك مساهمات متميزة في الأدب والثقافة والنقد، إلى نصوص وسرديات وقصائد كيف حصل هذا الجمع في شخص واحد ؟
- الحياة والتطور اللّذان حصلا وسرعة إيقاع الثورة العلمية التقنية وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية "الديجيتل" وتكنولوجيا الإعلام، جعلت من المثقف والكاتب والمبدع لا يكتفي أحياناً بجنس واحد، أو لون واحد، فهناك حقول وأجناس متعدّدة، وهي أقرب إلى الأواني المستطرقة، ولهذا السبب أجد وسيلة التعبير تتنوّع وتتعدّد بتنوع الموضوعات، ويأتي هذا من الغنى الداخلي والثراء الروحي والحاجة للاكتشاف التي تدفع الإنسان إلى تعدّد رؤاه ووسائله، فتارة عبر أقصوصة أو حكاية أو سردية أو قصيدة أو مقالة أو لوحة أو منحوتة أو مقطوعة موسيقية، إضافة إلى البحث العلمي. وأعتقد أن كثيراً من المبدعين اليوم لا يتوقفون عند وسيلة واحدة للتعبير.
وإذا كان التخصّص الدقيق قد ساد إلى حدود غير قليلة في فترات أسبق، إلّا أن هناك عودة إلى الموسوعية في الثقافة والمعرفة وبالتالي إلى التنوّع في وسائل التعبير، ولعل بعض ذلك من مخرجات العولمة وقد يكون فيها شيء من امتدادات لأجدادنا من المثقفين العرب والمسلمين، وعلى المستوى الكوني أيضاً، فذلك أحد الوجوه الإيجابية للعولمة في حين يظل وجهها المتوحش هو الغالب.
** بهذا الوعاء الفكري الذي يحمله عبد الحسين شعبان كيف ينظر لما يكتبه الآخرون ؟
- كلما زاد الإنسان علماً ومعرفة ، ينبغي أن يزداد تواضعاً، لأن ما لا يعرفه هو الغالب الواسع وكل ما تعلّمه ما يزال شحيحاً، لذلك أشعر أنني بعد هذه المسيرة الطويلة والعويصة ما زلت في بدايات الطريق فكيف بمن يدّعون "الأستذة" ويمارسون الغرور بنوع من التعالي والرضا عن النفس، وقد كنت أول من قرّظ نفسه وعمل على نقدها باستمرار، وتجربتي الحياتية والمهنية كانت وراء توجّهي المتواضع هذا، حيث كنت أعمل وسط الناس دائماً في منظمات وجمعيات مهنية ونقابية ومدنية، وهي تجربة تميل إلى التواصل والتآلف بما فيه مع " الغير" أحياناً. وحسب قول الشاعر المؤرخ القبطي عبدالله بن جرجس الملقب بالشيخ المكين :
ملأى السنابل تنحي بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ
ولهذا أقول أنا أتعلم حتى من المبتدئين، وهم يلفتون نظري إلى قضايا وأشياء غابت عنّي أو لم آخذ بالي منها لانشغالي بمشاريع أكبر، وأكثر ما يلفت نظري هم الشباب وأحب التعامل معهم بنفس الندّية، وخاصة الشابات حيث أتعلم منهن الكثير، بل أنا أتعلم من طلابي، فهم مدهشون، كما أتعلم من ابنتيّ وصهري واستمتع بالعلاقة معهم، فأنا ما زلت شديد الدهشة، بل كل جديد يدهشني.
** ما هي أهم الكتب التي تأثّرت بها ؟
- تنوّعت الكتب لكن القرآن له الأثر الكبير والعميق في نفسي ، وكرّاس "الثامن عشر من برومير - لويس بونابرت" لماركس ، فهو أقرب إلى قصيدة نثرية، وقد قرأته أكثر من ثلاث مرّات كان آخرها قبل حوالي سنة، وهو جزء من ثلاثية أثيرة، فإضافة إليه هناك "النضال الطبقي في فرنسا" (1848 -1850) و"الحرب الأهلية في فرنسا " 1871، وهي كتب لازمتني لسنوات طويلة وأعود إليها باستمرار. ومن الكتب التي عاشت معي دواوين الجواهري وديوان المتنبي (وهي كتب فلسفة أيضاً وليس شعراً فحسب)، وهذه الثلاثية القرآن وماركس والشعر شكّلت روافدي الروحية الأولى.
**ماذا بعدها ؟
- الرواية ، والحياة رواية أو روايات وحكايات وقصص متواصلة، قرأت الأدب الروسي بشغف: تولستوي وديستوفسكي وتشيخوف وبلزاك ومكسيم غوركي وشلوخوف وغيرهم وقد أجرت الحركة الثقافية في انطلياس حين كرمتني العام الماضي 2017 (كأحد أعلام لبنان والعالم العربي) جولة فكرية لبعض قراءاتي، ولاسيّما في مجال الرواية والأدب بشكل عام ، فذكرت آرنست همنتنغواي وإيملي برونتي ومرغريت ميتشيل وإيليا إهرنبرغ وألبير كامو وفيكتور هوغو وسارتر وسيمون دي بوفوار وكولن ويلسن وغيرهم، وهكذا استحوذت عليّ روايات أمريكا اللاتينية، خصوصاً غبريال غارسيا ماركيز وغيره.
**وعن الرواية العربية؟
-هناك ثلاثية نجيب محفوظ الأثيرة "قصر الشوق والسكّرية وبين القصرين"، إضافة إلى "خان خليلي" و"ثرثرة فوق النيل" و"السمان والخريف" و"حب تحت المطر" و"الحرافيش" وغيرها والحديث يطول في هذا الحقل كثيراً.
** لمن يسمع عبد الحسين شعبان؟
- فيروز الأولى بالنسبة لي ، كنت في فترة سابقة أستمع كثيراً لأم كلثوم وعبد الوهاب ونجاة الصغيرة وعفيفة اسكندر وناظم الغزالي ورضا علي وأحب الاستماع إلى المقام العراقي، وخصوصاً محمد الكبنجي، وأطرب لأغاني حسين نعمة وسعدون جابر وفاضل عواد والياس خضر وكاظم الساهر وأحبّ ألحان سامي كمال وكمال السيد وكوكب حمزة وطالب القره غولي، وأعجبت كثيراً بمنير بشير ويسحرني سيّد العود العراقي نصير شمّا.
أما على المستوى العالمي، ففي جيلنا كنّا نحب فرانك سيناترا وألفس برسلي وأرمسترونغ وغلين ميلر وجيمس براون وسيفي ويندر وفرقة البيتلز وفرقة أبَا، وفي الموسيقى الكلاسيكية أحبّ بتهوفن وباخ وموزارت ونيقولاي ريمسكي كورساكوف ودفورجاك وكنت قد عشقت جايكوفسكي، كما انشغلت بمشاهدة شبه مزمنة للمسرح والسينما، وهما جزء مني بل إنني جزء منهما، وإذا كان أحد مفكري مطلع القرن العشرين هو القائل "أعطوني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً"، لكنه لو عاش إلى الخمسينات من القرن الماضي ، لاستبدل المسرح بالسينما، والسينما الفن السابع، هي من أرقى الفنون والأكثر تأثيراً وانتشاراً.
**برايك ..ما هي أقسى لحظات ضعف الإنسان؟
حين يفقد الثقة بنفسه!
القوة، ليست مادية فحسب، بل هي روحية: نعم والقوة الروحية تستطيع أن تواجه العنف وتنتصر عليه، وهناك فارق بين القوة والعنف، وقد كتبت عن قوة اللّاعنف الخارقة.
**هل مارست العنف؟
- كلّا وبالمطلق، وقد نظرت إليه دائماً كشيء أقرب إلى الرذيلة، مثلما كنت أزدري من يمارس العنف والقسوة والكراهية ضد الآخر، ولعلّ من يمارس العنف ضد الآخر ، فإنه يمارسه ضد نفسه في الوقت ذاته فهو بذلك ينتزع جزءًا من إنسانيته، وبهذا المعنى فإن من يقوم بفعل العنف ضد الآخر، سيكون عنفاً ضد الذات أيضاً.
وكنت قد تناولت "شذرات من تجربة شخصية" فرويت كيف تعزّزت شحنات اللّاعنف في داخلي، وحتى حين كنّا نبرّر ما يسمّى بالعنف الثوري، فقد كنت ضمنياً ضده، بل إن خشيتي كانت تكبر يوماً بعد يوم حتى وجدت نفسي متمرداً على كل ما له علاقة بالعنف، لأنه لا يولّد غير العنف، وتلك جزء من تجربة الحياة. ولذلك أقف اليوم فلسفياً وعملياً في الموقع المواجه للعنف، وأقول نعم للمقاومة ولا للعنف، أي نعم للمقاومة باللّاعنف وبجميع وسائل ما يسمّى بالقوة الناعمة بالمفهوم الإيجابي للدفاع عن الحقوق
**عندما تسترخي بماذا تفكر ؟
شيئان يكادا يلازمانني هما: الفقراء وفلسطين.ولا أقول ذلك من باب الشعارات، ولكن عليك أن تفتش في كل ما كتبته طيلة نحو خمسة عقود من الزمان فستجد هناك حبلاً سرّياً بيني وبين الفقراء وبيني وبين فلسطين، إذ لا أشعر بالطمأنينة على إنسانيتي إنْ لم أدافع عن الفقراء وعن فلسطين والفلسطينيين الذين عانوا ولا يزالون من ظلم مركّب.
**وماذا تتمنى لهما؟
- العيش الكريم والعدل والسلام مثلما أتمنى لمجتمعاتنا الحرية والمساواة وهذه القيم تمثّل محور تفكيري.
** ما هي المدن التي أحببتها دائماً ؟
- دمشق وبراغ اللتان لن أنساهما أبداً، أما بيروت فتبقى في القلب، والنجف فإنها ما تزال "توشوشني" وبغداد تسكن روحي.
**حيّ في بغداد يعني لك الكثير ؟
- منطقة الوزيرية ، حيث كانت تنتصب كليّتي ومنازل بعض من أصدقائي وملتقى مواعيدي وشارع الرشيد لأن محل أبي لتجارة الأقمشة كان في سوق المرادية "خان النبكة" جنب خان شعبان الذي يعود لجدي حمود شعبان. وشهد شارع الرشيد أنشطة وفاعليات عديدة في عقد الستينات كانت لي مشاركة وحضور فيها يوم ما كان في مجده ومنطقة العطيفية، وخصوصاً الكورنيش حيث يقع منزلنا (قرب ساحة عبد المحسن الكاظمي)، هذه الأماكن هي التي تسكنني، وإذا كانت النجف مسقط رأسي ، لكنها وبغداد تمثّلان وحدة واحدة ، لأنهما مسقط حبّي أيضاً.
**أجمل محطات حياتك؟
- كلّها جميلة: الماضي والحاضر، والإنسان يمكنه أن يخلق الجمال مع نفسه وفيما حوله، ليشيع روح المحبة.
** ما الذي حوّل حياتك ؟
- الحب، فقد نقلني من ضفة إلى أخرى، شعرت معه أنني غادرت عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، وكنت قد سرت أولى خطوات اختياري الفكري مع أولى قبلات الحب التي تعلمّتها.
**هل كان ذلك في فترة الجامعة ؟
- كلّا قبلها بسنوات وتحديداً عندما كان عمري 14 سنة، وأول فتاة تواصلت معها جسدياً وعاطفياً كانت أكبر منّي بثلاثة أعوام . تعلّمنا الفنون بصورة مشتركة، أما قبل هذه الفترة فقد كانت العلاقات سطحية وعابرة وليست أكثر من تذوق أولي لمعنى الحب.
**وماذا عن الجامعة ؟
- إنها فضاء حب وحوار وتواصل وصداقة، وقبل ذلك رواق علم وبيت معرفة.
**ألديك نستولوجيا (حنين) إلى الجامعة؟
- أشعر دائماً إنني منتمٍ إليها ويمكنني القول إنني أجد نفسي فيها ، على الرغم من الابتعاد عنها كان "...على الكراهة بين الحين والحين" كما يقول الجواهري الكبير في فراقه القسري عن دجلة ، وعندما أزور الجامعة أشعر بنفس الشعور حينما كنت طالباً فيها وقضيت أجمل أيام حياتي وأكثرها حيوية.
**كيف غادرتها ردحاً من الزمان ؟
- أنا لم أغادرها إلّا مجبراً، ولكن صلتي بها ظلّت مستمرة، فقد درستُ في جامعة بغداد في "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية" وبعد تخرجي انتسبت إلى جامعات ثلاث هي (جامعة 17 نوفمبر) و"جامعة جارلس" (كلية القانون) حيث حصلت على ماجستير (علاقات دولية ثم قانون عام) و"أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية" (معهد الدولة والقانون) ونلت درجة الدكتوراه (مرشح علوم في فلسفة العلوم القانونية - اختصاص قانون دولي)، وعُينتُ لفترة قصيرة في جامعة بغداد (مركز الدراسات الفلسطينية) واضطررت إلى الانقطاع في العام 1980، ولكن بعد ذلك عدت إلى عملي بصورة متواصلة ومتقطّعة في "جامعة صلاح الدين" (إربيل) كلية القانون والسياسة حين سمحت الظروف بذلك في أواخر السبعينات، وبعد انتهاء فترة الفصل السياسي في العام 2003 أكملت خدمتي فيها (2008-2010)، وعلى الرغم من تقاعدي الآن فأنا أدرّس في بيروت ، وأشرف على أطروحات لطلبة الدراسات العليا، كما أنني حالياً نائب رئيس جامعة اللّاعنف.
**إذاً أنت حالياً بصفة أستاذ زائر للعراق؟
- نعم، ألقيت محاضرات متخصّصة كأستاذ زائر للماجستير والدكتوراه ومحاضرات مشتركة لطلبة معهد العلمين في النجف، وهذا جزء من عملي كأستاذ زائر غير متفرّغ، ولديّ محاضرات في الشهر القادم في ميلانو وعدد من المؤسسات الأكاديمية الإيطالية. وكنت محاضراً في السليمانية (مركز الدراسات المستقبلية) بدعوة من وزير التعليم العالي لإقليم كردستان البروفسور يوسف كوران، ولديّ ارتباطات ومحاضرات مع جامعات عربية عديدة.
**وكيف تنظر إلى التباعد بين الغايات والوسائل؟
- الوسائل ملموسة وهي بيدنا ونستطيع أن نحدّدها لأننا نعرفها ونختارها، أما الغايات فهي بعيدة، وإذا كانت الغايات عادلة، فلا بدّ للوسائل أن تكون عادلة للوصول إلى الغايات، وإلّا فإن الغايات ستكون فاسدة بفساد الوسائل.
** شيء ندمت عليه؟
- أخطأت كثيراً ولا أذيع سراً إذا قلت إنني ما زلت أخطأ، ولكن شفيعي إن أخطائي صميمية، فقد اجتهدت وأخطأت أو أن الحياة لم تزكي بعض استنتاجاتي أو إن تقديراتي استندت على معطيات غير دقيقة أو أن الزمن تجاوزها، لذلك قلت أنني أعتزّ بأخطائي لأنها جزء مني، وهكذا فإنني في مراجعاتي قدّمت نقداً ذاتياً بكل أريحية وشفافية، وهذا أمر طبيعي فمن لا يعمل لا يخطئ ..والبشر خطّاؤون حسب فولتير لذلك علينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.
** أصبحت الاسم الأشهر على الصعيد الفكري والثقافي بماذا تشعر؟
- أشعر أنني ما زالت تلميذاً أتعلّم كل يوم وأخطأ وأصيب،
** تحب الكتابة بالقلم أم الحاسبة أكثر؟
- أشعر مع القلم بمتعة أكبر وتأمّل أكثر، وكأنني أرسم لوحة، أما الحاسبة فينتابني الملل بسرعة منها، فضلاً عن أن كفاءاتي بها محدودة، خصوصاً مع مشاكل أخرى.
** تكتب بلغة الشاهد والناقد والاستقرائي أيضا، ذلك أنك شاهد على أكثر من عهد وهذا ما يشدّ المتابعين لكم؟
- توجد أربع قراءات أمارسها بتفاعل مع نفسي وقد ابتدأت معي مجرد إرهاصات، ثم تعمّقت مع تطوّر وعيي ، الأولى الأكتشافية أي أن تكتشف الشيء، والثانية التأثرية فربما تتبنّى جزءًا مما تكتشفه أو بالعكس تنقضه، فقد تكون مبشّراً به وهذه القراءة تسمّى بالتبشيرية أو تتحول إلى الضد منه وهذه تسمى القراءة الضدّية، والثالثة التحليلية أي أن تحلّل ما قرأته لتتفحّص ما هو مكتوب وتقوم أحياناً بمقارنته، وهذه هي القراءة المقارنة، والرابعة والأخيرة القراءة النقدية العقلية الانفتاحية، خصوصاً بالتساؤلات والأسئلة وهكذا فقد تحوّلت من اليقينية التبشيرية الإيمانية إلى العقلانية التساؤلية النقدية.
** ما هي أخصب الفترات التي مرّ بها العراق على صعيد الفكر والأيدلوجيات الفكرية والثقافية منذ تأسيس الدولة في 1921 إلى الآن ؟
- فترة العهد الملكي والأربعينات والخمسينات تحديداً وذلك دون تردد أو خشية من الوقوع في الخطأ، وهذه فترة كونية وعربية وعراقية أعقبت الحرب العالمية الثانية، فقد تأسست مدارس مختلفة منها المدرسة العراقية في الشعر الحديث من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ثم جاء جيل سعدي يوسف ويوسف الصائغ ورشدي العامل وعبد الرزاق عبد الواحد وسامي مهدي وحميد سعيد وفاضل العزاوي وجيل السبعينات الذي ضم: هاشم شفيق وشوقي عبد الأمير وفوزي كريم وعبد الرحمن طهمازي ونبيل ياسين ( أتوقف عن ذكر الأسماء لأنني لا أستطيع ذكر أسماء مبدعة أخرى ومشهود لها وهذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر كي لا أظلم أحداً) .
أما الشعراء الشعبيين التجديديين ، فيمكنني ذكر مظفر النواب وشاكر السماوي وطارق ياسين وعزيز السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف وجمعة الحلفي ورياض النعماني وآخرين (أتوقّف مرّة أخرى للسبب نفسه، خصوصاً وأن غالبية الساحقة من أبناء هذا الجيل هم من أصدقائي) ومدرسة المسرح: من حقي الشبلي وجعفر السعدي إلى يوسف العاني وخليل شوقي وسامي عبد الحميد وأسعد عبد الرزاق وناهدة الرمّاح وزينب وسعدية الزيدي وسليمة خضير وعوني كرومي وجواد الأسدي وعزيز خيون وهديل كامل وفيصل الياسري وشفيق المهدي وصلاح القصب وفاضل خليل وعواطف نعيم وغيرهم، (وأتوقف هنا مرّة ثانية) .
أما مدرسة الفن التشكيلي فقد ضمّت محمود صبري وجواد سليم وخالد الرحال وشاكر حسن السعيد وفائق حسن واسماعيل الشيخلي ومحمد غني حكمت وجميل حمودي ومجموعة لاحقة امتدّت إلى ضياء العزاوي ورافع الناصري وكاظم حيدر وفؤاد الطائي وفيصل لعيبي وجبر علوان وآخرين وهذه مرحلة الستينات وما بعدها (والاعتذار هنا مكرّر للأسماء التي لم ترد).
القصة تأخرت قليلاً والرواية أكثر بُعداً عنّا وكانت على يد عبد الملك نوري وأدمون صبري وذنون أيوب ..وانتقلت من طور إلى طور على يد غائب طعمه فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهما ..لكن القصة الحديثة تطورت بشكل كبير على أيدي كبار أيضا منهم محمد خضير وعبد الرحمن مجيد الربيعي وفاضل العزاوي ولاحقا ً جمعة اللامي وإنعام كجه جي وابراهيم أحمد وأحمد خلف ونجم والي وعبد الأمير معلّة وبتول الخضيري وأحمد السعداوي وآخرين....
لكننا لم نعرف القصة القصيرة والقصيرة جداً إلّا في سنوات متأخرة على يد عبد الستار ناصر وغيره، وهناك نوع أطلقت عليه الأقصوصة أو المقالة الصحفية الموشاة بحكاية وقد برع فيها أبو كاطع "شمران الياسري" بسخريته المعهودة وربطه المدينة بالريف، وكما هو معروف أن ابن المدينة كان يسخر من ابن الريف، لكن مع أبو كاطع حدث العكس فاكتشف ابن الريف ألاعيب ابن المدينة والخداع والغش أحياناً، فضلاً عن المبالغات ، ولهذا فإنه حاول أن ينقل حقل السخرية من الريف إلى المدينة، وأخذ بعض المثقفين بمن فيهم من أبناء المدن يتأثرون بذلك ويكتشفون واقعهم .
وكتب في ميدان القصة القصيرة جداً محمود البياتي في ( اختراق حاجز الصوت ) وصدرت تلك المجموعة العام 1984 من دار المستقبل العربي في القاهرة وتعتبر تلك محاولة تأسيسية للقصة القصيرة جداً.
** كم يستغرق لديكم كتابة كتاب من سبع ملازم أوأكثر والفكرة مختمرة لديكم ؟
- ربما سنتين أو ثلاثة أو أشهر معدودة حسب نوع الموضوعات والمصادر المتوفرة والأبحاث والدراسات التي اختمرت بذاكرتي وذهني، فأحيانا تكتب مقالة في ساعة، وفي أحيان أخرى تحتاج إلى أسبوعين لأن موضوعها يستعصي عليك، خصوصاً حين تواجهك عقدة من العقد تحاول فكّها فتجدها زادت تعقيداً وتريد دائماً إن تزاوج بين المضمون والشكل، مثلما هناك علاقة بين والصورة والمعنى ،على حد تعبير جلال الدين الرومي يقول "إنك قد رأيت الصورة ولكنك غفلت عن المعنى".
** ليس كل من يتكلّم يشدك نحوه، شخصيات كثيرة تجعلك تسمعها دون حراك وحضرتك منهم ؟
- الصوت مهم جداً لأنه ينمّ عن الثقة بالنفس ويعطي قوة وتأثيراً للمتلقي والمستمع. يقول الكاتب الأرجنتيني استورياس مؤلف كتاب السيد الرئيس "الإنسان إله بسبب من صوته " 0فالصوت يدخل الأذن ثم إلى الدماغ وبعدها إلى القلب، فإما أن يحبه أو أن يكرهه. قد لا تعرف المذيع حين تستمع إلى الراديو ولم ترَ صورته ، لكنك تسمع صوته وتعشقه أحيانا، وهذه جزء من نظرية فيور باخ "الحسية"، فالصوت حسّي "...والإذن تعشق قبل العين أحياناً، كما قال الشاعر بشار ابن برد.
**هل تسلّمت منصب وظيفي في الحكومة العراقية؟
- لا ..لا في السابق ولا في الحاضر ولم أعمل موظفاً حكومياً أصلاً، باستثناء فترة قصيرة عملت فيها كأستاذ جامعي، وهذه ليست وظيفة بالمفهوم الضيق وكان مكتبي وما يزال استشارياً في لندن وبيروت، والكتابة هي الشغل اليومي الذي أمارسه منذ عقود من الزمان.
** كيف وضعت قدمك اليمنى في السير في مجال الفكر منذ شبابك ؟
- العائلة، ولاسيّما الأعمام والأخوال حيث كانت مكتباتهم عامرة بالكتب والمجلات والصحف، إضافة إلى المدينة وبيئتها الثقافية، فالنجف معهد ثقافي وفكري مفتوح، وهي مدينة أدب وعلم ومدينة جدال وسجال، وبقدر ما يمكن اعتبارها مدينة دينية ، فهي مدينة مدنية بامتياز أيضاً، خصوصاً وهي مدينة مفتوحة ، يفدها الزوار من كل مكان، ومدارسها وحوزتها الدينية أممية وتتسع للجميع، من عرب وفرس وهنود وباكستانيين وبنغلادشيين وأتراك وأفغان ومن التيبت وجمهوريات آسيا السوفيتية السابقة، إضافة إلى دول الخليج: من المملكة العربية السعودية، ولاسيّما الإحساء والقطيف، والبحرين والكويت، إضافة إلى سوريا ولبنان وغيرها.
**ما هي أهم الشخصيات النجفية التي كتبت عنها؟
- الجواهري، سلام عادل، سعد صالح (جريو) ، محمد بحر العلوم ، محمد حسين فضل الله (ولد في النجف وعاش فيها 33 عاماً) محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر ومصطفى جمال الدين (عاش في النجف) وصاحب الحكيم (صديق العمر) ومحمد الحسني البغدادي ، نجاة شعبان (والدتي) فقد كتبت لها اعتذاراً علنياً ووضعتها بين الكبار، لأنني أجدها كذلك.
**الجواهري كان يحب مجالستك ..بماذا تتذكّر من الجواهري الإنسان ؟
- دهشته وحبّه للجمال وبعض مقالبه المحببة.
** ما العلاقة بين الإيمان وعدم الإيمان وكيف تنظر إلى ذلك شخصياً؟
- لا ضير إذا قلنا أنه لا حياء في الدين فلا حياء في العلم ولا حياء في الإيمان أو حتى عدم الإيمان إذا كان الأمر يتعلق بالعدالة والحرية، وبالنسبة لي لديّ علاقة خاصة بالسماء فلا وسيط بيني وبينها، ودائماً وتأتيني دائماَ إشارات كأنها كهرومغناطيسية وهي تشعرني بالطمأنينة والراحة دائماً، وحين استفقت من بعد العملية الكبرى، رويت كل شيء حدث لي وهو ما أسميته "هلوسات ما بعد الموت الأول" ، فلم أشعر إلّا وكأنني كنت في نزهة ، ولا أدري كيف يحدث ذلك سوى أن إيماني لا تحده حدود.
** رشحت من قبل مفكرين عرب لنيل جائزة نوبل فماذا كان شعورك؟
- شعرت بحرج وقلق ومسؤولية، بل ومفاجأة وحيرة أيضا، فأنا أعرف القيود التي تكبّل جائزة نوبل العلنية والسرية، ولذلك استمحت الأصدقاء عذراً لأن مجرد أن يأتي الترشيح من تلكم الشخصيات المرموقة والمبدعة هو شرف عظيم.
1449 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع