القيمة السياسية لتحريك وانفتاح القوات العسكرية قراءة استراتيجية في استخدام القوة كرسالة سياسية في الأزمات الدولية / اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس

اللواء الركن
علاء الدين حسين مكي خماس

القيمة السياسية لتحريك وانفتاح القوات العسكرية قراءة استراتيجية في استخدام القوة كرسالة سياسية في الأزمات الدولية

المقدمة:

في العلاقات الدولية، لا تُقاس القوة العسكرية فقط بعدد الجيوش أو ضخامة الترسانة، بل بكيفية إدارتها في لحظات الأزمات، وتوقيت استخدامها، أو التلويح بها كأداة ضغط في التفاوض. في عالم السياسة، القوة المسلحة ليست دائمًا أداة للحرب، بل كثيرًا ما تكون أداة سياسية بامتياز، تستخدم في لحظات التعقيد لإيصال رسائل، أو لرسم خطوط حمراء، أو لفرض وقائع على الأرض دون إطلاق رصاصة واحدة.
ومع اتساع مفهوم الردع، وتعقيد أدوات إدارة الأزمات، أصبحت تحركات الجيوش، وعمليات إعادة التموضع، وإرسال القطع البحرية أو الجوية إلى مناطق التوتر، أشبه بلغة قائمة بذاتها. لغة تُقرأ في غرف القرار، وتفكك شيفراتها أجهزة الاستخبارات، وتُرسم بموجبها تقديرات الموقف، سواء لدى الخصوم أو الحلفاء. وهكذا، أصبح تحريك القوات المسلحة، بمختلف أصنافها، واحدًا من أكثر أدوات السياسة الخارجية حساسية وتعقيدًا.
غير أن السؤال الجوهري الذي يتغافل عنه كثير من المراقبين هو التالي: هل كل تحريك عسكري يعني نية حقيقية لاستخدام القوة؟ أم أن هناك درجات دقيقة من الالتزام السياسي يعكسها نوع التحريك؟ وهل يمكن التراجع بسهولة عن قرار الدفع بقوة عسكرية نحو ساحة توتر دون أن تترتب على ذلك خسائر سياسية أو استراتيجية جسيمة؟ هذا هو لبّ الإشكالية التي يتناولها هذا المقال.
في الممارسة الاستراتيجية، ليست كل أشكال التحريك العسكري متساوية من حيث الدلالة أو الكلفة أو قابلية التراجع. فهناك فرق واضح بين إرسال سرب من الطائرات إلى قاعدة متقدمة كرسالة ضغط، وبين تحريك أسطول بحري نحو منطقة نزاع، أو الدفع بقوات برية كبيرة إلى ساحة محتملة للصراع. كل واحدة من هذه الخطوات تعني مستوى معينًا من الجدية، وتكشف درجة مختلفة من الالتزام السياسي باستخدام القوة، أو ما يمكن تسميته "سلّم الالتزام العسكري".
ففي حين أن تحريك القوات الجوية يتميز بالسرعة والمرونة وقابلية الانسحاب السريع دون خسائر سياسية كبيرة، فإن تحريك القوات البحرية، رغم تكلفته الأعلى، ما زال يقع ضمن هامش التراجع المنضبط، وإنْ مع تأثير سياسي أوسع. أما تحريك القوات البرية، فهو غالبًا ما يكون الخطوة الأخيرة في هذا السلّم، ويُعدّ في نظر كثير من المفكرين العسكريين "نقطة اللاعودة" التي تعني، في معظم الحالات، أن الحرب باتت وشيكة أو حتمية، وأن الانسحاب سيكون أثمن من أن يتحمله الطرف الذي بدأ التحريك.
تأتي أهمية هذه القراءة التحليلية في ظل تصاعد الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وإيران، وتزايد الحديث عن احتمالات مواجهة في ضوء تعثر المسار التفاوضي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وتفاقم الخلافات حول الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي لطهران. وفي هذا السياق، ورغم تصريحات الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب بأنه لا يريد حربًا مع إيران، فإن تحريك القاذفات الاستراتيجية، ونشر حاملات الطائرات، وتعزيز الوجود الأميركي في قاعدة دييغو غارسيا ومناطق أخرى، يُظهر استخدامًا سياسيًا كثيفًا للقوة دون دخول فعلي في القتال.
كما أن الدور الإسرائيلي الضاغط بات عنصرًا إضافيًا في مشهد الأزمة، خاصة مع تسريبات متزايدة حول رغبة إسرائيل في تنفيذ ضربة جوية استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كان الهجوم الجوي سيكون كافيًا لتحقيق الأهداف، أم أنه سيستدعي تحركات أوسع، قد تجر المنطقة إلى صراع أعمق.
من هنا، يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل استراتيجي يتناول العلاقة بين أنواع التحريك العسكري الثلاثة: الجوي، البحري، والبري، وبين درجة الالتزام السياسي الفعلي باستخدام القوة. وسنحاول عبر هذا التحليل توضيح كيف يمكن قراءة نوايا الدول من طبيعة التحركات التي تقوم بها في الميدان، متى يمكن التراجع دون كلفة، ومتى يصبح التراجع شبه مستحيل، أو باهظًا على المستويين السياسي والنفسي.

النظرية الاستراتيجية لتحريك القوة والمناورة بها
لطالما ارتبط استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية بمفهوم "الردع" كأداة جوهرية لمنع الخصم من اتخاذ خطوات معادية دون الحاجة إلى الدخول الفعلي في الحرب. ولكن الردع، كما بين المفكر الأميركي توماس شيلينغ في كتابه المرجعي "Arms and Influence" (1966)، لا يقوم فقط على امتلاك القوة، بل على إظهارها بطرق تجعل نوايا استخدامها قابلة للتصديق. ومن هنا وُلد مفهوم "الردع عبر الإظهار" (Deterrence by Deployment) بوصفه آلية فعّالة لإيصال الرسائل السياسية والعسكرية من دون خوض صراع مفتوح.
في هذا السياق، يُصبح تحريك القوات المسلحة في أوقات التوتر أداة استراتيجية قائمة بذاتها، تنتمي إلى مزيج دقيق من السياسة والعسكرية والنفسية. فحين تقرر دولة ما نقل قطع بحرية إلى منطقة نزاع، أو إرسال طائراتها إلى قواعد متقدمة، فهي لا تقوم بذلك عشوائيًا أو لمجرد عرض القوة، بل في إطار حسابات دقيقة تتعلق بما تودّ أن تقوله سياسيًا، دون أن تنطقه مباشرة. إن هذه التحركات تحمل في طياتها "إشارات ذات مغزى" (Signals of Intent)، وهي تعبير فعلي عن الجدية في التعامل مع الأزمة، وإن لم تصل الأمور بعد إلى مستوى قرار الحرب.
وبينما يبدو هذا السلوك متكررًا في الأزمات الدولية، فإن فهم الالتزام الفعلي المصاحب لكل نوع من أنواع التحريك هو أمر بالغ الأهمية، لا سيما أن بعض أشكال التحشيد تُستخدم كوسيلة ضغط قابلة للتراجع، في حين أن أنماطًا أخرى من التحريك تكاد تمثل تعهدًا ضمنيًا بالحرب، لا يمكن التنصّل منه بسهولة دون دفع أثمان سياسية أو أمنية.
الفرق هنا بين "التهديد الكلامي" و"التحريك الفعلي" جوهري. التهديد الكلامي، مهما علا صوته، يبقى في ساحة التراشق الإعلامي والسياسي، وقد يُستهلك في الخطابات دون أن تترتب عليه كلفة مباشرة. أما التحريك الفعلي للقوات، فهو سلوك يترجم الخطاب إلى فعل، ويجبر الطرف الآخر – سواء كان خصمًا أم حليفًا – على إعادة تقييم النوايا، والاستعداد لأسوأ الاحتمالات. وبذلك، فإن التحريك يُجسّد مرحلة متقدمة من التصعيد السياسي، تُفهم ضمن منظومة الرسائل الاستراتيجية لا على أنها بداية للحرب، بل كتحذير مدروس مبني على شرط: إذا لم تنصعوا، فلدينا القدرة والإرادة.
ولكن، هنا تأتي المفارقة: ليست كل أشكال التحريك متساوية في دلالتها ولا في تكلفتها. فبينما يستطيع الطيران الحربي أن يتحرك في غضون ساعات من قاعدة إلى أخرى، ويعود أدراجه دون إثارة أزمة كبرى، فإن تحريك أسطول بحري يتطلب وقتًا وتخطيطًا وتنسيقًا لوجستيًا وماليًا وسياسيًا. أما القوات البرية، فهي الأشد كلفة وتعقيدًا، ويصعب التراجع عنها دون أن تفقد الدولة المحركة هيبتها، أو تظهر بمظهر المتردد غير الحاسم.
ويُعدّ هذا التدرّج في مستويات الالتزام أحد ركائز نظرية "سلّم التصعيد" في الدراسات الاستراتيجية، وهو ما أشار إليه كثير من المفكرين مثل لورنس فريدمان وكولين غراي، حيث لا يُنظر إلى التصعيد العسكري كفعل قاطع، بل كسلسلة من الخطوات التي تحمل كل منها رسالة مختلفة، وتنتقل من مرحلة "الاستعراض" إلى "التحذير"، ثم إلى "التهديد العملي"، وصولًا إلى "الاشتباك الحتمي".
ومن بين القواعد المعروفة في هذا الإطار أن كل خطوة تصعيدية تزيد من تكلفة التراجع. فبينما يمكن التراجع عن تحريك سرب من القاذفات دون تبعات تذكر، فإن التراجع عن حشد بري كبير على حدود نزاع قد يُنظر إليه من قبل الخصم كعلامة ضعف، أو من قبل الداخل السياسي كفشل في الحسم. وهنا يظهر مصطلح "الالتزام المقيد ذاتيًا" (Self-Binding Commitment)، الذي تلجأ إليه الدول حينما تريد أن تُغلق على نفسها باب التراجع كوسيلة لإظهار الجدية القصوى.
إن تحريك القوات لا يهدف فقط إلى الضغط على الخصم، بل أيضًا إلى تقييد خيارات صانع القرار نفسه. فالدولة التي تحرك قواتها البحرية أو البرية إلى منطقة نزاع تضع نفسها في موقف يصعب معه التراجع دون أن تُتهم بالضعف أو التردد، وهو ما يجعل هذا التحريك بمثابة رهان سياسي بحد ذاته. ولذلك فإن التحريك، بحسب المدرسة الواقعية، ليس مجرد أداة للضغط على الآخر، بل وسيلة لإظهار الجدية أمام الداخل والخارج على حد سواء.
كما لا يجب إغفال البعد الزمني في هذا التحليل. فالتحريك العسكري ليس دائمًا ذا مفعول فوري، بل قد يكون جزءًا من تكتيك طويل الأمد لبناء ضغط متدرج. في بعض الحالات، يكون تحريك القوات بمثابة إشارة تحذير مبكرة، وفي حالات أخرى يكون تمهيدًا حقيقيًا لحرب وشيكة، تتطلب إشغال الرأي العام، وتحضير الرأي الداخلي، وإعطاء الخصم فرصة أخيرة للتراجع. وهذا ما لاحظناه مثلًا في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، حين كان كل تحريك يُقرأ بدقة من قبل الطرفين لتفادي الانزلاق إلى حرب نووية.
ومن خلال ما سبق، يتضح أن فهم تحريك القوة في الأزمات لا يجب أن ينحصر في بعده العسكري الصرف، بل يجب أن يُفهم كرسالة سياسية مركبة، تزاوج بين الإشارة والقدرة، بين الإظهار والاستعداد، وبين التهديد والإكراه. وهذه الرؤية التحليلية هي ما سيساعدنا في الأقسام التالية على تقييم كل نوع من أنواع التحريك – الجوي، البحري، البري – من حيث دلالته السياسية، كلفته، ومقدار الالتزام الذي يفرضه على الدولة التي تقرره.

حركة القوات الجوية – أداة الردع السريع والتراجع السهل
من بين أدوات التحريك العسكري التي تلجأ إليها الدول أثناء الأزمات، تبرز القوة الجوية كأداة فريدة تمتاز بالمرونة العالية، والسرعة في النشر، وسهولة التراجع، مقارنة بالخيارات الأخرى، لا سيما البحرية والبرية. فبفضل طبيعته التقنية والتشغيلية، يُستخدم الطيران العسكري كوسيلة فعالة لإيصال رسائل استراتيجية ذات طابع تحذيري أو ردعي، دون أن يتحمل صانع القرار كلفة سياسية أو عسكرية كبيرة في حال قرر التراجع لاحقًا.
يشكّل التحريك الجوي أول طبقة في سلّم التصعيد العسكري، وهو الأسلوب المفضل لدى الكثير من القوى الكبرى عندما ترغب في ممارسة الضغط السياسي مع إبقاء الخيارات مفتوحة. وقد عرّف المفكر الأميركي توماس شيلينغ هذا النوع من التصرفات في إطار ما سمّاه "الردع عبر الإظهار" (Deterrence by Deployment)، حيث يتم تحريك القوة لإرسال إشارة نية، دون الدخول في مواجهة مباشرة (Schelling, 1966). ويُعد تحريك الطيران من أبرز تمثيلات هذا المفهوم، لأنه قابل للتوظيف بمرونة، ويمنح القائد السياسي سلطة الضبط والإيقاع دون أن يكون مُلزَمًا فعليًا بالقتال.
وتتيح القوة الجوية للدولة تحريك طائراتها المقاتلة أو قاذفاتها الاستراتيجية أو طائرات المراقبة والاستطلاع إلى مناطق التوتر خلال وقت قصير نسبيًا، دون الحاجة إلى بنى تحتية كبيرة، أو موافقات طويلة الأمد كما هو الحال مع القوات البرية. ولذا، فإن الرسائل السياسية التي يحملها التحريك الجوي تكون عادةً ذات طابع رمزي قوي، دون أن تكون تصعيدية بشكل لا يمكن احتواؤه (Freedman, 2013). ويتيح هذا لصانعي القرار اختبار ردود أفعال الخصوم، أو تحذيرهم، أو استباق تصرفاتهم دون التورط في عمليات ميدانية لا يمكن التراجع عنها.
ومن أمثلة ذلك، اعتماد الولايات المتحدة المتكرر على تحريك قاذفاتها الاستراتيجية من طراز B-52 إلى منطقة الخليج أو شبه الجزيرة الكورية في إطار الردع، كما في أزمات عامي 2019 و2020 مع إيران، أو في مواجهة التهديدات من كوريا الشمالية، حيث كانت الرسالة واضحة: نحن مستعدون، لكن لا نسعى للحرب (Katzman, 2020; CSIS, 2021). كذلك، نفذت قاذفات أميركية طلعات فوق بحر الصين الجنوبي خلال توترات مع بكين، لتعزيز هيبة الوجود الأميركي، دون التصعيد الفعلي إلى صدام مسلح (Heginbotham et al., 2015).
كما أن التحريك الجوي يوفّر للدول إمكانية "الضغط التدريجي" عبر تفعيل مستويات مختلفة من التحرك: بداية من مجرد التحليق فوق مناطق التوتر، إلى تعزيز التمركز في القواعد المتقدمة، وصولًا إلى حالة التأهب القتالي الكامل، وربما الضربات الجوية المحدودة. وقد استفادت إسرائيل مرارًا من هذا التدرج في تدخلاتها ضد أهداف إيرانية في سوريا، حيث كانت الطلعات الجوية وسيلة لإيصال رسالة ردعية واضحة، دون الدخول في حرب مفتوحة.
وعلى الرغم من أن التحريك الجوي لا يفرض التزامات حتمية مثل التحريك البري، إلا أن له وزنه السياسي حين يستخدم ضمن استراتيجية ردع متكاملة. ففي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، لم تكن طلعات طائرات U-2 الاستطلاعية مجرد أدوات استخباراتية، بل رسائل صريحة للسوفييت، أرفقتها واشنطن بإنذارات سياسية وعسكرية متدرجة (Allison & Zelikow, 1999). هنا، أصبح الطيران أداة سياسية بامتياز، وليس مجرد ذراع قتالي.
ميزة التحريك الجوي الكبرى تكمن في سهولة التراجع عنه دون فقدان ماء الوجه أو التعرض لضغط داخلي كبير. فبإمكان القيادة السياسية سحب الطائرات أو تقليص طلعاتها دون أن يُفسَّر ذلك على أنه ضعف أو تردد، كما هو الحال عند سحب قوات برية أو إلغاء مناورات بحرية. وقد استفادت الإدارات الأميركية المتعاقبة من هذا الهامش، حيث استخدمت الطيران لفرض "مناطق حظر طيران" أو لشن ضربات محددة، ثم تراجعت عندما اقتضت الحاجة، دون تكلفة سياسية كبيرة (Art & Cronin, 2003).
ومع ذلك، لا تخلو هذه الأداة من مخاطر سوء التقدير أو التصعيد غير المقصود. ففي بعض الأزمات، قد يسيء الطرف المقابل تفسير التحليق المكثف للطائرات على أنه تمهيد لهجوم، مما يدفعه إلى الرد الاستباقي. وقد حدث ذلك مرارًا خلال المواجهات بين روسيا وحلف الناتو، حيث أدت الطلعات القريبة من الأجواء الروسية إلى حوادث اقتراب خطيرة، كادت أن تتسبب بتصعيد لا يُراد له أن يقع (Jones, 2021).
كما أن التحريك الجوي قد يفقد قيمته الردعية إذا تكرر دون تأثير فعلي، أو إذا لم يُقرن بخطوات ميدانية أخرى. فالضربات الجوية وحدها، وإن كانت رمزية أو انتقائية، لا تكفي غالبًا لإجبار الخصم على تغيير سلوكه جذريًا، ما لم يشعر بأن هناك استعدادًا لاستخدام وسائل ضغط أكثر شمولًا. وقد واجهت إسرائيل هذا التحدي مرارًا في ضرباتها ضد الأهداف الإيرانية، حيث لم تُحقق أغلب تلك الضربات تحوّلًا استراتيجيا في سلوك طهران، رغم أنها خلقت تكلفة تكتيكية كبيرة.
وفي الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران، تُستخدم القوة الجوية بشكل واضح في هذا الإطار. فقد نُفّذت طلعات أميركية متكررة لقاذفات بعيدة المدى فوق الخليج العربي والبحر الأحمر خلال عامي 2024 و2025، تزامنًا مع تصاعد التوتر بشأن البرنامج النووي الإيراني. ومع أن هذه الطلعات لم تترافق مع عمليات برية أو بحرية كبيرة، فإنها شكّلت أداة ضغط مرنة ومباشرة، موجهة ليس فقط إلى إيران، بل أيضًا إلى إسرائيل وبعض الحلفاء في المنطقة، لتأكيد الجدية الأميركية دون التورط في التصعيد الكامل.
إن التحريك الجوي، بهذا المعنى، يمثل المرحلة المبكرة والأقل التزامًا من سلّم التصعيد العسكري. هو أداة يمكن استخدامها بسرعة، وتعديلها في اللحظة المناسبة، أو سحبها دون تبعات استراتيجية كارثية. لكنها، رغم مرونتها، لا تكفي وحدها لصناعة الردع الحاسم، إلا إذا أُدرجت ضمن معادلة أكثر شمولًا تتضمن تهديدات بحرية أو برية، أو قرارات سياسية جادة تدعم المسار العسكري الرمزي.

حركة القوات والاساطيل البحرية – الردع العميق والتكلفة المتوسطة
في سلّم التحريك العسكري أثناء الأزمات، يحتل التحريك البحري مرتبة وسطى بين الخيارين الجوي والبري. فهو أكثر تكلفة وأطول زمنًا في التنفيذ من التحريك الجوي، ولكنه في الوقت ذاته أقل التزامًا وخطورة من التحريك البري. وتتمثل قيمته الاستراتيجية في قدرته على الجمع بين الإشارة السياسية القوية والمرونة العملياتية، مما يجعله أداة مفضّلة لدى القوى الكبرى عندما ترغب في تعزيز الردع دون بلوغ نقطة اللاعودة.
تمتاز القوات البحرية بقدرتها على الوجود المستدام طويل الأمد في مناطق بعيدة عن أراضي الدولة، دون الاعتماد الكامل على قواعد برية أو بنى تحتية محلية. وهذا ما يمنح حاملات الطائرات، والمدمرات، والغواصات ذات الدفع النووي، طابعًا رمزيًا وسياسيًا خاصًا، يجعل من وجودها في منطقة نزاع رسالة قائمة بذاتها. وكما يشير الباحث Barry Posen، فإن “تحريك الأساطيل البحرية يرسل إشارة ردع تتجاوز في كثير من الأحيان نطاق الرسائل الجوية، لأنه يعبّر عن استعداد أكثر عمقًا للدخول في مواجهة متعددة الأبعاد” (Posen, 1984).
وغالبًا ما يُنظر إلى حاملات الطائرات بوصفها "منصات سيادة عائمة"، تحمل معها القوة الجوية والقيادة والاتصالات، والقدرة على تنفيذ عمليات عسكرية كاملة من عرض البحر. وعندما تتحرك هذه الحاملات إلى منطقة مثل الخليج أو البحر الأحمر أو شرق المتوسط، فإنها لا تلوّح بالقوة فقط، بل تُحدث تغييرًا فعليًا في معادلة التوازن الإقليمي، وتفرض على الطرف المقابل إعادة حسابات الاحتمالات والمخاطر (Till, 2013).
وفي الأزمة الراهنة، برزت التحركات البحرية الأميركية في البحر الأحمر كأحد أبرز مظاهر الردع العسكري غير المباشر. فقد تم نشر أكثر من مجموعة ضاربة من حاملات الطائرات في المنطقة، وذلك في سياق التصعيد المتواصل مع جماعة الحوثي المدعومة من إيران. وبينما كان الهدف المعلن هو حماية الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن، فإن الرسائل الفعلية كانت متعددة الاتجاهات، وتركزت بشكل خاص نحو طهران، التي يُنظر إليها على أنها المحرك غير المعلن للهجمات التي نفذها الحوثيون على سفن أميركية وبريطانية.
وقد ترافق هذا التحريك مع تصريحات رسمية من وزارة الدفاع الأميركية تؤكد أن “الرد الأميركي على التهديدات البحرية لا يستهدف الحوثيين فقط، بل يمتد إلى كل من يسعى لاختبار حدود الردع الأميركي في المنطقة” (DoD Statement, January 2025). وهكذا، تحولت هذه القطع البحرية إلى أداة مزدوجة: عملياتية ضد الجماعة المسلحة، وردعية ضد الدولة الراعية، ورسالة صريحة للحلفاء أيضًا.
وإلى جانب هذه الحالة، تُشكّل المدمرات، والطرادات، والغواصات الهجومية جزءًا من "الوجود البحري المتقدم"، الذي تستخدمه الولايات المتحدة، وحلف الناتو، وحتى الصين، لإبراز الهيمنة أو الردع حسب السياق. فخلال أزمة تايوان، على سبيل المثال، شكّلت تحركات الأسطول السابع الأميركي في بحر الصين الجنوبي عامل ضغط استراتيجي فاعل على بكين، حتى دون تنفيذ ضربة واحدة (Yoshihara & Holmes, 2008).
ميزة التحريك البحري هي أنه يستغرق وقتًا في الوصول والتنفيذ، لكنه يمنح صانع القرار مجالًا للتقدير المرحلي. فالأسطول المتجه إلى منطقة توتر قد يستغرق أيامًا أو أسابيع للوصول، ما يتيح هامشًا زمنيًا إضافيًا للمفاوضات، أو لإرسال رسائل تصعيدية أو تهدئة. كما أن الأسطول، بمجرد وصوله، يمكن أن يبقى في مكانه لأسابيع أو شهور، مما يجعل أثره السياسي والنفسي أكثر دوامًا من التحليق الجوي العابر (Till, 2018).
لكن هذه المزايا ترافقها تكاليف تشغيلية وسياسية أعلى من التحريك الجوي. فالنقل، والإمداد، والصيانة، والحماية، والتشغيل المشترك مع الوحدات الأخرى، كلها تستهلك موارد كبيرة، مما يجعل التحريك البحري قرارًا لا يُتخذ اعتباطًا. وهو ما عبّر عنه المحلل العسكري Robert Work حين قال إن “تحريك الأسطول هو بيان سياسي مكلف، لكنه أقل حساسية من نشر القوات البرية، وأكثر مرونة في أدوات الضغط” (Work, 2006).
ميزة التحريك البحري الأهم تكمن في قدرته على الاحتواء دون التصعيد الحتمي. فالدولة التي تحرّك أسطولًا نحو منطقة صراع لا تُلزم نفسها بالاشتباك الفوري، كما هو الحال في الحشد البري، لكنها تخلق تهديدًا موثوقًا يمكن تفعيله أو تعطيله بحسب تطورات الموقف. وقد نجحت الولايات المتحدة في توظيف هذا التهديد مرارًا في الخليج العربي، والبحر المتوسط، والمحيط الهادئ، دون أن تتورط في مواجهة مباشرة، مع الحفاظ على صورة الحزم والسيطرة.
ومع ذلك، لا يخلو التحريك البحري من المخاطر. فحوادث الاحتكاك البحري بين القطع الأميركية والروسية في البحر الأسود، أو بين السفن الأميركية والصينية في مضيق تايوان، تُظهر كيف أن الوجود البحري قد يتحول من أداة ردع إلى مصدر تصعيد إذا لم يُدار بحذر (Liff & Ikenberry, 2014). كما أن بقاء الأسطول في مناطق التوتر بعد انقضاء الأزمة قد يُفسَّر كتصعيد غير ضروري، أو يُنتج حالة من الجمود الاستراتيجي المكلف.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن التحريك البحري، رغم تكلفته، يظل أداة مرنة نسبيًا. فبخلاف القوات البرية التي يصعب سحبها دون إحراج سياسي، فإن عودة الأسطول البحري إلى قواعده لا تُعد خسارة فادحة. وقد عبّرت عن ذلك تقارير RAND حين وصفت التحريك البحري بأنه “تهديد قيد التجريب”، يمكن تعليقه أو تفعيله وفق الموقف (RAND, 2019).
وهكذا، يُعد التحريك البحري مرحلة وسطى على سلّم الالتزام العسكري: أعلى من التحريك الجوي من حيث التأثير السياسي والرمزية، وأقل من التحريك البري من حيث الخطورة والاستدامة. وهو أداة فعالة عندما تُستخدم لتأمين ردع مدروس، خاصة في بيئات متعددة الأطراف، حيث يكون الظهور البحري رسالة موجهة إلى الخصوم والحلفاء في آن واحد.

حركة القوات البرية – نقطة اللاعودة السياسية والعسكرية
بينما يُنظر إلى التحريك الجوي كأداة ضغط مرنة، وإلى التحريك البحري كرسالة استراتيجية مدروسة، فإن التحريك البري يمثل ذروة التصعيد السياسي والعسكري، وهو في الغالب المؤشر الأقوى على اقتراب الحرب أو الاستعداد الفعلي لها. فبعكس ما يمكن أن يُفهم من تحريك طائرة أو حاملة، فإن نقل قوات برية إلى منطقة توتر ينطوي على التزامات ضخمة في النواحي اللوجستية، والسياسية، والاجتماعية، مما يجعل التراجع عنه قرارًا مكلفًا، إن لم يكن مستحيلًا في بعض السياقات.
تكمن خطورة التحريك البري في كونه لا يُفهم من قبل الخصم، ولا من قبل الحلفاء، ولا من قبل الرأي العام الداخلي، إلا على أنه إعلان فعلي للجهوزية القتالية والهجوم المحتمل. فالقوات البرية لا تتحرك عادةً لمجرد التهديد، بل لتنفيذ مهام تتطلب التواجد الفعلي على الأرض. كما أن تجهيز هذه القوات، وإمدادها، وتأمين انتشارها، يتطلب تحريك قطعات عسكرية ومؤسسات مدنية كاملة خلفها، وهو ما يُعبّر عن قرار استراتيجي يتجاوز الرسائل السياسية المؤقتة (Biddle, 2004).
في التحليل الاستراتيجي الكلاسيكي، يُنظر إلى التحريك البري على أنه الطبقة الأخيرة في سلّم التصعيد العسكري، أو ما يسميه البعض “مرحلة الالتزام غير القابل للإنكار” (Irreversible Signaling). فبخلاف الطائرات أو القطع البحرية التي يمكنها الانسحاب في ساعات أو أيام دون آثار جسيمة، فإن إعادة القوات البرية من الميدان تُعد عادة علامة ضعف أو إخفاق سياسي، خاصة إذا تم ذلك بعد فشل في تحقيق الأهداف أو دون نتائج تفاوضية واضحة (Fearon, 1997).
ولعل أبرز ما يميز التحريك البري هو الحجم الهائل للموارد المطلوبة. إذ لا يقتصر الأمر على نقل الجنود، بل يشمل الأسلحة الثقيلة، الآليات، الوقود، الذخائر ( العتاد) ، وحدات الإمداد، المستشفيات الميدانية، مراكز القيادة، شبكات الاتصالات، أنظمة الدفاع الجوي، وغيرها من عناصر البنية التحتية القتالية. وهذا كله لا يتم في الخفاء، بل يُرصد من قبل وسائل الإعلام، والاستخبارات، والسكان المحليين، مما يجعل القرار مكشوفًا في توقيته وأبعاده (Mahnken, 2008).
ومن الأمثلة المعروفة، ما حدث خلال الاستعدادات الأميركية لحرب الخليج الثانية عام 1990–1991. فعندما قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها التحرك لتحرير الكويت، لم تكتف بالتهديدات الجوية أو البحرية، بل حشدت أكثر من نصف مليون جندي، ونقلت آلاف الدبابات والمركبات القتالية إلى السعودية. هذا التحشيد لم يكن فقط استعدادًا تقنيًا، بل رسالة سياسية واضحة بأن الحرب باتت شبه حتمية، وأن التراجع لم يعد خيارًا متاحًا. ولم يكن من الممكن إعادة تلك القوات بعد شهور من التجييش دون أن يفقد التحالف مصداقيته (Freedman & Karsh, 1993).
وينطبق التحليل ذاته على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حيث استمرت التحركات الجوية والبحرية أشهرًا، لكن المؤشر الحاسم على قرار الحرب جاء عندما بدأت وحدات المشاة والمدرعات بالتحشد في الكويت ومن ثم عبر الحدود. لقد أدرك العالم، كما كان على الحكومة العراقية ان تدرك ، أن المسألة لم تعد قابلة للتسوية السياسية، وأن الهجوم صار مسألة توقيت، لا خيارًا نظريًا. وحتى عندما فشلت الأمم المتحدة في إصدار تفويض صريح بالحرب، لم تتراجع واشنطن ، لأن التحريك البري كان قد خلق ديناميكية التزام لا رجعة فيها (Record, 2004). ، وهذا تنفيذ لمخطط واشنطن في غزو العراق الذي اتخذ مسبقا. ومن الجدير بالذكر انه يمكن تفسير هذه الظاهرة ضمن ما يُعرف في دراسات الصراع بـ"مفارقة الالتزام" (The Commitment Trap)، وهي الحالة التي يدخل فيها صانع القرار في دوامة التصعيد بسبب تحركاته السابقة، لا بسبب نواياه الأصلية. فمجرد تحريك القوات البرية، وإعلان الجاهزية، يُولّد ضغطًا داخليًا وخارجيًا لا يسمح بالتراجع، وإلا فُسّر ذلك على أنه ضعف أو إخفاق في إدارة الأزمة (Snyder & Diesing, 1977).
والتحريك البري لا يُمثل عبئًا عسكريًا فقط، بل كلفة اجتماعية داخلية. إذ إن تحريك آلاف الجنود، وظهورهم على الشاشات وهم يتجهزون للقتال، يُثير الرأي العام، ويجعل خيار الحرب حتميًا في أذهان الكثيرين. فالتراجع في مثل هذه الظروف قد يؤدي إلى تآكل شعبية القيادة السياسية، أو إثارة انقسامات داخلية، أو تراجع ثقة الحلفاء (Gartner & Segura, 1998). ولهذا السبب، تحرص الدول عادةً على أن يكون هذا النوع من التحريك مصحوبًا بإستراتيجية إعلامية دقيقة، تُمهد للرأي العام مبررات العمل العسكري، حتى لو لم تقع الحرب فعليًا.
في الأزمات الجارية، لا نلاحظ حتى الآن تحريكًا بريًا أميركيًا نحو إيران أو مناطق جوارها، على الرغم من التصعيد في البحر والجو. هذا الغياب لا يُعد مؤشر ضعف، بل على العكس، هو تعبير دقيق عن أن الخيارات العسكرية لا تزال تحت سقف الردع وليس الحسم. فالولايات المتحدة، رغم كل الاستعراضات الجوية والبحرية، لم تبدأ بتجهيز وحدات برية كبيرة في دول مثل الكويت أو العراق أو السعودية، ما يعني أن نية الحرب الشاملة لا تزال غير مؤكدة.
ويكفي هنا أن نقارن الموقف الحالي مع سلوكيات الحرب السابقة. ففي أزمة إيران عام 2007، نقلت واشنطن ألوية دعم لوجستي وأقامت وحدات طبية في الخليج، لكنها لم تحرك قوات برية هجومية، مما أعطى طهران انطباعًا بأن التصعيد الأميركي سيبقى محدودًا. في حين أن المرات التي حرّكت فيها واشنطن قواتها البرية فعلًا، كما في كوبا 1962 والعراق 1990و 2003، انتهت إما بمواجهة وشيكة أو فعلية، أو بحلول سياسية جذرية تحت ضغط عسكري لا يمكن تجاهله (Brands, 2011).
في ضوء ذلك، يجب على القادة العسكريين وصنّاع القرار فهم أن التحريك البري ليس أداة تفاوضية، بل هو في معظم الأحيان الخطوة التي تغلق الباب أمام الحلول السياسية التقليدية. إنه إعلان نية قتال، لا مجرد ضغط نفسي. واستخدامه يتطلب حسابًا دقيقًا للفوائد مقابل الكلفة، والاحتمالات مقابل القيود، لأن التراجع بعده يكون بمثابة "انسحاب من المعركة قبل أن تبدأ"، وهو ما لا تتحمله كثير من الدول الكبرى، سواء أمام جمهورها أو خصومها.


الحالة الراهنة – أميركا وإيران في ميزان التهديد
منذ مطلع عام 2024، عاد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران إلى واجهة المشهد الإقليمي والدولي، مدفوعًا بتصاعد هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، وتزايد الضغوط الإسرائيلية على واشنطن لدعم توجيه ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية. لكن على الرغم من هذا التصعيد الواضح، فقد بدت السياسة الأميركية في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب وكأنها تُوازن بين التلويح بالقوة والحرص على تجنب الانزلاق إلى حرب شاملة. وهذا ما يجعل الحالة الراهنة نموذجًا تطبيقيًا مثاليًا لتحليل العلاقة بين أنماط تحريك القوات العسكرية ودرجات الالتزام باستخدام القوة. فمن جهة، لجأت الولايات المتحدة إلى تحريك واسع لقواتها الجوية والبحرية نحو منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك نشر قاذفات بعيدة المدى من طراز B-52 وB-1، وطلعات متكررة فوق الخليج العربي، إضافة إلى إرسال أكثر من مجموعة ضاربة لحاملات الطائرات إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط. وقد تم تأكيد ذلك في بيانات وزارة الدفاع الأميركية وتصريحات القيادة المركزية، التي تحدثت عن "عمليات جوية ردعية" و"جاهزية بحرية ممتدة" لضمان أمن الملاحة الدولية وردع أي تهديد إيراني مباشر أو غير مباشر. " (CENTCOM, 2025). ، ورغم ذلك، فإن هذا التحشيد بقي ضمن الحيز الجوي والبحري، دون أي مؤشرات على تحريك بري واسع النطاق. فلا وجود لوحدات مشاة قتالية في دول الجوار الإيراني، ولا إنشاء لمعسكرات مؤقتة في الكويت أو العراق أو قطر، ولا إشارات لتهيئة لوجستية تعبّر عن نية الدخول في مواجهة برية شاملة. وهذا ما يجعل القراءة الاستراتيجية لهذه الأزمة شديدة التعقيد، إذ إنها تمزج بين الإظهار القوي للقوة وبين التردد في الالتزام باستخدامها فعليًا. وفق تحليل لمؤسسة RAND، ضمن سياسة "الردع عبر التموضع المتقدم"، دون الالتزام بتوقيت أو شكل محدد للرد.
تصريحات الرئيس ترامب عززت هذا الانطباع المزدوج. ففي أكثر من مناسبة، أكد أنه "لا يسعى إلى حرب مع إيران"، لكنه "لن يقف مكتوف الأيدي أمام تهديد المصالح الأميركية أو الاعتداء على القوات أو الحلفاء". وهذا الأسلوب التواصلي يعكس ما يُعرف في أدبيات الردع بـ"الغموض المدروس"، وهو تكتيك يسمح بإبقاء الخصم في حالة ارتياب دائمة حول النوايا الأميركية، دون إعطائه فرصة لالتقاط إشارة مؤكدة للحرب أو التسوية، كما ناقشه توماس شيلينغ في تحليله لمعادلات الردع غير المتكافئ. Arms and Influence" بأنه "الردع من خلال الإظهار دون التنفيذ"، حيث يُستخدم التحريك لإرسال رسالة جدية، دون الالتزام الحتمي بالفعل. إن هذا النوع من الردع، بحسب لورانس فريدمان في "Strategy: A History"، يفترض أن الخصم يدرك مغزى التحشيد ويُعيد حساباته بناءً عليه، لكن من دون أن تدفع الدولة المبادِرة نحو حرب شاملة.
ورغم أن الطلعات الجوية والوجود البحري يُشكّلان أدوات ردع مهمة، إلا أن غياب التحريك البري يمنح هذه الأدوات طابعًا رمزيًا أكثر من كونه تعبيرًا عن نية تنفيذية. وكما أشار لورانس فريدمان، فإن التحريك البحري والجوي من دون خطوات ميدانية برية قد يكون فعالًا إذا ارتبط بسياق سياسي متماسك، لكنه قد يفقد تأثيره تدريجيًا إذا لم يُترجم إلى تحوّل في ميزان القوى الفعلي أو في إرادة الخصم.
من ناحية أخرى، تلعب إسرائيل دورًا محوريًا في تشكيل البيئة الاستراتيجية للأزمة. فقد زادت تل أبيب من ضغوطها العلنية والضمنية على واشنطن، مؤكدة أن البرنامج النووي الإيراني يقترب من "نقطة اللاعودة"، وأن "الضربة الاستباقية باتت ضرورة استراتيجية". وأُشيع أن هيئة الأركان الإسرائيلية أتمّت خططًا عملياتية متكاملة لضرب منشآت نووية داخل العمق الإيراني، حتى دون تنسيق مباشر مع الولايات المتحدة (Haaretz, March 2025) . إلا أن التقارير الاستخبارية الأميركية أشارت إلى أن "أي هجوم إسرائيلي منفرد قد يستجلب ردًا إيرانيًا واسعًا يشمل القوات الأميركية في المنطقة" (CSIS, 2025). هذه المواقف الإسرائيلية أعادت إلى الأذهان سيناريو العام 1981 عندما ضربت إسرائيل مفاعل تموز العراقي دون إذن أو علم مسبق من حليفتها الكبرى.
لكن المفارقة في الأزمة الراهنة تكمن في أن الرئيس الأميركي نفسه بدا أكثر تحفظًا من القيادة الإسرائيلية. فقد نقلت وسائل إعلام أميركية أن البيت الأبيض "غير متحمس" لأي تحرك عسكري كبير ضد إيران في هذه المرحلة، وأن الرئيس يفضّل تكثيف العقوبات وتوسيع الجهود الدبلوماسية، مع الحفاظ على الجاهزية العسكرية فقط كخيار أخير. وضمن هذا السياق يبقى الرئيس ترامب ملتزمًا بخطاب مزدوج: تهديد متكرر باستخدام القوة، دون حشد بري أو جدول زمني واضح. وهو خطاب يندرج ضمن ما يسميه كينيث بولاك في دراساته حول الردع الأميركي في الشرق الأوسط بـ"الاستراتيجية القائمة على الضغط الطويل الأمد" (Pollack, 2019)، حيث يُستخدم التحشيد كأداة تفاوض، لا كمقدمة ضرورية للحرب. هذا الموقف يعبّر عن فجوة في تقدير الخطورة والجدوى بين الطرفين، ويعيد تسليط الضوء على إشكالية تباين أولويات الأمن القومي بين الحليفين.
غير أن هذا التكتيك ليس خاليًا من المخاطر. فاستمرار التحريك الجوي والبحري دون تصعيد بري قد يخلق انطباعًا لدى طهران بأن واشنطن غير مستعدة فعليًا للقتال، مما يشجعها على اختبار حدود الردع، إما عبر الوكلاء كما يفعل الحوثيون، أو عبر تسريع خطوات التخصيب النووي. وقد أشارت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقرير صدر في فبراير 2025 إلى "زيادة في كمية اليورانيوم المخصب بنسبة تفوق 60%" في منشأة فوردو، الأمر الذي اعتُبر بمثابة تحدٍ مباشر لخطوط ترامب الحمراء.
وفي خضم هذا التباين، يُطرح سؤال جوهري: هل يعني كل هذا أن الحرب غير مرجحة؟ الإجابة لا تأتي بسهولة. فوفق تقديرات مراكز مثل RAND وCSIS، فإن احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين واشنطن وطهران لا يزال قائمًا، لكنه منخفض طالما لم يتم تحريك قوات برية. فالقوة الجوية والبحرية، مهما بلغت من كثافة، تظل أدوات ضغط، وليست دائمًا مقدمة لهجوم واسع. وفي المقابل، يُنظر إلى تحريك لواء مدرّع واحد إلى المنطقة كخطوة تفوق في دلالتها الاستراتيجية مجمل الطلعات الجوية والانتشار البحري.
إيران تدرك هذه المعادلة جيدًا، ولهذا حافظت على سياسة "الرد غير المباشر"، من خلال أدواتها الإقليمية: الحوثيون في اليمن، حزب الله في لبنان، الميليشيات في العراق وسوريا. وقد واصلت طهران إرسال إشارات مزدوجة بدورها، حيث نقلت عبر قنوات دبلوماسية رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي، لكنها في الوقت ذاته سمحت بتصعيد الهجمات البحرية عبر الحوثيين، وزادت من وتيرة التخصيب النووي في منشأة فوردو، بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هذا السلوك الإيراني ينتمي إلى ما وصفه كينيث بولاك بـ"الردع غير المتناظر"، حيث يُستخدم الوكلاء كأدوات ضغط، فيما تبقى الدولة الأصلية خارج ميدان المواجهة المباشرة. وهو أسلوب يُبقي واشنطن في حالة استنزاف دائم، دون أن تجد الذريعة الكاملة لتوجيه ضربة شاملة، خاصة في ظل غياب تحريك بري يدفع نحو الحرب.
الأزمة الراهنة تعكس أيضًا جانبًا نفسيًا مهمًا في فن التحريك العسكري: فكل تحريك للقوات يُحدث توقعات سياسية داخلية وخارجية، وإذا لم تُلبَّ تلك التوقعات، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل مصداقية القيادة. ولذا فإن استمرار التحشيد الجوي والبحري دون انتقال إلى خطوات ميدانية حاسمة قد يُضعف بمرور الوقت أثر الردع الأميركي، خاصة إذا تكررت هجمات الحوثيين دون رد ساحق، أو إذا مضت إيران في برنامجها النووي دون عواقب ملموسة.
ومع ذلك، من الواضح أن التحريك الأميركي الحالي ليس فارغًا من القيمة، بل هو جزء من إستراتيجية أوسع قائمة على "الردع دون اشتباك". وهذا الخيار، رغم محدوديته، يُجنّب واشنطن الانزلاق إلى حرب لا تريدها، ويحافظ في الوقت نفسه على وضع قتالي مرن يمكن تحويله إلى هجوم عند الضرورة.
إن موقف ترامب الحالي يُعبّر عن قناعة راسخة بأن التلويح بالقوة قد يكون أبلغ من استخدامها، وأن إبقاء الخصم في حالة توتر مستمر أفضل من استنزاف أميركا في حرب برية جديدة. وهو منطق سبق أن تبنّته إدارات سابقة، لكنه يُختبر الآن في بيئة إقليمية أكثر تقلبًا، وفي مواجهة خصم لا يلعب بقواعد تقليدية.
الخلاصة أن التحريك العسكري الأميركي في الأزمة الإيرانية الحالية يعكس استراتيجية محسوبة تقوم على الردع المتدرج دون التورط. غياب التحريك البري حتى الآن يعني أن الحرب ليست مرجّحة في المدى القريب، لكن استمرار التصعيد من الأطراف الإقليمية، خاصة إذا اقترن بخطأ تقدير أو حادث ميداني، قد يغيّر المعادلة في لحظة. وهنا، يصبح التحريك البري – كما في تحليلاتنا السابقة – هو العلامة الحاسمة على تحول النية من الردع إلى الفعل.

دلالات استراتيجية وملاحظات ختامية
في ضوء التحليل الذي تناولناه عبر هذا المقال، يتبيّن أن تحريك القوة المسلحة ليس مجرد فعل عسكري تقني، بل أداة سياسية مركّبة تُستخدم بدرجات متفاوتة من الالتزام والرمزية. فالقوة العسكرية، في عالم الأزمات المعقدة، تُصبح وسيلة للضغط، والتفاوض، والتلويح، أكثر من كونها أداة للحسم الفوري. وقد برز هذا بوضوح في الحالة الأميركية–الإيرانية، حيث تمّ استخدام التحريك الجوي والبحري بأقصى طاقته، دون تحريك بري يدل على قرار حتمي بالحرب.
إحدى الدلالات الأساسية المستخلصة من هذا النمط هي أن القوى الكبرى لا تتحرك عبثًا، لكنها أيضًا لا تُلزم نفسها بسهولة. فكل نمط من أنماط التحريك – جوي، بحري، بري – يعكس مستوى معينًا من الجدية السياسية، لكن في الوقت ذاته يترك مساحة للمناورة أو التراجع. إن ما ناقشه توماس شيلينغ منذ أكثر من نصف قرن لا يزال صالحًا اليوم: التحريك هو فعل مقصود لإيصال نية، وليس إعلانًا نهائيًا عن الحرب.
ومن هنا، تبرز أهمية أن تفهم الدول، خصوصًا تلك الواقعة في مناطق التماس الجيوسياسي، أن قراءة التحركات العسكرية لا يجب أن تتم فقط من حيث الكم أو النوع، بل من حيث موقعها في سلّم التصعيد الاستراتيجي. فطلعة جوية ليست كتحريك كتيبة، ونشر حاملة طائرات ليس كمثل تجهيز فرقة برية. وكل فعل من هذه الأفعال يُقرأ كإشارة، لكنه أيضًا يتفاعل مع السياق السياسي والدبلوماسي المحيط به.
هناك أيضًا بُعد آخر لا يقل أهمية: مخاطر سوء التقدير. فالطرف المُستهدف بتحريك القوة قد يقرأ الرسالة بشكل خاطئ، فيعتبر التحشيد مقدمة لهجوم وشيك، فيرد بعمل استباقي، ما يُشعل شرارة لم يكن الطرف الأول ينوي إشعالها. وهذا هو جوهر ما يسميه كولن غراي بـ"ديناميكية التصعيد غير المقصود"، وهو خطر متكرر في البيئات المتوترة حيث يغيب التنسيق أو ترتفع الحساسية السياسية.
في المقابل، لا يخلو التحريك غير المصحوب بإجراء حاسم من كلفة معنوية طويلة الأمد. فالدولة التي تُكرّر تحشيد قواتها دون أن تتبع ذلك بفعل واضح، قد تواجه تآكلًا تدريجيًا في مصداقيتها الردعية، سواء في عيون الخصم أو حتى في نظر حلفائها. وقد بيّنت دراسات مركز CSIS أن الإفراط في "التحشيد دون تنفيذ" قد يُفسر كعجز سياسي، وليس دائمًا كحكمة إستراتيجية.
وفي ضوء الحالة الراهنة، يظهر جليًا أن الولايات المتحدة ما زالت تتعمد البقاء في مرحلة الردع دون الحسم، بينما تراهن إيران على استغلال الهوامش الرمادية بين الحرب والسلام. أما إسرائيل، فتسير على إيقاع مختلف، يضغط نحو الحسم ولو منفردًا، ما قد يُعقّد الموقف أكثر.
خلاصة القول أن تحريك القوة المسلحة هو فن سياسي واستراتيجي قائم بذاته، يتطلب دقة في التقدير، وحذرًا في التوقيت، ووعيًا بكيفية قراءة الخصم للرسائل. وهو أداة قد تَمنع الحرب بقدر ما قد تُقربها، بحسب من يُحسن استخدامها، ومن يُحسن قراءتها.

الخاتمة
لقد حاول هذا المقال تسليط الضوء على القيمة السياسية لتحريك القوة المسلحة في إدارة الأزمات الدولية، من خلال تحليل نظرية التصعيد العسكري التدريجي، وتطبيقها على الحالة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران. وقد تبيّن أن تحريك القوة لا يعني بالضرورة نية استخدامها، لكنه يكشف عن درجة الالتزام السياسي التي ترافق كل نمط من أنماط التحشيد. وبينما يتيح التحريك الجوي والبحري مساحة للمناورة، يُمثّل التحريك البري مؤشرًا حاسمًا على اقتراب الحرب. وفي عالم يزداد فيه الغموض الاستراتيجي، تبقى القدرة على استخدام القوة بذكاء – لا مجرد امتلاكها – هي ما يصنع الفارق بين الردع والانزلاق، بين الحسم والاحتواء.

علاء الدين حسين مكي خماس
أبو ظبي
21 / نيسان / 2025


المراجع

• أليسون، غراهام، وزيليكو، فيليب. (1999). جوهر القرار: تفسير أزمة الصواريخ الكوبية. لونغمان.
• آرت، ريتشارد، وكرونين، باتريك (محرران). (2003). الولايات المتحدة والدبلوماسية القسرية. معهد السلام الأميركي.
• بيدل، ستيفن. (2004). القوة العسكرية: تفسير النصر والهزيمة في المعركة الحديثة. منشورات جامعة برنستون.
• براندز، هال. (2011). ما فائدة الاستراتيجية الكبرى؟ السلطة والغرض في السياسة الأميركية من ترومان إلى بوش الابن. منشورات جامعة كورنيل.
• مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). (2024–2025). تقارير حول التموضع العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، وإيران، وخيارات إسرائيل العسكرية.

https://www.csis.org/

• القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM). (2025). بيانات وتحديثات حول العمليات في البحر الأحمر والردع الإقليمي. https://www.centcom.mil

• فيرون، جيمس. (1997). "الإشارة في السياسة الخارجية: تقييد الأيدي مقابل التكاليف الغارقة". مجلة حل النزاعات، 41(1)، 68–90.

• فريدمان، لورانس. (2013). الاستراتيجية: تاريخ. مطبعة جامعة أكسفورد.
• فريدمان، لورانس، وكارش، إفرايم. (1993). صراع الخليج 1990–1991: الدبلوماسية والحرب في النظام العالمي الجديد. منشورات جامعة برنستون.
• غارتنر، سكوت، وسيغورا، غاري. (1998). "الحرب، الخسائر، والرأي العام". مجلة حل النزاعات، 42(3)، 278–300.
• غراي، كولين. (1999). الاستراتيجية الحديثة. مطبعة جامعة أكسفورد.
• هآرتس. (مارس 2025). استعداد إسرائيل لضرب المنشآت النووية الإيرانية. https://www.haaretz.com

• هيجنبوثام، إريك، وآخرون. (2015). تقييم القوة العسكرية الأميركية–الصينية. مؤسسة راند.
• جونز، سيث. (2021). الوضع العسكري الأميركي في الشرق الأوسط: التوازن الاستراتيجي والردع. مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
• ليف، أندرو، وآيكنبيري، غ. (2014). "سباق نحو المأساة؟ صعود الصين، والتنافس العسكري في آسيا، ومعضلة الأمن". الأمن الدولي، 39(2)، 52–91.
• ماهنكن، توماس. (2008). التكنولوجيا والطريقة الأميركية في الحرب منذ 1945. مطبعة جامعة كولومبيا.
• بولاك، كينيث. (2019). جيوش من الرمال: فعالية الجيوش العربية في الماضي والحاضر والمستقبل. مطبعة جامعة أكسفورد.
• بوزن، باري. (1984). مصادر العقيدة العسكرية: فرنسا، بريطانيا، وألمانيا بين الحربين العالميتين. منشورات جامعة كورنيل.
• مؤسسة راند. (2019–2025). تقارير حول الردع، التمركز العسكري، والوجود البحري. https://www.rand.org

• ريكورد، جيفري. (2004). النصر المظلم: الحرب الأميركية الثانية ضد العراق. منشورات المعهد البحري.
• شيلينغ، توماس. (1966). السلاح والتأثير. مطبعة جامعة ييل.
• سنايدر، غلين، وديزنج، بول. (1977). الصراع بين الأمم: المساومة واتخاذ القرار وبنية النظام في الأزمات الدولية. منشورات جامعة برنستون.
• تيل، جيوفري. (2013). القوة البحرية: دليل للقرن الحادي والعشرين (الطبعة الثالثة). روتليدج.
• تيل، جيوفري. (2018). فهم النصر: الفعالية العملياتية البحرية في البيئات المعقدة. منشورات المعهد البحري.
• معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. (2024). إيران ومستقبل التموضع العسكري الأميركي في الخليج. https://www.washingtoninstitute.org

• يوشيهارا، توشيا، وهولمز، جيمس. (2008). نجم أحمر فوق الهادئ: صعود الصين وتحديها للاستراتيجية البحرية الأميركية. منشورات المعهد البحري.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

656 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع