د. محمد عياش الكبيسي
تحتل الأنبار ثلث مساحة العراق تقريبا، وتحدها ثلاث دول عربية: السعودية والأردن وسوريا، وتضم كثيرا من المدن التي ذاع صيتها في المقاومة والحراك مثل الرمادي والفلوجة وهيت وحديثة والقائم وعنة وراوة والرطبة والخالدية وكبيسة والعامرية والصقلاوية والكرمة، ويغلب عليها الطابع العشائري المحافظ، وكل سكانها من أهل السنّة والجماعة، وبالتالي فهي تشكل امتدادا طبيعيا ومتجانسا مع كل الدول العربية المجاورة لها.
قدّر الله لهذه البقعة من أرض الرافدين أن تتحمل العبء الأكبر من مقاومة الاحتلال، فمنها انطلقت الشرارة الأولى، وعلى أرضها دارت المعارك الكبرى مع الجيش الأميركي، وقد تواتر عن جنود المارينز أنهم كانوا يصابون بالهلع الشديد إلى حد الصراخ والبكاء حينما يُطلب منهم التوجه إلى هذه المحافظة!
ثم جرّب غلاة التكفير حظهم أيضا، فعاثوا فيها فسادا وخرابا، مستغلين انشغال أهلها بمقاتلة الأميركان تماما كما يحصل اليوم في سوريا، وبعد صبر طويل وتردد لاعتبارات كثيرة انقلبت العشائر على هؤلاء الغلاة فجعلوهم أثرا بعد عين، وتم إخراجهم نهائيا من جميع المدن والقصبات.
كان من المفترض بعد هذا أن تحظى الأنبار بالمكانة التي تناسب مواقفها وتضحياتها في مقاومة الاحتلال ومكافحة (الإرهاب) إلا أن النهج اللصوصي الذي اعتادته الأحزاب والمليشيا الطائفية والمدفوعة بالمشروع الإمبراطوري الفارسي قد شكّل تحديا مضافا وكبيرا لهذه المحافظة وللعرب السنّة عموما، حيث حرموا من أبسط حقوقهم الوطنية، وتعاملت معهم الحكومة كمتهمين أو مجرمين، حتى وصل الأمر إلى تصفية علمائهم وملاحقة رموزهم واعتقال نسائهم وحرق مساجدهم، فبادرت الأنبار بحراكها السلمي ثم تجاوبت معها المحافظات السنّية الأخرى.
لم يتحمل المالكي وحزبه مشاهد المعتصمين الصابرين المحتسبين، فراح يضرب هنا وهناك في الحويجة وغيرها، حتى قاده إلى الأنبار غروره الأعمى وجهله بأصول العرب وعاداتهم، فدخلت مليشياته في مضارب هذه القبائل فأهانوا أهلها باختطاف رموزهم وإذلالهم في بيوتهم وأمام نسائهم، وهذا لوحده كاف لإشعال ثورة يشيب لها الولدان، وهذا ما حدث بالفعل حيث انفجر الغضب العشائري وأصبحت آليات المالكي العسكرية مثارا للسخرية، واستسلم الكثير من ضباطه وجنوده وراحوا يترجّون العفو والعطف، كل هذا تم في أسبوع واحد أو أقل، ولم يتبق اليوم إلا مناوشات محدودة وإطلاق للقذائف البعيدة على المناطق السكنية الآمنة.
المعركة على الأرض حسمت لصالح العشائر وبأقل الخسائر، وتحقق للثوار هدفهم في رد الإهانة على صاحبها، وترسيخ هيبتهم وقوتهم ومنظومتهم القيمية التي تليق بتاريخهم وسمعتهم.
هناك نتائج كثيرة تحققت على الأرض، منها ما يتعلق بقناعات المكونات الأخرى وتقويمهم لسياسات الحكومة وأدائها مما يؤكد خسارة المالكي لحاضنته الطبيعية، ومنها ما يتعلق بحركة المليشيات العراقية الداعمة لبشار والتي كانت تتخذ الأنبار ممرا لها إلى سوريا وبحماية من القوات الحكومية.
ومع ما لهذه النتائج من قيمة كبيرة قياسا بسرعة الإنجاز ومستوى التضحيات، إلا أن السؤال الأكبر الذي لا يمكن التكهن به الآن هو ماذا بعد؟
لقد أفرزت المنازلة واقعا جديدا يتلخص في وجود جيش للعشائر، ومن الصعوبة رسم سيناريو واضح لضبط العلاقة بين هذا الجيش والجيش الحكومي، فهذه المعادلة يتحكم بها أكثر من طرف دوليا وإقليميا ومحليا، ولكل برنامجه ومصالحه القريبة والبعيدة.
الحالة الأمثل أن تقتنع المكونات العراقية المختلفة بتعديل مسار العملية السياسية لتتسع لمشاركة حقيقية ومتوازنة تضمن حقوق الجميع تحت سقف المواطنة الذي لا يميّز بين مكوّن وآخر، وهذا يبدو بعيد المنال في ظل الثقافة السائدة والتركيبة السياسية المرتبطة بهذا الطرف الإقليمي أو ذاك.
الحالة الثانية وهي الأقرب للواقع أن يتم الاعتراف بجيش العشائر هذا بصيغة ما، كما تم الاعتراف بالجيش الكردي (البيشمركة)، وهذه خطوة قد تقود إلى تحقيق واحد من أهم مطالب المعتصمين وهو التوازن في المؤسسات العسكرية والأمنية، وفي الوقت ذاته قد يخفف من مظاهر الاحتكاك الطائفي والتي كانت تمارسه قوات المالكي مع أهالي الأنبار والمحافظات السنّية الأخرى.
الحالة الثالثة أن تستمر المواجهات بين الجيشين لفترة طويلة، وهو ما يعني مزيدا من الدماء والنزيف في الطاقات والإمكانات، وقد تمهد لتدخل أجنبي مباشر أو غير مباشر وبمشاريع أكثر تعقيدا وأبعد أثرا.
إن المالكي يغامر ويقامر بمستقبله ومستقبل حزبه وطائفته حينما يثق بالوعود الأميركية أو الإيرانية، وهناك معلومات كثيرة تؤكد وجود تغّير ما بعد التقارب الأميركي الإيراني لا يصب في مصلحة الحكومة العراقية، حيث سيدخل العراق من جديد في دائرة (الفوضى الخلاقة) تمهيدا لإعادة رسم خارطة المنطقة برمتها وباتفاق الطرفين الأميركي والإيراني. إن موقع الأنبار في قلب الهلال الخصيب بين العراق والشام وشمال المملكة العربية السعودية، ووضعها المضطرب سياسيا وأمنيا، وانعدام الثقة بينها وبين حكومة بغداد، يؤهلها في نظر الآخرين لتكون المفتاح الأنسب لتحريك المياه الراكدة في هذه المنطقة.
وإذا كان المشروع الصهيوني (من الفرات إلى النيل دولتك يا إسرائيل) قد أصابه نوع من الركود أو الجمود، فإن المشروع الأميركي (الفوضى الخلاقة) قد دخل حيّز التنفيذ في أكثر من بلد عربي، ونحن وإن كنا لا ندري بالضبط وجه العلاقة بين المشروعين، إلا أن بصمات المشروع الصهيوني بارزة في كل ما يجري اليوم.
لقد تقاربت إيران مع (الشيطان الأكبر) ليس وفق شروطها هي، بل وفق شروط الشيطان، وهذا هو منطق التفاوض بين كل طرفين غير متكافئين، وهذا يعني أن الولي الفقيه لا يملك للمالكي شيئا إذا قرر الشيطان الأكبر تحويل العراق إلى سوريا ثانية، أو أية خطوة أخرى لا تصب في صالح المالكي.
إن الخطوة الأميركية القادمة في الأنبار ستكون أشبة بالبوصلة التي ستحدد قبلة البيت الأبيض ورؤيته الحقيقية في احتواء المنطقة.
إن إعطاء الأميركان الضوء الأخضر للمالكي لضرب العشائر الأنبارية وتزويده بالسلاح والذخيرة والدعم اللوجستي ليس معناه بالضرورة رغبة في استقرار الأمور لصالح المالكي، فمعرفة الأميركان بطبيعة الجيش الحكومي ومستواه التأهيلي والمعنوي ترجح أنهم يحاولون توريطه في معركة أطول لإبقاء العراق في دائرة الفوضى، ولجعل الأنبار بالذات جسرا لتوسيع الفوضى ونقلها إلى الدول المجاورة.
إن الأميركان على علم بأن الحل الأمني المجرد لا يمكن أن يكون حلا، وحينما يدفعون الأنظمة بطريقة أو بأخرى لممارسة هذا الحل فإنما يدفعونهم إلى أتون الفوضى لا غير.
إن مطالب الأنبار والمحافظات السنّية الأخرى ليست مستحيلة ولا تعجيزية، وبإمكان الأميركان -لو أرادوا الحل والاستقرار- الضغط على حكومة المالكي لتنفيذها، فهذا أقل تكلفة من الأباتشي وطائرات التجسس، كما أنها أضمن للاستقرار وتطويق الأزمة السورية أيضا، من هنا ندرك أن الأنبار-بالمنظور الأميركي- لن تكون سوى جسر لتوسيع رقعة الفوضى ما بين الفرات إلى النيل وما بين حلب إلى دماج.
1627 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع