لا تخفي بعض الدول العربية قلقها من فوز الإسلاميين في مصر، فكان الإعلام الجزائري أول المحذرين من هذه «المؤامرة» والمخطط الأجنبي الذي يهدف إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى في طول العالم العربي وعرضه، وتناول هذا الإعلام باللمز كل المؤسسات والشخصيات المؤيدة لهذا الربيع ومنهم بالتحديد الشيخ يوسف القرضاوي.
بعد هذا دخلت الإمارات العربية المتحدة على الخط من خلال التصريحات اللاذعة والمتدفقة التي يطلقها ضاحي خلفان قائد شرطة دبي منبها ومحذرا من الخطر الإخواني، وربما مبشرا أيضا بقرب انحلال عقد الإخوان وزوال سلطانهم!
وأخيرا جاءت تصريحات العاهل الأردني الملك عبدالله لتؤكد كل تلك التوجسات وتضيف إليها مخاوف أخرى من إمكانية سيطرة الإسلاميين على سوريا الجار الأقرب للأردن.
ربما هناك دول عربية أخرى آثرت الترقب والانتظار وعدم التسرع بإظهار ما تكنه في داخلها من توجس وقلق.
إذاً نحن أمام مشكلة حقيقية تستدعي قدرا كبيرا من الاهتمام والدراسة، وإلا فسنواجه احتمالين أحدهما أمرّ من الآخر، إما استمرار الفوضى في مصر وربما في كل الدول الربيعية، وإما انقسام حاد في الدول العربية بين المحور التقليدي والمحور الربيعي! وهذا الاحتمال هو ما حذر منه العاهل الأردني مؤخرا مشيرا إلى الدور التركي في تكوين محور الربيع العربي.
لا ننسى هنا أيضا الدور الإيراني في إحداث الفوضى، فقد تواترت المعلومات عن لقاءات مكثفة بين بعض أقطاب المعارضة المصرية مع القيادات الإيرانية وربما تلقيها للدعم وعلى أكثر من صعيد.
إن النظام الإيراني عاش لثلاثة عقود متربعا على عرش «الثورة الإسلامية» ويقتات من شعاراتها الثورية والتحررية، لكنه اليوم يواجه منافسين كثرا يوافقونه في الشعارات ويختلفون معه في كل شيء آخر من العقيدة والهوية إلى التاريخ والجغرافيا.
وأكثر ما يتمناه هذا النظام هو فشل التجربة الإسلامية «السنية»، ليس لكي يبقى متصدرا أو محتكرا للإسلام الثوري أو الإسلام المقاوم، بل ليتمدد في الفراغ الكبير الذي سيتركه هذا الفشل ثقافيا وسياسيا وأمنيا، بمعنى آخر ستكون الأرضية متاحة لصناعة النموذج اللبناني أو النموذج العراقي في كل دول الربيع العربي، مما يمهد لإعادة الدولة العبيدية الفاطمية ونظام الحاكم بأمر الله!
أما في حالة نجاح هذه التجربة فالذي يبدو أن إيران تعد العدة للعب في المنطقة الرمادية بين المحورين اللذين أشار إليهما العاهل الأردني، وبهذا السياق يمكن أن نفهم الدوافع الخفية للعرضين المتزامنين الإيراني والعراقي لتزويد الأردن بحاجته من النفط!
لا شك أن إيران ستبحث عن البديل في حالة سقوط حليفها السوري، وإثارة الرعب والقلق المبالغ فيه من الربيع الإسلامي سيفتح لها ثغرات كبيرة، ويمنحها أكثر من ورقة للتفاوض مع هذا الطرف أو ذاك.
أما إسرائيل فإنها لا شك ستكون الأقدر على جني الثمار وبالكلفة الأقل ماديا ومعنويا، كما جنت ثمارها في العراق وأزاحت أكبر قوة تهدد أمنها ومستقبلها دون أن تبذل شيئا يذكر!
إننا إذاً أمام معادلة مركبة ومعقدة غاية التعقيد، ولا شك أنها تتطلب جهدا مكافئا من التحليل والبحث وترتيب الأهداف والأولويات.
إن العمل على إنجاح تجربة الربيع العربي لا شك أنه ضرورة المرحلة وواجب الوقت مهما كانت الإفرازات الأولية والقريبة، ومهما كانت صور المتسابقين والمتنافسين وأسماؤهم الصاعدين منهم أو النازلين، فإن الشعوب ستتعلم من أخطائها وستعيد هي بنفسها تقويم تجاربها وخياراتها، أما لو افترضنا حالة الفشل فإننا سنواجه واقعا آخر لا يمكن التنبؤ بنتائجه الكارثية وعلى كل الصعد والمستويات.
كما أن العمل على استقرار المنطقة في هذه المرحلة وطمأنة الدول العربية التي لم تصلها موجات الربيع العربي إما لأنها قد لا تكون بحاجة أصلا إلى هذا التغيير، أو لأي سبب آخر يعد اليوم ضرورة أخرى لا تقل أهمية عن الضرورة الأولى، خاصة أنه لم يعد من بين هذه الدول من يذكرنا بحالة الظلم والقهر والأحكام العرفية التعسفية التي عرفتها دول الربيع العربي من تونس إلى سوريا، إلا العراق الذي يمر بمرحلة استثنائية وشاذة ولا يمكن تصنيفه اليوم بأي سياق آخر.
إن الدول العربية المتخوفة من الربيع العربي لها ما يبرر تخوفاتها هذه، ومن بينها صعود جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ومكتب الإرشاد في مصر لا يقود العمل الإخواني داخل مصر فقط بل هو المرجعية العليا للإخوان في العالم، إلى جانب أداته التنسيقية المعروفة «التنظيم العالمي للإخوان المسلمين»، وبالتالي فإن وجود تنظيم إخواني في أي بلد عربي سيثير قلقا لدى الدولة وأجهزتها المختلفة، وهذه حقيقة لا يمكن القفز عليها أو التغاضي عنها، فإذا كانت هناك أطراف تستفيد من هذا القلق كما هو الحال بالنسبة لإيران ومشروعها التوسعي، فإننا سنتوقع قلقا مبالغا فيه ومواقف أكثر تشنجا حتى تجاه تلك المجموعات الإخوانية الصغيرة وغير الفاعلة كما هو الحال في بعض دول الخليج.
إن الحقيقة الكبيرة التي يمكن لها أن تبدد الكثير من هذه المخاوف، أن الإخوان لم يصنعوا هم الربيع العربي ولا في أي بلد بل هم تعاملوا معه كواقع ساقته إليهم الأقدار، وبسياق متصل فإن الإخوان في نظر الكثير من الجماعات الإسلامية كانوا مثالا للتصالح أو التعايش مع الواقع مهما كان، وهم في الغالب لا يحبون إثارة المشاكل حتى لو كانت مما تتطلبه آصرة الأخوة والتضامن المشترك، وليس أدل على هذا من سكوتهم المطبق على عمليات الذبح اليومي لدعاتهم ورموزهم في العراق، ومن المفارقات هنا أن رجلا كطارق الهاشمي يستقبل في الكثير من الدول العربية والإسلامية إلا في دول الربيع العربي أو الإسلامي!!
ومع كل هذا فإن الإخوان هم القادرون وحدهم على حل هذه الأزمة وتبديد تلك المخاوف، والأمر لا يحتاج إلا إلى مبادرة جريئة وشجاعة من مكتب الإرشاد تتضمن:
أولا: تصحيح الوضع القانوني للعمل الإخواني، فهناك دول تحضر قوانينها العمل الحزبي والتنظيمي، وبغض النظر عن صوابية هذا القانون أو خطئه فإن من الحكمة إيقاف أي شكل من أشكال التصادم مع القانون، خاصة في الدول التي لا تمنع العمل الإسلامي والدعوي العام.
ثانيا: إعلان الإخوان كمدرسة فكرية وثقافية وإصلاحية أوسع من الدائرة التنظيمية، وأن التنظيم لا يكون إلا في دولة تسمح قوانينها بالتنظيم أو في حالة المواجهة المعلنة كما هو الوضع في غزة، بمعنى أن التنظيم هو أداة لغاية محددة زمانا ومكانا بخلاف الفكر، وهذا هو ما انتهجته المدرسة السلفية وهي تجربة جديرة بالدراسة.
ثالثا: تكثيف التواصل والتعاون مع كل الحكومات العربية لحل الإشكالات العالقة، وعقد الاتفاقيات التي تعزز روح الثقة والتضامن المشترك.
لقد هيأ الله للإسلاميين أن يتصدروا المشهد في أخطر مرحلة انتقالية تمر بها الأمة، وهذه مسؤولية كبيرة بحجم الأمة وتطلعاتها، وستكون لهذه المرحلة انعكاساتها وتفاعلاتها الممتدة في مستقبل الأمة لعقود أو قرون.
لقد جربت الأمة أشكالا من أنظمة الحكم تلتقي كلها أو أغلبها في خيمة «الحل العلماني» الممزوج إما بالشعارات الثورية والقومية وإما بأدبيات التدين التقليدي، وقد ذاقت الأمة في هذه التجربة الويلات القاسية ولمدة قرن كامل، واليوم حينما لجأت إلى «الحل الإسلامي» فإنما لجأت إليه بعد معاناة طويلة ومريرة، وسيرتكب الإسلاميون خطأهم التاريخي بحق الإسلام نفسه إذا لم يكونوا بمستوى المسؤولية
1115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع