د. سيّار الجميل
الحلقة 1 :سيرة مدينة عجيبة
إنّ ما يؤلم حقّاً أن أجد بغداد يتنازع أهلها في ما بينهم نزاعاً طائفياً مقيتاً وقد تحوّلت إلى بيئة موشّحة بالسواد ولا تجد فيها إلا الدماء تقطر في نواحيها ، والموت يرسم جوانبها ، والاشباح المقيتة تتلاعب في ملاعبها .. وما يزيدك ألماً أن تقرأ أساطيرها وجمالياتها عبر التاريخ ، وقد سطّرها كاتب أجنبي لا علاقة له لا بالعروبة ولا بالإسلام ، ولا بالعراق ولا ببغداد نفسها ، وهو يصف تحوّلات حضارة مدينة السلام من اقصى ذروتها الى منحدرها العميق ، أي من زهو حضارة منفتحة إلى ظلمات عصر منغلق يجري فيه الدم .. وأقرأ في الوقت نفسه ، لكاتب عراقي يصف تاريخ العراق بتاريخ المجرمين العبّاسيين !! فلم أستغرب ، ذلك لأنّ المسألة ليست بسيطة في تشويه تاريخ معين او كراهيته من دون سبب ، بل لأن هناك بعض العراقيين ينازعون تاريخ العراق ولا يعترفون بقوته وعظمته لعوامل طائفية أو دينية واضحة ، فما زالوا يؤمنون بالثارات والقبلية والكراهية والانقسامات جراء شعورهم المكبوت بالظلم والأسى .. وأيّا منهم لا يؤمن بوجود تاريخ وطني عراقي موحّد له قيمته الثرة في التاريخ البشري،فهو يلغي من قاموسه كلّ منجزات حضارة العراق إبّان العصور العربية كونه يختلف دينياً وسياسياً وطائفياً معها بالكامل ! وخصوصا مع بغداد المدينة التي سماها ياقوت " سيّدة البلاد " في كتابه معجم البلدان.
بقي كتاب الصحفي والمؤرخ البريطاني جوستن ماروزي Justin Marozzi الموسوم :
Baghdad: City of Peace, City of Blood. أمام مكتبي طويلا ، بعد ان اقتنيته قبل أشهر ، وكان قد نشر عام 2014 وصاحبه رحالة ومؤرخ وصحفي في الصنداي تلغراف .. وبدأت أقرأ كتابه هذا بشغف منقطع النظير ، وهو كتاب موسوعي جديد في تاريخ بغداد باللغة الإنكليزية وقد زوّده بالمصورات النادرة .. وكثيرا ما أجد العراقيين يسمون بغداد بـ " دار السلام " خطأ ، في حين ان الصواب كما ترجمها ماروزي بشكل صحيح عندما وصفها بـ "مدينة السلام"، وهو توصيفها الحقيقي كما سماها مؤسسها العظيم أبو جعفر المنصور ، ولكن بالقدر الذي طمح الرجل ان تكون مدينة سلام بقدر ما غدت مدينة دم احمر ! فالسياسة والسلطة ذبحتا بغداد الحضارة والثقافة على امتداد التاريخ !
ولدت مدينة السلام بعد ان برد حمام الدم، والتأمت جراح الناس اثر القضاء الدموي المبرم في معركة الزاب الفاصلة قرب الموصل على الامويين الذين حكموا 93 سنة بعد اتخاذهم دمشق عاصمة للخلافة التي توسعت على عهودهم لتصل الشرق بأقصى الغرب عصرذاك.. وكان موقف العلويين ( تاريخيا : انصار الامام علي ولم يقصد بهم العلويين النصيرية الذين لم يكن لهم ولا الفرق الباطنية الاخرى أي وجود وقت ذاك ) يزداد نقمة ضدهم مع توالي الايام ، ولما تحالف كل العلويين مع العباسيين على عهد الخليفة الاموي مروان بن محمد وهو آخر خليفة اموي كثرت على عهده الاضطرابات والفتن ، ونجحت الثورة العباسية ضد الامويين الذين ابيدوا عن بكرة ابيهم ، اذ قتلوا جميعا مع كل اولادهم ونسائهم بعد مصرع الخليفة . قام العباسيون بإقصاء العلويين ، فنشب صراع سياسي مزمن بين الطرفين على السلطة ، وترسخ الانقسام السياسي يوما بعد يوم بين السنة والشيعة ليأخذ له جملة ابعاد كبرى لصراع تاريخي طويل الامد .
ولما جاء الخليفة العباسي الثاني ابو جعفر المنصور الى السلطة العليا وكان حاكما للموصل قبل ذلك ، عمل على نقل العاصمة من الكوفة الى عاصمة جديدة سميت " بغداد " وهي تقع على نهر دجلة. وكان الموقع خياراً استقر عليها وحيه لمدينة مدوّرة ، لها مواصفات نادرة نظرا لما تمتعت به من ستراتيجية جغرافية وعبقرية مكان ، فهي تتميّز بجدارتها الجيو ستراتيجية كونها منظومة ستغدو محطة كوزموبولتيانية تتصل برا ونهرا على امتداد بلاد ما بين النهرين، بطول الطريق "السلطاني" إلى الأسواق المتنوعة باقترابها من الموصل والاناضول على طريق الحرير، وصلتها بالبحر المتوسط والمحيط الهندي عبر الخليج العربي ، وتحتضنها الصحارى من الغرب وطوروس من الشمال وزاكروس من الشرق.
وبقدر ما كانت افضل عاصمة في الدنيا إبان العصور الوسطى حضارة وثقافة ، اذ برز فيها العدد الكبير من العلماء والشعراء والفقهاء والقضاة والنقباء والادباء والتقاة والمتصوفة والاطباء والفلاسفة والبلدانيين والطلبة والعشاق والرواة والوراقين والمحدثين والمؤرخين والنقاد والمطربين .. غدت في تواريخ تعيسة من اسوأ مدن الدنيا لكثرة ما عاش فيها من الغلاة والطغاة والمرتزقة والشقاة والمجانين والخلعاء والغزاة والمتطفلين والطارئين والمتهتكين والمهاجرين والداعرين والشعوبيين والبدائيين لتكون علامة تاريخية للسلام والدم معا ، وهو تلميح ذكي للمفارقة التاريخية لثنائية خطيرة تموت وتحيا حتى يومنا هذا ، وكان الناس فيها يتبدلون بغير الناس من متعايشين مسالمين طورا الى اعداء دمويين في اطوار آخرى ، ومن مستنيرين ورومانسيين يعشقون الارض والاساطير والشعر ويحبون الآخرين الى مشعوذين ومعممّين وكارهين ومرضى نفسيين يكرهون انفسهم ويحقدون على غيرهم .. ومن اناس صفاة طاهرين كماء نهر دجلة الى اناس ملتوين كالتواءاته الافعوانية عند بغداد نفسها ..
لنشهد بغداد اليوم وهي مدينة محطمة ومنقسمة ومنكوبة عنوانها الدم والكراهية والموانع المثيرة للاشمئزاز ، وقد غدت اسوأ معقل للكراهية والأحقاد .. تجد ازمانها متلونة زاهية او حمراء دموية قانية ، فمن زمن تعيشه كغانية يعشقها اهلها ، ويكتبون الشعر عنها ويسكرون بخمرها عند ضفافها ويغنون ويرقصون لها وتعيش شوارعها في ازهى حللها ، وكل شارع فيها له نكهته خلال اليوم الواحد ، فشارعا الرشيد والنهر وفروعهما تطغى حيويتهما في النهار .. وشارع السعدون يضج بحيويته وجمالياته واضويته مع اللوكسات في المساء .. في حين يسهر ابو نؤاس في اعماق الليل حيث ضفاف دجلة فتجد انوار القمر تنعكس على لجج موجاته ، وتصدح الميانات والمقامات ، ثم تتهادى ألحان الاغنيات عبر اثيره .. الخ ليذهب الزمن الجميل ويهجم الزمن الكئيب الذي تعيشه بغداد اليوم وهي حزينة ملتاعة وكئيبة .. يكرهها اهلها الجدد الذين لا يدركون قيمتها ، ونحن لا نعرف من اين اتوا ليتعاملوا معها كعجوز شمطاء تصاحبها اللعنة اذ قدموا اليها من مناطق بشعة ، وهم يريدون اغتصابها وسحقها وغسلها كل يوم بالدم البشري .. لقد تغير اهلها بغير الناس وغدا اهلها الجدد يصارعون انفسهم وهم يرجعون اسباب الصراع الى مئات السنين منذ عصور خلت !
ان هذا الكتاب الرائع الذي كتبه ماروزي ، يحدثنا فيه عن بغداد التي كانت دوما منارة علم وادب وسلام ، ولكنها اليوم تعيش استلابا تاريخيا قاسيا من قبل اناس مرضى بالصرع التاريخي وهوس الماضي والامراض النفسية القاتلة للوعي الجمعي . لعل مشكلة اهل العراق الاساسية هي مشكلة تاريخية سايكلوجية صعبة ، فهم يعيشون حياتهم عبر سلاسل من منوال الاجيال واذهانهم مغلقة عن كل العالم ، ولم يفكروا إلا في تاريخ محدد مضى وانتهى قبل اكثر من الف سنة ، بل ولن يشغل بالهم سياسيا إلا استلاب السلطة من اجل الانتقام التاريخي .. في حين تجاوزت الشعوب الاخرى في هذا العالم مثل هذه المشكلة النفسية منذ مئات السنين . ولم يبق لديهم من ذاكرة العصور الوسطى إلا المتاحف والمكتبات والتماثيل والرموز التاريخية والاساطير القديمة ..
لقد سعى المؤلف ماروزي لإحياء سيرة مدينة عجيبة ، لم يكتشفها صدفة كما هو حال عواصم الدنيا ، بل عرفها منذ قرأ في طفولته عن احلام الف ليلة وليلة .. فكان ان عمد من خلال مراجعته لمصادر تاريخية موثوقة وقديمة عن العراق ومركزه بغداد ، وبدأ يقرن ايام ازدهارها الحضاري بأيام ظلامها السياسي اليوم ، وكأنها مدينة اضاعت نفسها مذ أضاع أهلها جثمانها ودفنت في "مقبرة جماعية"!
وأستطيع القول ، ان هذا المؤلف يعد في التاريخ العالمي ، صفحة مهمة في ما سمي بـ "التاريخ المنسي"، فقد كان محاولة جريئة ومخلصة لاستعادة" جزء تاريخ حيوي من ذلك العالم المفقود" لبغداد ، وهي واحدة من اعرق المدن الجميلة التي كان لها تأثيرها الكبير في تاريخ الثقافة البشرية .. وهو " تاريخ " لم يكن يملك عنها إلا القليل. ففيما يخص الناس العاديين، وبخلاف الشخصيات المشهورة، يصطدم المؤرخ بتناقض المواقف منها ومن حكامها وزعمائها الاوائل .. ويقف ازاء صمت النصوص، إذ لا توجد أية كتابات عنهم، فهم أشخاص غير مرئيين البتة . واستطيع القول ، ان بغداد تحمل اليوم ليس اوزار اهلها عنها ، بل ان عواطف اهلها مرتبطة بتاريخها التأسيس الاول .. كيف ؟ هل من مثال تاريخي او أنموذج على ذلك ؟ دعوني استرسل قليلا كي اوضحه لكم .
وللحديث بقية..انتظروا الحلقة الثانية..
1644 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع