الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
منارة الحدباء وقصتها - الجزء الأول
تُعد منارة (مئذنة) الحدباء من أشهر معالم الموصل، حتى أن المدينة ذاتها كانت تُعرف لدى روادها في العصور الوسطى باسم (مدينة الحدباء). وتُعد منارة الحدباء من أشهر المنارات في العالم الإسلامي، كما تُعد أطول الأبراج المائِلة في العالَم.
تقع منارة الحدباء في الموصل القديمة في الساحل الأيمن، تحديدا في الجامع النوري الكبير الذي أنشاءه الملكُ العادلُ نور الدين محمود بن عمادِ الدِّين زَنْكِي (1118- 1174م)، الذي تتلمذا على يديه وعمل معه القائد المُظفّر صلاح الدين الأيوبي (1138- 1193م).
يرتبط اسم نور الدِّين زَنْكِي بقصة خندق الرصاص حول الحجرة الشريفة في المدينة المنورة. وقصة هذا الخندق من القصص المثيرة وقد سمعتها أول مرة في طفولتي في خطبة جمعة من المسجد الأقصى قبل احتلاله. وتجدون هذه القصة الآن موجودة في الكتب والإنترنت.
الملكُ العادلُ نور الدين محمود بن عمادِ الدِّين زَنْكِي (1118- 1174م) من مواليد مدينة حلب، وأصبح أميرا لها بعد وفاة والده.
لقد كان نور الدين زَنْكِي من أصلح الحكام المسلمين في زمانه، ومن آثاره النفيسة التي تركها الجامع النوري الكبير في الموصل ومنارته الحدباء.
لقد كان نور الدين زَنْكِي متعود كل يوم عند ورود الليل أن يقوم ويصلي ثم ينام. وفي إحدى ليالي العام 1161م نام بعد تهجده، فرأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول له: أنقذني من هذين!!
استيقظ نور الدين فزعا؛ ثم توضأ وصلى ركعتين ونام؛ فرأى الرؤيا نفسها أيضاً، فقام وتوضأ وصلى ركعتين ونام، فرأى الرؤيا نفسها!!
جلس نور الدين برهة وتعوذ من الشيطان ثم نام للمرة الثالثة فرأى الرؤيا نفسها!! عندها قال: لم يبقَ نوم، فقام في الحال واستدعى وزيره (جمال الدين الموصلّي) وأخبره بما رأى، فقال له الوزير: يبدو أنه حدث شيء في المدينة المنورة، أرى أن تكتم ما رأيت ونخرج إلى هناك.
خرج نور الدين بعشرين من القادة وبصحبة الوزير ومعه أموال كثيرة، وقبل دخول المدينة المنورة اغتسل ثم دخل المسجد وصلى في الروضة الشريفة وزار قبر النبي الأكرم، ثم جلس في المسجد واجتمع إليه الناس وهو لا يدرى ماذا يصنع.
قال الوزير للناس: إن السلطان حضر للزيارة وأحضر معه أموالاً لتوزيعها على سكان المدينة النبوية.. فاكتبوا مَن عندكم وأحضروا رجال المدينة كلهم.
حضر الناس وأخذ السلطان يوزع الأموال ويعطى الهدايا، وكل من حضر ليأخذ هديته كان السلطان يتأمله لعله يجد فيه الصفة التي أراها له النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام وقد انطبعت في ذهنه.
لم يجد الصورة المطلوبة إلى أن انقضت الناس كلها، فقال السلطان: هل بقى من أحد؟ قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يتناولان من أحد شيئاً وهما صالحان غنيان يكثران من الصدقة وأعمال الخير.
انشرح صدر السلطان، وقال: عليَّ بهما، فرآهما، فإذا هما الرجلان اللذان أشار إليهما النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام بقوله: أنقذني من هذين. فقال لهما: من أين جئتما؟ قالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجّين فاخترنا المجاورة والسكن بالمدينة النبوية.
فقال: أصدقاني، فصمما على ذلك، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما بمنزل قرب الحجرة النبوية الشريفة، فأمسكهما وخرج إلى منزلهما، فوجد مالا كثيراً ومصحفين وكتبا في الرقائق، ولم ير شيئاً. وأثنى عليهما أهل المدينة بالخير وبأدائهما للصلاة، وزيارة البقيع كل يوم، وقُباء كل سبت.
بقى السلطان حائراً يطوف في بيت الرجلين بنفسه، وكان البيت مفروشا بالحصير. ثم أمر برفع الحصير من البيت، فرأى تحت أحد الحصران فتحة تؤدي إلى سرداب محفور حديثا باتجاه الحجرة الشريفة حيث جثمان الرسول الكريم!!
إرتاع الناس وهم لا يصدقون أعينهم، فخاطب السلطان الرجلين قائلا: أصدقاني حالكما، فأصرا على حجتهما فضُربا، فاعترفا بأنهما إسبان بُعثا في زي مغاربة للاحتيال على تنفيذ جريمتهما التي سول لهما الشيطان أن بالإمكان تنفيذها، فلما اعترفا وظهر حالهما سجد نور الدين شكراً لله تعالى، وأمر بضرب أعناقهما، ثم أمر بحفر خندق عظيم من كل الجهات حول الحجرة الشريفة حتى بلغ الماء وجعل فيه الرصاص المُذاب ليكون حائطاً وسوراً داخلياً على الحجرة.
اسمعوا القصة الكاملة في الفيديو المرفق:
https://www.youtube.com/watch?v=4GJ9K1UF7zQ
الجامع النوري الكبير:
لقد كان أول الجوامع المنشأة في الموصل بعد الفتح الإسلامي هو المسجد الجامع الذي شيده الخليفة الأموي مروان بن محمد والمعروف بالجامع الأموي (جامع مُصفّي الذهب أو جامع المُصفّي حاليا) ويقع في منطقة الكوازين.
لقد ضاق المسجد الجامع بالمصلين حتى بعد توسعته وترميمه في عهد الخليفة المهدي العباسي. وكان ذلك خلال فترة حكم سيف الدين بن عماد الدين زنكي أحد ولاة الأتابكة على هذه المدينة.
يعود تاريخ الجامع النوري إلى العهد الزنكي، وتحديداً إلى فترة ما بعد تولي سيف الدين غازي الثاني بن مودود زمام الحكم في الموصل. لقد كان حاكم الموصل ضعيفا، فتوجه نور الدين زنكي إلى الموصل واحتلها بلا مقاومة عام 1170م.
مكث نور الدين زنكي في الموصل وقام بإصلاحات منها تخفيف الضرائب، ورأى في تلك الفترة ما يُعانيه المصلون من ضيق الجامع، فلم يكن بها جامع يُجمع به سوى الجامع الأموي، وكان سكان الموصل قد ازدادوا فرأى نور الدين حاجة المدينة إلى جامع جديد.
لقد كان في الموصل خربة واسعة تتوسط البلدة، وكان الناس قد أشاعوا عن تلك الخربة أنه: من يشرع في عمارتها يموت!! فأشار الشيخ الزاهد (معين الدين عمر الملا)؛ على نور الدين زنكي أن يشتري تلك الخربة ويبني فيها جامع.
لم يُبالي نور الدين بما قاله أهل البلدة عن الخربة، واتخذ قراره بأن يَبني بها جامعاً كبيراً، فأخذ الخربة، وأضاف إليها ما يجاورها من الدور والحوانيت ودفع تعويضات سخيّة لأصحابها وقام ببناء الجامع وأنفق عليه أموالاً جزيلة. كما أوقف على الجامع ضيعة من ضياع الموصل.
وكّل نور الدين شيخه معين الدولة (عمر بن محمد الملاء) بأمر بناء الجامع، وقد بوشر ببناء الجامع سنة 1170م، وكان (عمر بن محمد الملاء) يملأ تنانير الجص بنفسه، وبقي يشتغل في عمارة الجامع ثلاث سنوات.
بعد أن فرغ (عمر بن محمد الملاء) من عمارة الجامع، رأى من المستحسن أن يبني به مدرسة، عُرفت فيما بعد بمدرسة الجامع النوري.
رجع نور الدين إلى الموصل سنة 1172م وصلى في جامعه، بعد أن فرشه بالبسط والحصران، وعين له مؤذنين وخدمًا وقومة ورتب له ما يلزمه. كما أوقف للجامع عدة أوقاف، منها (العقر الحميدية) و (قيسارية الجامع النوري) و (أرض خبرات الجمس).
لقد كانت تكلفة بناء الجامع النوري قرابة ثلاثمئة ألف دينار، وفي زيارة نور الدين الثانية للموصل سنة (1172م)، وبينما كان جالسا على ضفاف دجلة، جاءه شيخه معين الدولة وقدّم إليه دفاتر الخرج (مصاريف البناء) وقال له: يا مولانا، أتمني أن تنظر فيها، فقال له نور الدين: يا شيخ، عملنا هذا لله، فدع الحساب ليوم الحساب؛ وأخذ الدفاتر ورماها في دجلة.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
1654 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع