بقلم/ حامد خيري الحيدر
أنهار الخمر/حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
لم يشعر بنفسه إلا وهو داخل صومعة المعبد، محاطاً بجدرانها الدهماء الصماء الخالية من أية نافذة، مما جعله يعتقد لأول وهلة أنه قد حُشر في مدفنٍ للأموات لا خروج منه.... أخذ يتلفت برأسه المتمايلة من تأثير الخمر في أرجاء الصومعة، متسائلاً مع نفسه عن هذا المكان الكئيب الذي لم يدخله قط طيلة حياته، بصمته المطبق الذي يوحي بغياهب العالم الأسفل، وسكونه الموحش الذي يضاهي كهوف الخفافيش، مقارناً إياه بالحانات الجميلة ومراقصها المزينة الملونة، بضجيجها الذي يخلق الحياة وأنوارها البرّاقة التي تحيل الظلمة الموحشة الى صباحات مُبهجة، مع ما تحمله أنغام موسيقاها الصدّاحة وتمايل راقصاتها الهيفاوات من مرح وبهجة تزيل جبال الهم من الأفئدة المتعبة، والتي كانت ملاذه الوحيد كلما أراد الهروب من سجن البيت ومفارقة زوجته التي كان يرى فيها سجانه الأبدي الذي أبتلاه القدر به، حتى بات من شدة كرهه لها يُكنيها بأشنع الألقاب، ليعتبر مغادرته اليومية للبيت نعمته الثانية التي حصل عليها في حياته بعد إدمانه الخمر، شاعراً حينها أنه قد أطلق سراحه من زنزانة معتمة لا تضم سوى العفاريت، خاصة حين تتحرك في جيوبه بضع شيقلات من الفضة يسرقها من زوجته خلالها نومها.. (يا للمصيبة أين أنا.. وأي ورطة أقحمت نفسي فيها.. والى أين ساقتني قدماي؟ ما هذا المكان الكريه الذي يعتصر النفوس قبل الأرواح؟).
كان (ماردودو) كما أعتاد في كل يوم بعد استيقاظه من النوم عند الظهيرة، ينال من زوجته ضربة موجعة على رأسه بمغرفة الحساء الخشبية الكبيرة، آمرة إياه بعد أن تناوله فطوره المتواضع وإعطائه نصف شيقل من الفضة ثمن جرة الخمر التي يملئ بها جوفه، أن يغادر البيت ولا يأتيه حتى المساء.. كان خسارة النصف شيقل من مصروف البيت المحدود يومياً، أهون عليها كثيراً من مقابلة وجه طوال النهار بأحاديثه السمجة ورائحة الخمر النفاثة التي تفوح من جسده، حتى غدت غاية سعادتها هي كذلك أن لا تراه أو تسمع صوته، بعد أن مات أتزانه وفقد لسانه المترهل بفعل الخمر التميّيز بين عبارات المدح والذم... ومع مرور أيام حياتها ترسخت قناعتها بأن (ماردودو) الذي لم يبرع في أي شيء طيلة حياته، سوى ارتياد الحانات ومرافقة صانعي وبائعي الخمور، كان أتعس خيارات حياتها، حين رضيت به زوجاً على عِلاته قبل أكثر من عشرين عاماً، رغبة منها ببناء عائلة تكمل معها بقية عمرها، بعد أن وصلت خريف العمر وهي من دون زواج، ولم تكن عندها لتنتظر أو ترتجي منه بحاله هذه، أن يعيلها عن طريق مهنة يحترفها أو صنعة يمتهنها لتقوّم نمط حياته ويصرف من ما يسترزقه منها على أسرته، لتقنع مُرغمة بموردها المالي الوحيد المتأتي من أيجار البيتين الذين ورثتهما عن أبيها، واللذان لولاهما لأصبحت مع أبنتها الوحيدة تستجديان الطعام عند قارعة الطريق.
في ذلك اليوم وبعد أن تلقى ضربته المعتادة على رأسه بمغرفة الحساء، أعطته زوجته نصف الشيقل المعتاد.. (أسمع أيها الأبله.. هذا النصف شيقل ليس لخمرك الكريه، وإنما كي تشتري دجاجتين... لقد دعوت أبنتك وزوجها على الغداء يوم غد... ولن أدعك تقابلهما بهيئتك المقرفة هذه.. أحتفظ بكرامتك ولو لمرة واحدة في حياتك، ليس من اجل شيء بل من اجل أبنتك الوحيدة).... وما أن توارى (ماردودو) خلف باب البيت الخارجي متوجهاً الى سوق المدينة حتى بصق بشدة عليه.. (اللعنة عليك يا بومة النحس وعلى زوج أبنتك الذي لا يختلف كثيراً عن ثيران الحقول التي لا تعرف في حياتها سوى جر المحاريث).. رغم تلك الحياة الرتيبة المملة ذات الطابع المُهين، لكنه لم يكن ليشغل ذهنه بمُجرياتها بعد أن زهد من كل تفاصيلها، تاركاً إدمان الخمر يسافر به بعيداً عن عالم البشر، ناسياً جنونهم وأطماعهم وحماقاتهم... حتى أبنته كان يراوده الشك كثيراً بأنها من صُلبه، فلم يعد يعرف من سكره الدائم كيف أنجبتها زوجته منه، ولابد أن رجلاً آخر قد راودها يوماً ما بعد أن يئست تماماً من فاعلية رجولته.
كانت دوامة التفكير قد سرقته طوال الطريق نحو السوق مُتحيراً بأمرٍ لم يعتده منذ أمدٍ بعيد.. كيف يمكن أن يحدث ذلك ويمضي يوم بطوله من دون رشفة خمر يدغدغ طعمها لسانه، وتفتح رائحتها الزكية منخريه، وتُنقي رأسه من ما علق بها من تلك المنغصات اليومية.. (تباً.. هل تستحق الدجاجتين نصف شيقل كامل من الفضة؟ ألا يمكن شراء فروجتين صغيرتين بربع شيقل، وتوفير الربع الآخر لشراء ولو نصف جرة من الخمر.. ربما خمر التمر الأبيض أرخص من باقي الأنواع، ويمكن الحصول عليه بنصف السعر)... لكنه يتراجع بتفكيره نحو جادة الصواب، فكلمات زوجته الحادة الصارمة وهي توجه تحذيرها له، ونصائحها واضحة حازمة لا تقبل النقاش أو التهاون، وهي لازالت ترن في أذنه منذرة إياه بأشد العواقب اذا لم يلتزم بما تقول.. (أختر دجاجتين سمينتين.. لا يغرّنك الريش.. تحسس خلفيتيهما جيداً للتأكد من ذلك.. أذا جلبت دجاجتين نضب بيضهما أو فروجتين صغيرتين لا تمتلكان سوى العظام، ستأتيك ضربتين على رأسك بدل الواحدة).
كان كلما حاول التمرد بتفكيره عن تلك الاوامر التعسفية التي وجهتها زوجته، والعواقب الوخيمة التي تنتظره بخلاف ذلك، يأخذ بتحسس رأسه براحته متخيلاً الضربتين الموجعتين بمغرفة الحساء التي وعد بهما اذا لم ينفذ الأمر، مُستصعبا ذلك بعد أن غدا رأسه متورماً مع جريان نهر الأيام وتوالي الضربات دون حساب... ماذا هو فاعل؟ أخذ مفعول الخمر بالزوال، وبدأ يصحو من جديد ليشعر بآلام ضربات زوجته، وأخذت عيناه تتفتحان مرة أخرى على تلك الحقيقة المفجعة الدامية التي قضى حياته كلها لنسيانها، ولم تستطيع سوى جرار الخمر من أن تُغشيها عنه، ليرى مرة أخرى تلك المشاهد الكريهة التي حلت بمدينته الجميلة من جوع وتخلف وبطالة وجهل وتمايز كريه يدعو للقيء بين أهلها، منذ أن تولت أمرها ثلة من المجرمين والسراق لتحيلها الى خراب ودمار، بعد أن كانت جنة للناظرين وقبلة للمسافرين والحالمين براحة لا حدود لها بين ثنايا الجمال.
كان الصياح عالياً لكن لم يكن بالإمكان تبيان ماذا يُقال خلاله، بسبب بُعد المسافة عنه وتأرجح عقله الذي بدأ يهلوس أثر تسرب تأثير الخمر عنه، وبعد أن أخذ الجفاف منه مأخذاً مع اشتداد الحر القائظ، الذي جعل لسانه يغدو كلسان الكلب السلوقي.. (يا للكارثة ماذا أفعل.. أن لساني يتوق لجرعة خمر واحدة)... ومع اقترابه من مصدر الصياح أخذ يُميّز مفرداته ومصدره بوضوح.... لم يكن سوى رجلاً نحيلاً قبيحاً أصفر البشرة يرتدي ملابس غريبة، يشبه سحلية البيوت البرصاء، يضرب على طبلة صغيرة ليدعو الناس الى ما يريد قوله.. (هلموا.. هلموا... هل تريدون الراحة الأبدية؟ هل تريدون أن تبقى بطونكم ممتلئة ما امتدت أعماركم، وأن تنسوا العطش ما طالت سنين حياتكم؟ هلموا أذاً بالدخول وارتشفوا قدر ما تستطيعون من أنهار الخمر.. نعم أنهار الخمر.. انها هدية (أنليل) العظيم لمحبيه المخلصين... حلو مذاقها كسكر الأعناب.. فواحة رائحتها كأوراد الربيع.. رائعة نشوتها كأحلام العشاق.. تجعل الأفواه غضة رطبة، وتطير بالأرواح نحو مرح العصافير).... لم يستوعب عقل (ماردودو) من كل ما سمعه وما كانت تنطقه تلك السحلية البشرية سوى (الخمر وأنهارها)، فلم تجد نفسه العطشى ودون شعور منها أو أدنى ارادة من عقله المترنح، إلا لتجعله يدخل مع زحمة الناس المتدافعين الى ذلك المكان الغريب المجهول بدعوته الكريمة المعسولة، ولم يكن ليعرف حينها هل كان هؤلاء قد جاءوا مع تيارات عطشهم من اجل الدخول اليه رغبة منهم بذلك، أو طمعاً بتلك الأنهار المغرية المتموجة في خيال الطامعين بها، وهرباً من قيظ الحر اللاهب كحاله هو، آملاً ببضعة كؤوس تنقذ أتزان رأسه وتعيد اليه دوامة سكره بعد خسارة جرة خمره اليومية.
ما أن أستقر بمجلسه على أحدى الأرائك وسط صومعة المعبد المواجهة لمحرابه، حتى ظل يتلفت ذات اليمين وذات اليسار، مُبحلقاً في المكان وهيئته، ناقلاً نظره بين الجالسين... الجميع كانوا مُتصلبين كدمى الصلصال، لا تصدر عنهم أية إيماءة تُشعر من يرنو اليهم بأنهم على قيد الحياة، حتى أصوات أنفاسهم لا تكاد تسمع وحركات صدورهم ما كادت تُرى، وكانت رؤوسهم متدلية الى الأسفل كاشفة عن طول رقابهم، تماماً كحال الخراف حين يتم تهيئتها للذبح في المسالخ.. (غريب انهم يمدون رقابهم دون أن يفتحوا أفواههم.. كيف سيرتشفون الخمر اذاً؟).... هي المرة الأولى في حياته التي يدخل فيها معبداً من المعابد، بعد أن كان يسمع عن تلك الأبنية الموحشة فقط.. فمنذ صِغره كان يرى الأطفال بصحبة أهلهم يدخلونها مرتدين جميل حلتهم أيام نهاية الأسبوع أو عند الأعياد، إلا هو فقد كانت هوايته المفضلة أن يرافق والده الى حوانيت بيع الخمور، حيث يستمع هناك الى الحوارات الجميلة بين ندمائها وزبائنها، وهم يتندرون على المعابد واصفين إياها بمدارس البلهاء، ومرتاديها بأغبياء المدينة ومعتوهيها، مصدقين بكل خنوع ما يتم ترديده داخلها، ليحصلوا بعد إتمام غسل أدمغتهم على شهادة تثبت سذاجة طاعتهم، فيغدون تماماً كالجراء المبقعة التي تظل تهز أذيلها كي تُرمى فضلات الطعام لها... من هذه الأفكار الثائرة على قناعة الجهل تلقى (ماردودو) علمه بحقيقة تلك الأبنية الدهماء، ليجيب عندما يسأل احدهم عن سر تعلقه بتلك التي تذهب بالعقول وتهدّ من صحة الجسد، مستذكراً محنته الأبدية مع زوجته.. (أنها تُنسيك هموم البيت والدنيا، والأوغاد من الناس، وأولئك الذين يبغون سلبك العقل والارادة، وتجعل من العانس أبنة الأربعة عشر ربيعاً، ومن الزوجة القبيحة جميلة عصرها).
أخذ عدد من الكهنة الذين يشبهون تلك السحلية البرصاء الواقفة عند باب المعبد، يهّمون في حركة دؤوبة وسط المحراب، حيث بدو وكأنهم يعدّون لشيء ما، فظن أنهم يهيئون دنان الخمر لتوزيعها على الحاضرين، أبتسم لذلك المشهد الذي اعاده سنين بعيدة الى الوراء، حيث كان يقف الى جوار حمام السوق مجموعة من المُخنثين يؤدون حركات غريبة كهذه، وهم يرتدون ثياب مميزة كاشفين عن اجزاء حساسة من اجسادهم، محاولين اغواء المارة ومن رغب بمراودة الشواذ.. دفع عطش (ماردودو) الشديد وهو بانتظار ما وعد به أسوة بجميع الموجودين، الى سؤال الرجل الجالس الى جواره (ماذا هم فاعلون؟ ومتى يبدئون بإسقائنا الخمر؟)... أستغرب الرجل سؤاله ثم أجاب بعد أن عرف حقيقته من رائحته النفاثة.. (أنتظر قليلاً، سيأتي الكاهن الأكبر وهو من سيقوم بذلك)... ولم تمض سوى دقائق حتى نفذ من أحد الأبواب الجانبية الى محراب المعبد رجل أصلع بدين، مُفرط في سمنته وهو يرتدي ثوب أبيض طويل يكشف عن كتفة الأيسر، تزين بأساور وقلائد من الذهب بولغ في تنضيدها بأنواع الأحجار الكريمة.... كان الرجل يسير بخطواتٍ بطيئة كخطوات السلحفاة، وخلفه يسير عدد من الكهنة المساعدين وهم بمثل هيئته وملابسه، يشبكون أياديهم الى بطونهم ورؤوسهم مطأطأة الى الأرض، حتى وقف خلف منصة فخمة من الخشب المطعم بالصدف والعاج تتوسط المحراب، بينما أصطف باقي الكهنة خلفه.
حاول (ماردودو) سؤال الرجل مرة أخرى عن هوية صاحب هذا الموكب، لكنه اسكته بإشارة حاسمة من أصبعه، ثم أجابه بعد ان عرف ماذا كان يريد السؤال عنه.. (أسكت ولا تتكلم ثانية ... لقد دخل الكاهن الأكبر)... تمعن طويلاً بهيئة الكاهن وحليه اللماعة وسمنته المفرطة، فتذكر مباشرة الدجاجتين السمينتين اللتين أوصته زوجته بهما، وأن لا ينخدع بالريش الذي يكسوهما.. عندها لم يتمالك نفسه من أطلاق ضحكة مخنوقة بالكاد تمكن من كتمانها وسط السكون المطبق الذي يخيم على المكان.. حيث تساءل مع نفسه مواصلاً خنق ضحكته.. (يا ترى هل يمكن أن يتأكد من حقيقة ما تخفيه تلك السمنة بتحسس خلفيتها؟).
تلفت الكاهن الأكبر بقسمات وجه الجامدة المتجهمة الخالية من الحياة، وفمه العريض الكاره لصورة الابتسامة، مجيلاً بنظره بين جموع الجالسين، وكأنه ضبع منتفخ مفجوع يرمي ببصره الذي يتطاير منه الشرر الى قطيع من الحملان الخانعة قبل أن يهم بافتراسها... مد ذراعيه الى جانبيه، ثم أغمض عينيه وردد بصوت جهوري عالي يصل الى كافة أرجاء المعبد.. (سيد السماء ومالك الأرض والبشر، (أنليل) العظيم... جود على هؤلاء المساكين ببركتك وأسقيهم خمرتك السماوية التي تنسيهم عطشهم)... عندئذ أبتسم (ماردودو) ابتسامة عريضة ماسحاً شفتيه بلسانه.. (أخيراً سيأتينا ما كنا ننتظره).. مرة أخرى وغير عابئ بالصمت، التفت الى الرجل الذي ضاق ذرعاً به وبرائحته سائلاً إياه ببلاهة متناهية.. (من (أنليل) هذا؟ هل هو ساقي المعبد؟).. عند ذاك جحظت عينا الرجل وتجهم وجهه، وأجابه بسرعة وبصوت مكتوم مخافة قتل السكون.... (ألا تعرف من هو (أنليل) أيها الأحمق؟ أنه إلهنا العظيم أيها الزنديق النتن... فقط أريد أن أعرف من أين أتيت؟).. بالطبع لم يجبه (ماردودو) فلا يهمه أن يعرف من هو (أنليل) أو غيره، فهو هنا لسبب آخر تماماً بعيد عن هذه الخزعبلات التي لا تقوى على تحريك ذبابة.
تابع الكاهن الأكبر تحريك ذراعيه وكفيه هنا وهناك بهذا الاتجاه وذاك ثم بمختلف الاتجاهات، كأنه يرسم خريطة وهمية لا تفهمها سوى الشياطين، وقد تبدو لمن يراها في مكان آخر كحركات المهرجين، الذين يستعرضون فكاهات ألعابهم في ساحات المدينة عند الاعياد والاحتفالات السنوية، من أجل رغيف خبز أو حفنة شعير.. ثم رتل بصوت خافت لا يسمعه سواه أدعية غير مفهومة الكلمات، تشبه تلك العبارات التي يرددها السحرة والمشعوذون لمن يلجأ اليهم من الجهلة وصِغار العقول، بعدها خاطب المتعبدين الذين أخذوا بعد الذي سمعوه وشاهدوه من تلك الطقوس والحركات المسرحية، يحنون رؤوسهم نحو الأسفل اكثر فأكثر، والبعض أخذ يقلد دون وعي ما يفعله الكاهن الأكبر، مُحركاً ذراعيه في كل أتجاه كأنه يحاول لمس شيئاً ما لا يوجد سوى في مخيلته، وآخرون أجهشوا بالبكاء وهم يرددون بصوت مخنوق مبحوح تملأه العَبرات.. (غفرانك (أنليل).. غفرانك أيها العظيم المبجل)... إلا (ماردودو) الذي ظل يتلفت، ناظراً الى ما يدور حوله من مهزلة تشابه مسارح القردة كاتماً ضحكته، والتي أخذ يطلقها دون وجل، كلما علا النحيب الى جواره كي تضيع قهقهتها بين تلك الانفعالات الساذجة.
بعد وقت محسوب بدقة، أختتم الكاهن الأكبر تعبده بموعظةٍ ردد كلماتها بصوت عال وبصيغة أمر لا يقبل المساومة أو الجدل.. (هِبوا أنفسكم وخيراتكم وكل ما تملكون لـ(أنليل) العظيم، فمنذ اليوم لستم بحاجة لها بعد أن وهبكم إلهنا المقدس بركته التي لا تقدر بثمن، وغدوتم تتنفسون من رئتيه وتطعمون من معدته..... أمنحوا قرابينكم لإلهنا الخالد دون حساب، وأجعلوا أبنائكم يزهدوا من متاع الدنيا الفانية، ويتركوا أعمالهم وما يمتهنون ليقضوا بقية أعمارهم في خدمة المعبد، إرضاءً لـ(أنليل) الجبار، وأجعلوا بنتاكم ينبذن الزواج ويَهبن عفافهن دون حياء أو تردد لكهنة بيت الإله فقد غدون اليوم بنات (أنليل).... شرفكم وما تملكون ملكاً لـ(أنليل) العظيم... فهو من يجود عليكم بأنهار خمره وعطايا رزقه وطمأنينة نفسه).... ثم أطلق فجأة وبشكل انفعالي صرخة مدوية أرتجت لها جدران المعبد.. (أجيبوني... بماذا سينفعكم ما تملكون ورضا (أنليل) بعيد عنكم؟)... عندها صاح الجميع مباشرة باستثناء (ماردودو) وبصوت واحد، مرددين عبارة منتقاة يبدوا أنها قد أعدت لهم سلفاً.. (رحماك (أنليل) العظيم... خذ كل ما لدينا وأمنحنا رضاك يا صاحب القوة والسلطان)... ثم واصل الكاهن الأكبر موعظته.. (أيها الصالحون.. تجردوا من نفايات الدنيا وسيروا بدرب (أنليل)، فالخير هو، والمال هو، والشرف هو... وهو وحده من سيجعلكم تستحمون عند العالم الأسفل في أنهار الخمر التي تنسيكم ظمأكم).
أخذ يفيق من سكرته ويشعر بالضجر مما يقال بعد طول انتظاره، دون أن يحصل على رشفة خمر واحدة يبل بها ريقه وتعيد له سكرته التي فارقت رأسه.. ( أيها المخادع الأفّاق.. تتكلم هكذا وكأن الناس يعيشون حياة الرغد والخير وجيوبهم مليئة بشيقلات الفضة والذهب.. أن نصف سكان المدينة لا يجدون ما يملؤون به بطونهم الخاوية، والنصف الآخر بلا عمل يؤدونه كي يعيلوا عوائلهم).... كان (ماردودو) كلما أضمر الغيض في قلبه، كانت كلمات الكاهن الأكبر تعلو أكثر فأكثر، حتى غدت كأنها طبل كبير يضرب بجانب رأسه.. (أنهار الخمر وما أدراكم ما أنهار الخمر.. تلك التي تسبح بين مويجاتها حسناوات لا مثيل لجمالهن، مُرسلات من عوالم الآلهة كي تقضوا أوطاركم ما شئتم منهن... وحتى النسوة العاشقات لـ(أنليل) سيُمنحن شباباً يافعين ليتمتعن ببذراتهم... لا شيء محال أمام إلهنا العظيم.. سيروا في طريقه وستجدون كل ما تتمنونه هناك عند ذهابكم الى العالم الأسفل).... لم يعد يحتمل أكثر من ذلك خاصة بعد صحوة رأسه وتسرب نسائم الوعي اليه، ليردد دون مخافة من سماع صوته.. (وهل سينتظر الناس طيلة أعمارهم حتى يذهبوا الى العالم الأسفل كي ينالوا كل ذلك، وخيرات مدينتهم في حياتهم تذهب الى كروشكم المتخمة... من أين أتيت بكل هذه الأكاذيب والبدع أيها الدجال الماكر؟).
ترك الكاهن الأكبر منصته وسط المحراب ليسير وسط مقاعد المتعبدين، حاملاً بيده اليمنى قنينة مصنوعة من الفضة مملوءة بماء الورد أخذ يرش منها عليهم، ماداً يسراه المزّين خنصرها بخاتم ذهبي كبير أمام رؤوس المتعبدين كي يقبّلوها، وهو يردد بصوته الجهوري.. (بارككم (أنليل).. بارككم إلهنا العظيم).. وخلفه سار أتباعه من الكهنة وقد فتح كلٌ منهم كيساً كبيراً من القماش السميك، ماداً فوهته نحو الناس كي يلقوا فيه عطاياهم... أخذت شيقلات الذهب والفضة والحلي الثمينة تُرمى في الأكياس دون حساب، وخلال دقائق معدودات كادت أن تمتلئ حتى لم يعد بمستطاع حامليها من رفعها، فأخذوا يسحلوها سحلاً.. (يا أبناء البغايا من أين أيتم بكل ذلك.. أحقاً انكم تعيشون في نفس مدينتنا الصابرة البائسة؟ وأنا أشعر بالزهو بنصف شيقل من فضة).
أيقظت (ماردودو) من شروده وبما كان يفكر رشة من ماء الورد بللت وجهه، ليلتفت فيرى الكاهن الأكبر قد غدا الى جواره، فما كان من الرجل الجالس بعد أن رمى في الكيس حفنة كبيرة من الحلي الذهبية، أن تلقف يده بسرعة وأنهال عليها تقبيلاً، وبالكاد حررها الكاهن منه لينقلها بمواجهة رأس (ماردودو) منتظراً أن يمنحه قبلة الصفح والغفران، لكنه ظل ينظر اليه ببلاهة متناهية.... خزره الكاهن بنظرةٍ ذات معنى ملؤها الشزر وكأنه يقول.. (قبّل اليد وأمنح عطيتك، وألا ستنال عقاب إلهنا العظيم).. ليقابلها (ماردودو) بمثلها، ثم مد له لسانه الذي غدا ناصع البياض من شدة العطش، كما لو أنه يجيبه.. (لو غدوت قرداً تقفز وتصرخ أمامي لن أقبّلها، ونجوم السماء أقرب أليك من النصف شيقل، وقد تركتني بعطشي هذا).... لم ينتظره الكاهن طويلاً فالأغبياء وفرة ولن يترجى من هذا المخمور شيء، فواصل مسيرته بين باقي صفوف المتعبدين... وما كاد يجتاز مكان جلوسه حتى تنشق (ماردودو) مباشرة رائحة كريهة تخرج من خلف الكاهن الأكبر.. أيقن أنه قد أخرج الريح ورائه.. (أيها اللعين ألا تستطيع الانتظار قليلاً كي تخرج ما في جوفك بعيداً عن الناس.... تسلب من هؤلاء المعتوهين ما يملكون وتمنحهم هواء أمعائك النتن.. اللعنة عليك وعلى كل غبي يصدق ما تقول وتفعل).
بعد خروج الكاهن الأكبر بصحبة أتباعه من باب المعبد، أخذ المتعبدون يتنفسون الصعداء وهم يخرجون تباعاً خلفه، وقد امتلأت قلوبهم ورؤوسهم بنشوة زائفة مُحدثين بعضهم بعضاً فرحين.. (من المؤكد أن (أنليل) العظيم قد أحبنا اليوم).. (أنا متيقن أن (أنليل) قد رضى علينا)... سأل (ماردودو) الرجل بهدوء وهزأ دون أن يلتفت اليه.. (ومتى سيوزعون علينا الخمر.. لقد خرج الجميع؟)... ليرد عليه بغضب.. (ألم تذقها بعد لقد أرتوى الجميع منها واعتمرت نشوتها صدورهم... أي أنسان أنت يا هذا؟) قال هذا ثم تركه وغادر المعبد وهو يردد.. (أخيراً تذوقتها.. ما ألذ طعمها.. أنها حقاً الذ من الشهد).
كان (ماردودو) آخر من غادر المعبد وهو يتمتم مع نفسه بعد أن أضاع كل ذلك الوقت دون أن يحصل على شيء.. (اللعنة عليكم وعلى انهاركم الآسنة التي لا تروي ظمأ بعوضة.. لقد أطرتم ما تبقى لي من سكرة يوم أمس).. ثم سار بخطى مترنحة وجسد متمايل نحو السوق، كي ينجز مهمته التي أرسلته زوجته من أجلها.... توقف عند أحد باعة الدجاج ناظراً لما احتوته أقفاصه، ثم انتقى دجاجتين وأخذ يتفحص ريشهما ويتحسس خلفيتيها حسب الأوامر الصارمة التي زود بها... وماكد يهم بالسؤال عن ثمنهما، حتى توارد الى سمعه صياحات رجل يروّج لبضاعته.. (احتسوا خمر التفاح المطّيب برائحة السَفرجل، والذي لم تتذوق شفاهكم مثيله من قبل.. لقد خمّرت خصيصاً لأصحاب الأمزجة الطيبة والأرواح المرحة الكارهة للنكد .. كأس واحدة منها ستجعلكم تسافرون بالروح حيث المتعة والنشوة.. اليوم فقط تنالوها بثمنٍ خاص.. جرتين بدلاً من جرة واحدة بنصف شيقل فقط).... بلع بصعوبة ريقه المتيبس مُمرراً لسانه على شفتيه مُتشهياً، ثم راح يَتمطق بفمه الذي كشف عن ابتسامة خبيثة أخذت بالأتساع شيئاً فشيئاً حتى سرقت كل وجهه، بعدها لم يعد يقوى على التفكير، وكل ما قام به أن مد يده الى رأسه مُتحسساً مكان الضربة اليومية المعتادة بمغرفة الحساء.
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع