جيهان أبوزيد
في مايو ومنذ ما يزيد على ثلاثة وخمسين عاما, وقبل أن تهبط الأحلام على النائمين انفجر غضب ما من باطن الأرض فقسمها وضرب مبانيها وأهال التراب على ما يزيد على ثلاثة آلاف نسمة.
يومها لم يحل الصباح على سكان «جنوب شيلي», ظلت الساعة متوقفة لدى الحادية عشرة مساء رافضة أن تغادر وتترك الدمار والقتلى والتسونامي الذي تلى الزلزال, إلا أن الساعة التي أجبرت على المضي قدما لم تعد هي ذاتها, صار الزمن بعد الزلزال غير الزمن وتبعثر اليقين الذي كان في أعين البشر, وخاف الأطفال الصغار على الكرة التي لا يملكون غيرها فتوقفوا عن اللعب خشية أن تبتلعها الأرض مرة الأخرى.
أما أمي التي جمعت ملابس أبي بعد وفاته فقد أخفت الفرح في الحقيبة الأخيرة وأودعتها خزانة المنزل, وارتدت الملابس السوداء وظلت كما هي تعمل وتعين الطلبة الفقراء, لكني لم أنجح يوما في ضبطها وهي تضحك, صديقها الوسيم الحنون الذي تزوجته بعد حب جميل تركها بعد سنوات ست فقط, وخانها مع الموت وتركها تواجه حياة من دون ألوان, كنا صغارا فلم ندرك أن للزلزال -غياب أبي- تداعيات تبقى حتى تبلغ أبعد الخلايا فينا. وظللنا نسأل أمي متى تغني مرة أخرى فكانت تقول يوما ما, ولم يأت اليوم أبداً.
الزلازل التي تضرب البشر والمجتمعات والأرض لا تبقي على ثابت, ولا تسمح لأحد بنسيانها, إنها آتية لتُغير. والغريب أنها من يقرر موعد التغيير, فلا تستشير ولا تطلب إذنا, فقط تنقسم الجبال وتخرج الغازات وتعلو الأمواج أو يفقد أب طفله أو يفقد شاب عينيه أو يخسر رجل حب حياته أو تسقط بلد في الفوضى أو يغمرها وباء الاستبداد أو الكوليرا أو يرأسها فريق فاسد.
تضرب الزلازل حاضرنا فتغير مستقبلنا, ويتغير المستقبل ونحن ما زلنا في نفس الرداء, وما زال في أيدينا نفس القلم, نكتب فلا تصل الكلمات, ونرسم فلا تتكون الأشكال, ونبني فلا يرتفع البناء ونصرخ فلا يصل الصوت, وإذا بالمستقبل الذي بات حاضرا يحتاج إلى قلم جديد وألوان أخرى وبناء بخطوط معتدلة أو مائلة وصراخ من نغمة بعيدة, الزلازل تتركنا في فخ استخدام أدوات الماضي التي لم تعد تصلح لواقع جديد صنعه الزلزال.
الأطفال الصغار في معظم الدول التي تسمى المتقدمة يدرسون سبل مواجهة زلازل الحياة, فلا يتعلم الطفل فقط كيفية الاستجابة لجرس الإنذار حين يطرق معلنا طارئا ما, بل أيضاً كيفية مواجهة كل الأزمات بما فيها موت الأصدقاء أو غياب أحد الوالدين أو الإصابة بإعاقة مفاجئة. يتعلم الصغار كيفية طلب المساعدة, حيث طلب المساعدة فعل محمود لا يهين الكرامة, ولا يحط من صاحبه كما تفعل بنا ثقافتنا. طلب المساعدة أمر يبلغ مرتبة الحق, حق لمن يعاني زلزالا, وحق لمن يقْدر على مد يد العون فيعتز بنفسه كفاعل ومعطاء وإيجابي.
قالت لي جدتي ذات يوم حين سألتها عن رجل يسير في الطرقات مرتديا قطعا بالية بينما السماء تمطر. إنه ومنذ وفاة زوجته الشابة أقلع عن الحياة, كان يحصل على طعامه من الأبواب, ولا يمل من الحديث مع حبيبته التي رحلت عقب زواجهما بشهر واحد, كان يبتسم لطيفها ثم يجلس على الأرض فجأة ويبدأ في البكاء, زلزاله العاصف أربكه ولم يجد من يعينه على العودة, فغاب فيما أسماه الناس جنونا, لكن أحدا لم يفعل شيئا سوى الشفقة أو الشكوى, ولم يجد الرجل يدا تساعده لإعادة بناء ما كسره الزلزال.
فالزلزال الأرضي والنفسي والعضوي يصيب بالألم أو بالصدمة أو بالرغبة في الانسحاب أو كل ما سبق. ولأنه يشبه الولادة فأحيانا ما تتعاطى النساء مع الزلازل بمرونة أكثر. فالنساء اللاتي أثمرن بشرا في أحشائهن واختبرن تغيرات وجودية كفعل الولادة يمكنهن إدراك مغزى الكون حين ينقلب وحين تتغير ملامحه تغييرا جذريا. أما من لم يختبر فعل الولادة فيظل عليه أن يتعلم كيفية التعاطي مع الجديد, ومع الواقع حين يأخذ منا بقسوة أو يعطينا بسخاء, وحين يتشقق أو يتهدم منه جدار, وحين تتصاعد منه أبخرة ألم أو غازات سامة, وحين يسبح فيه صوت العصافير ونغم الحب أو يبقى جافا أجوف من دون صوت الحبيب.
كنت في «قطر» على مقربة من السماء حين فاجئني الزلزال الذي ضرب جنوب شرق إيران, فإذا بهزة قاسية تأرجح المبنى, وتضرب روحي وتوقظ فيَّ الخوف من الموت, ومن الغياب, ومن الخروج من الحياة من دون اختبار كل الجنون ودون ارتشاف كل الفرح. حين انسحب, وعدت نفسي ألا أسقط في اليأس أو الخوف, وألا أفقد الأمل في بلدي أو في بشر يسكنهم ملاك وشيطان. وعدت نفسي ألا أسمح للغباء باقتحام قلبي أو روحي, وألا أترك قلمي لأني أحبه ولا أسمح بكسر الفنجان الخزفي الذي اشتريته من سوق تونس القديمة, وكنت أضحك مع صديقاتي للثمالة. وعدت نفسي أن أغفر مثل المهاتما غاندي, وأن أضرب جذوري في أرضي مثل الأهرامات, وأن أحب لغتي كما أحب ابنتي, وأن أبقى على ولائي للأشجار والطيور فقد كانت وما زالت مثلى الأعلى ودليلي نحو السماء.
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع