الجزيرة:محمود خالد:كان ظهور المغول وغزوهم للعالم الإسلامي في سنة (616هـ/1219م) على يد جنكيز خان، وإسقاطهم الدولة الخوارزمية، ثم الخلافة العباسية فيما بعد سنة (656هـ/1258م)، ذا أثر مباشر ولافت على بلاد فارس باعتبارها الواجهة المباشرة للغزو المغولي.
كيف بزغ الصفويون من قلب الصراع!
فقد حكم المغول هذه المنطقة وأنشؤوا بها دولة قوية عرفت باسم دولة المغول الإيلخانيين، على أن سقوط هذه الدولة أدى إلى نشوء دويلات صغيرة مثل الأسرة المظفرية في فارس، والجلائريين في العراق، لكن ظهور تيمورلنك الغازي في منطقة وسط آسيا باعتباره وريث المغول -كما ادعى- منذ النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وتوسّعه اللافت ليضم إيران والعراق وأجزاءً من هضبة الأناضول بل وتمكنه من هزيمة العثمانيين وأسر سلطانهم بايزيد الأول في معركة أنقرة الشهيرة سنة 805هـ، كل ذلك ساعد على هجرات جماعية واسعة في المنطقة الممتدة من وسط آسيا وما بين النهرين شرقًا إلى العراق وأذربيجان والأناضول وحتى مصر غربًا، هجرات كان التركمان والفرس والترك من أهم عناصرها، وكان لهذه الهجرات آثارها السياسية والديمغرافية فيما بعد.
وبمرور الوقت ضعفت قبضة التيموريين على بلاد فارس، خاصة بعد وفاة سلطانهم الأقوى تيمورلنك، وتنازع أبنائه، ثم وفاة ابنه الذي حاول إعادة المجد التيموري شاه رُخ سنة 850هـ، تزامن هذا التقهقر التيموري مع نشوء كيانات سياسية لهؤلاء التركمان النازحين في منطقتي أذربيجان وشمال العراق من ناحية، وديار بكر والأناضول من ناحية ثانية، ففي أذربيجان استقرت عشيرة "قرا قوينلو" التركمانية "الخراف السوداء"، وتمكنوا نتيجة ضعف التيموريين في فارس من ضم العراق وفارس وكرمان، وفي الجهة المقابلة لهم في الأناضول وديار بكر وحتى أطراف شمال الشام ظهر منافسوهم من عشيرة آق قوينلو "الخراف البيضاء" التركمانية أيضًا.
وقد استمر التنافس العسكري والسياسي بين الفريقين طوال القرن التاسع الهجري، حتى تمكنت إمارة الشاة البيضاء في عهد سلطانها حسن الطويل من القضاء على أمير الشاة السوداء جهان شاه في منطقة سنجاق في سنة 872هـ، وقد حاول آخر أمراء قراقوينلو حسن بن جهان شاه أن يعود أميرًا على عشيرته غير أن اختلال عقله، واختلاف الأمراء عليه أودى بحياته فقُتل سنة (873هـ/1468م)[1].
وعلى الرغم من التوسع الهائل الذي حققته إمارة الشاة البيضاء "آق قوينلو" بزعامة حسن الطويل "أوزون" في مناطق فارس وأذربيجان والعراق فضلا عن نفوذها في ديار بكر وشرق الأناضول، إلا أن وفاة حسن الطويل سنة (882هـ/1477م) كان السبب الأبرز في تضعضع هذه الإمارة بسبب الصراع بين أولاده وأحفاده على العرش والنفوذ، فانتشرت الفوضى في كل أنحاء إيران، الأمر الذي استغلته بعض القوى الصاعدة وعلى رأسها الصفويين[2].
في الوقت الذي أمست فيه إيران خلال حكم إمارة الآق قوينلو "الشاة البيضاء التركمانية" مسرحًا للحروب بين الطامعين، كانت تنمو في الشمال في أردبيل بأذربيجان أسرة تركية تخصصت في الوعظ والإرشاد، والتصوف، عُرفت بالأسرة الصفوية، وهذه المنطقة كان يسكنها الترك بالإضافة إلى الأكراد والأرمن.
ينتسب الصفويون إلى الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي (650-735هـ/1252-1334م) وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية في إيران، ومنه نُسب الصفويون، وبعض المؤرخين ينسبونه إلى الإمام موسى الكاظم، في حين يشكك البعض الآخر في هذا النسب لعدم وجود دليل مقنع يثبته، فضلاً عن أن القائلين بهذا النسب اعتمدوا على كتاب "صفوة الصفا" لابن بزاز من أهل أردبيل، وقد ألّفه في عهد الشيخ صفي الدين الأردبيلي على الأرجح، فشبهة المحاباة قائمة من هذه الجهة[3].
كان الشيخ صفي الدين الأردبيلي متبعًا للشيخ تاج الدين الزاهد الجيلاني، وقد تصاهر معه بالزواج من ابنته، فلما مات شيخه وحموه سنة 700هـ خلفه في مقام الإرشاد والتفّ جميع مريدي الشيخ زاهد حول صفي الدين وأزجى كبار العهد الاحترام إليه، وبعد وفاته خلفه في زعامة الطريقة ومقام الإرشاد ابنه صدر الدين موسى (704-794هـ)، والشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الأسرة الصفوية هو ابن سلطان حيدر بن سلطان جنيد بن صدر الدين إبراهيم بن سلطان خواجه بن صدر الدين موسى، وكان سلطان جنيد جد الشاه إسماعيل قد تصاهر مع أمير إمارة تركمان الشاة البيضاء "آق قوينلو" الزعيم حسن أوزون الذي زوجه أخته خديجة فولدت سلطان حيدر والد الشاه إسماعيل[4].
لذا؛ كان سقوط آق قوينلو وتنازعها مدعاة من هذه الجهة للصفويين، فحسن الطويل كان بمثابة جد إسماعيل الصفوي من ناحية الأم، والحق أن أول خطوة في طريق ظهور الدولة الصفوية تعود في الواقع إلى الشيخ جنيد الذي وجد قاعدة شعبية واسعة في الأناضول والتي كانت تنتمي آنذاك إلى الشيعة العلويين، وباعتبار الشيخ وارثًا لصفي الدين جده الأكبر، ومن هنا وجد الشيخ أرضية مناسبة ليقوم بمحاولة ناجحة في دمج التصوف بالتشيع، وعلى هذا يمكن القول إن شيعة الأناضول هم الذين نقلوا التشيع إلى الصفويين لا العكس، فمعظم الروايات تؤكد انتماء الشيخ صفي الدين الأردبيلي إلى المذهب الشافعي السني[5].
ويرى "كولن تيرنر" الأمر ذاته من زاوية الأناضوليين، ففهم التحول الديني الذي قام به الجنيد الصفوي بعد وفاة والده، إنما يُعزى إلى التغيرات السياسية والدينية في منطقة الأناضول آنذاك، فقد تحولت هذه المنطقة إلى أرض خصبة لجميع البدع الدينية، وذاك عائد إلى الوضع السياسي المزعزع الذي كانت تمر به الدولة العثمانية بعد زوال دولة سلاجقة الروم، إضافة إلى التدفق الهائل للقبائل المغولية التركمانية بعقائدها الدينية المبهمة، وكان الغلو العلوي الهوى منتشرًا يُعضدُه تاريخ من الثورات على الحكم قادتها شخصيات كاريزمية ذوات ميول إمامية، و"في أرض البدع الخصبة هذه حاول الجنيد -جد إسماعيل الصفوي- الحصول على دعم لطموحاته السياسية والعسكرية الناشئة، وكانت القبائل التركية الرُّحّل في ريف الأناضول، مع تاريخها المحارب للدولة وتطرفها الديني مادة خصبة للجنيد الطموح كي يبني مجموعة من الغزاة، وكان طبيعيًا للجنيد أن يهجر عموم التصوف والتسنن ويأخذ عوضًا عنها بدعاوى غالية"[6].
إسماعيل الصفوي يعلن ظهور الدولة
اعتمد إسماعيل الصفوي قُبيل إعلان دولته على عاملين أساسيين، المنحى الأيديولوجي الذي أسسه جده الجنيد، والتركيبة العرقية التي اعتمدت العنصر التركماني في التأسيس والغزو، هذه القبائل التي أُطلق عليها اسمه "القزل باش"، مثل رملو وشاملو التي سكنت أطراف الشام، واستاجلو التي كانت منتشرة في أرزنجان وأرمينيا وعشيرة تكلو التي كانت تسكن أطراف قونية في آسيا الصغرى، وذو القدر في مرعش والبستان ونواحي ديار بكر، وأفشار في أذربيجان وقزوين وطهران وفارس، وغيرها من القبائل التركمانية الأخرى التي انتشرت طولاً وعرضًا في إيران والأناضول كانت القاعدة الأساسية التي اتكأ عليها الصفويون في التمدد والتوسع في هذه المنطقة.
لقد كانت إمارة الآق قوينلو "الخراف البيضاء" لا تزال تُحكم قبضتها إلى حد ما على هذه المناطق بعد وفاة زعيمها حسن أوزون، وتمكنوا من قتل علي بن حيدر بن الجنيد الصفوي حين رأوا هذا الخطر الذي يتهدد كيان دولتهم، لذا سارع أتباع الأسرة الصفوية لنقل الأخوين إبراهيم وإسماعيل من أردبيل بأذربيجان إلى جيلان بعيدًا عن رقابة الآق قوينلو سنة (899هـ/1494م)، ومن جيلان استقر بهما الحال في لاهيجان على شاطئ بحر قزوين لدى زعيمها كاركيا ميرزا علي الذي تعاطف مع الدعوة الصفوية، على أن إبراهيم ترك المنطقة وحاول الرجوع إلى أردبيل فدفع حياته ثمنًا لهذا التسرع[7].
بقي إسماعيل الصفوي مدة خمسة أعوام في لاهيجان، وقام كاركيا ميرزا علي بإعداده وتربيته تربية عسكرية ودينية، وبقي إسماعيل خمسة أعوام في هذه المنطقة، وكان بحاجة إلى جيش لتحقيق تطلعات الأسرة الصفوية المذهبية والسياسية، واستغل اسماعيل التشظي والتصارع الداخلي الذي كانت تمر به قبيلة آق قوينلو، واتجه إلى أردبيل مقر آبائه وأجداده، وخزان التعاطف البشري مع الحركة الصفوية، لكنه فشل في ضم أشياع له في حركته الجديدة، فقرر السفر إلى آسيا الصغرى ليستنصر بها أتباعه، وتمكن بالفعل من ضم سبعة آلاف رجل، ومنها عاد إلى أستارا على بحر قزوين، وأسس جيشه قزلباش وذلك سنة (906هـ/1501م)، وكان عمره آنذاك ثلاثة عشر عامًا[8]!
في عام 907هـ سجل القزلباش بقيادة الفتى إسماعيل الصفوي ذي الأربعة عشر عامًا نصرين عسكرين مؤزرين على حاكم مدينة شيروان، ثم هزيمته لأول مرة لقبائل الآق قوينلو، تلك الهزيمة التي كانت إعلانًا صريحًا باختفاء هذه الدولة من الخارطة السياسية، وسرعان ما أصبح إقليم آذربيجان في قبضة إسماعيل، فاتجه لأهم وأقوى مدنها "تبريز"، وهناك تربع على سدة الحكم لتجري مراسم التتويج لملك عمره خمسة عشر عامًا فقط، وبذلك سجّل التاريخ ظهور دولة جديدة هي الدولة الصفوية[9] التي سيكون لنا معها وقفات قادمة في إعلانها للمذهب الشيعي مذهبًا رسميًا للدولة، وفي علاقتها مع العثمانيين أعدائها الأقوياء الجدد!
3065 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع