د. محمد عياش الكبيسي
مفكر اسلامي عراقي
لا زالت انتفاضة الأنبار -في زخمها الأكبر- تتحرك تحت عنوان (الدفاع عن النفس ورد الصائل المعتدي)، وهو ما يعني إدانة واضحة لجيش المالكي الذي استخدم كل إمكانياته وأسلحته الهجومية ضد ساحات الاعتصام السلمي والقبائل الحاضنة والمستضيفة لها بذريعة وجود أسلحة ومسلحين داخل الساحات، وبعد الاقتحام لم يتمكن المالكي من إثبات ادعاءاته ولو بقطعة سلاح واحدة، مما يعني أنه كان عازما على العدوان وفض الاعتصامات المدنية بالقوة.
السلاح الذي استخدمه الجيش لقتل المدنيين هو سلاح أميركي، وهذا خرق للقوانين الأميركية الخاصة بتصدير السلاح، وكان من المفترض أن تتم محاسبة المالكي أو شموله بقانون الحظر –على الأقل- إلا أن المفاجأة كانت بمسارعة البيت الأبيض لتزويده بقائمة جديدة من الأسلحة والمخصصة لمعالجة حالات التمرد، وهذا يؤكد وجود الإذن الأميركي بالعدوان إما لمعاقبة هذه المحافظة على مواقفها السابقة من الاحتلال، وإما لتهيئة الأرض لمشروع جديد قد يصل إلى تغيير جذري في خارطة المنطقة كلها.
من هنا تأتي أهمية (داعش) والتي طفت على السطح بأسرع من المتوقع، لتحقق أكثر من غرض لهذا المشروع منها:
أولا: توفير الغطاء اللازم لضرب المحافظة، تحت قانون (مكافحة الإرهاب)، ومد المالكي بكل ما يحتاجه عسكريا وسياسيا.
ثانيا: تخويف الدول العربية المجاورة للأنبار (السعودية والأردن) من إمكانية ولادة (إمارة إسلامية) متطرفة، وبهذا يتم قطع المحافظة وعزلها تماما عن عمقها الطبيعي وامتدادها القومي والعشائري.
ثالثا: إثارة الفتنة داخل العشائر الأنبارية ذاتها، حيث أن الكثير منها قد وقع في مصادمات وقتول كثيرة مع القاعدة تحت معادلة(الإرهاب والصحوات) والتي سيطرت على المشهد لسنوات من العقد الماضي.
رابعا: إضعاف الحالة المعنوية للثوار بتشويش الصورة واضطراب الأولويات، خاصة أن هناك شريحة واسعة في المجتمع السني تعتقد أن خطر (داعش) لا يقل عن خطر الحكومة الصفوية، وهي ذات النتيجة التي توصلت إليها بعض فصائل الثورة السورية اليوم.
خامسا: تأليب الشارع الشيعي، ومسح الصورة الحضارية الأصيلة التي رسمها ثوار العشائر في تعاملهم الكريم مع الأسرى.
من هنا لم يبق أمام العشائر إلا خيار واحد فقط في مواجهة هذا التحدي، وهو المسك بزمام المبادرة ومحاصرة هذا الخرق حتى لو كلّف الثوار جزءا من جهدهم وإمكانياتهم، ذلك لأن هذه الإمكانيات والجهود ستضيع كلها في حالة هيمنة هؤلاء، وربما سيجد الكثير من الناس أنهم مضطرون للاستنجاد بالقوات الحكومية كما حصل في التجربة المريرة السابقة، وهكذا يكون الناس بين نارين، بين مطرقة داعش وسندان الحكومة، وفي مثل هذه الحالة ينسى الناس الماضي ولا يتذكرون إلا لحظة الألم الآنية.
إن أي تردد أو تباطؤ من قبل الثوار في حسم هذا الملف سيفتح الباب لما يسمى بالصحوات، لكي تتوسع وتجنّد كل الناقمين أو الخائفين من (داعش)، ومن ثم سيواجه الثوار قوة عشائرية كبيرة لها قياداتها وأجندتها، وهذه المواجهة ستكون أقسى وأعنف بحكم التقارب في النسب والتجاور في الأرض، وهذا هو السيناريو الأسوأ بالنسبة لمصير الثورة.
لقد آثر ثوار الفلوجة التفرغ التام لقوات المالكي والتصدي لها على معالجة إشكالية داعش، وقد حققوا بهذا تفوقا نوعيا على قوات المالكي، لكن ما ذا لو تحركت قوات (الصحوة) من الرمادي ومعها الأجهزة الأمنية التي أعادت تنظيم صفوفها لطرد داعش من الفلوجة؟ إن تقسيم الجهد وتوزيع المهام لا مناص منه عاجلا أو آجلا، وكلما ترك فراغ ما في الساحة فإنه مرشح لأن يملأ بطرف جديد ويحتاج إلى معالجة جديدة.
إن المشاكل المعقدة أو المركبة لا تحل إلا بطريقة معقدة ومركبة، ومن يحسن الجواب على السؤال الأول فإنه لن يضمن النجاح إلا بأن يحسن الجواب على الأسئلة الأخرى، وإلا فإن ما حققته المقاومة العراقية كان كفيلا بأن يجعل أهل السنة في غير الوضع الذي هم عليه الآن، وقبل المقاومة العراقية كان (الجهاد الأفغاني) الذي أحيا في نفوس الأمة ما اندثر من ذكريات طارق بن زياد وصلاح الدين، لكن النتائج كانت معكوسة ولا تتناسب بحال مع حجم التضحيات ولا مستوى الإنجازات.
هنالك إشكالية كبيرة ومؤثرة حتما في مصير الثورة، فمع ما حققه الثوار على الأرض وانهيار النظام العسكري لقوات المالكي واستسلام الكثير من ضباطه وجنوده، إلا أن الخيارات المتاحة أمام الثوار ستكون محدودة جدا إذا لم تسارع المحافظات الأخرى بالانضمام للثورة، وهذا يصعب التكهن به الآن أو البناء عليه رغم بعض العمليات الجريئة التي يشنها أبناء القبائل في المحافظات الأخرى، وإنذار النجيفي محافظ الموصل بأن محافظته قد تتحول إلى أنبار ثانية إذا لم تلبّ الحكومة مطالبها ومطالب محافظات الحراك الأخرى، لكن هذا كله لم يصل بعدُ إلى مستوى الثورة بل هو أقرب لحالة ردة الفعل التي شهدتها هذه المحافظات عقب مجزرة الحويجة، مع أن تطوير العمليات واتساعها وارد والساحة مفتوحة على أكثر من احتمال، وعندها ستتغير أيضا الكثير من التقديرات والخيارات.
اليوم ووفق المعطيات الحالية لا يبدو أمام الأنباريين إلا خيار واحد يتمحور حول رد العدوان ورفع الظلم الواقع على المحافظة من خلال نقاط عملية يمكن العمل على تحقيقها قريبا، ومنها:
أولا: إبعاد جيش المالكي وقواته المعروفة ببعدها الطائفي والاستفزازي، وعدم السماح لها بالتواجد أو الدخول في المحافظة.
ثانيا: تشكيل فرقة عسكرية من أبناء المحافظة لمعالجة الخلل الفاحش في هيكلية الجيش العراقي والمتشكلة من لون طائفي واحد.
ثالثا: تسليم ملف الأمن الداخلي بالكامل للشرطة المحلية.
رابعا: تسليم النقاط الحدودية في المحافظة لأجهزتها العسكرية والأمنية.
خامسا: توسيع صلاحية المحافظة في مجال الاستثمار، والتعاقد مع الشركات العربية والأجنبية.
سادسا: توسيع صلاحية المحاكم المحلية ورفع مستواها للنظر في كل الحالات التي تحدث في المحافظة ومنها الجرائم المصنفة تحت طائلة (الإرهاب).
سابعا: ترسيخ التعاون مع محافظات الحراك الأخرى، ودعمها للحصول على مطالبها المشروعة.
ثامنا: التواصل مع إقليم كردستان، والاستفادة من تجربتهم المتقدمة في الإدارة والتنمية والأمن والاستثمار.
إذا تمكن أهل الأنبار من تحقيق هذه الأهداف، فإنهم يكونون قد وضعوا العراق كله على طريق الحل، وأن المنافسة بين المحافظات ستكون في مضمار التنمية والاستثمار، وليس في مضامير الطائفية والعقد النفسية والتاريخية.
ربما يكون بمقدور حكومة المالكي اليوم أن توقف الأمور إلى هذا الحد، قبل أن تنزلق البلاد إلى حالة شبيهة بالحالة السورية، وعندها لن يكون هناك رابح وخاسر، وكل المطلوب منها أن تنفذ المطالب المشروعة لأهالي الأنبار ومحافظات الحراك الأخرى، وهي أقل بكثير من استحقاقاتهم حتى وفق الدستور الحالي الذي صنع على عين المحتل وشركائه.
1789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع