سناء صليحة
«لا يمكن للمرء أن ينزل في نفس النهر مرتين،مقولة للفيلسوف اليونانى هرقليطس لها أكثر من دلالة، ليس فقط لأن النهر الذي كان في المرة الأولي تغيرت مياهه، بل الأهم لأن المرء عندما ينزل النهر للمرة الثانية لا ينتابه نفس شعور تجربته الأولي فيتبدل الإحساس ويتلاشي الوهج الأول، وكثيرا ما يصبح للذكري مرارة العلقم.
وفي روايته لقاء في «واحة الحنين» للكاتب أحمد جمال الدين موسى، وبعد فراق أربعين عاما،.يجتمع بعض رفاق الحركة الطلابية من جيل السبعينيات في واحة بعيدة ..يلتقون بعد أن تفرقت فيها بهم السبل وترك الزمن بصمته علي الوجوه والأرواح.. وما بين توتر وخوف وثقل في القلب أحرى أن يجعلهم يهربون من هذا اللقاء، وبين فضول وحنين جارف لماض بعيد ولصور لشباب غض، أو لمصلحة ما يؤمَلون قضائها تحملهم خطواتهم المتثاقلة صوب الواحة المنعزلة ملبين دعوة ، الشكوك التي تحوم حولها تًجب النيات المُعلنة لجمع كوكبة من الطلاب القدامى للاحتفال بذكري جمعتهم ذات يوم ..ثمة هاجس يدفع كل واحد منهم للهروب من اللقاء الثاني لكنهم يمضون إلي قدرهم و كأنهم يسيرون نياما..
فعبر صور قلمية تشكل معظم متن الكتاب يقدم الكاتب مجموعة بورتريهات لطلبة عاصروا الحركة الطلابية في الجامعات المصرية في بداية سبعينيات القرن الماضي، منهم من لعب دورا فاعلا نظرا لتوجهاته الفكرية ومنهم من تحول لبطل بالمصادفة ومنهم من اتخذ من فكرة التمرد وسيلة لتحقيق مآرب شخصية ..والكاتب في صوره القلمية المتتالية التي لا يربط بين أبطالها سوي الزمن والمكان والحدث الجلل الذي جمعهم معا يوم نفد الصبر، فثاروا علي الرئيس أنور السادات مطالبين بإعلان الحرب بعد نكسة 67، لا يصدر أحكاما قيمية علي شخصياته ولا ينحاز لطرف ما.. فعبر الصوت السردي تتجمع تفاصيل الصورة سواء علي المستوي الفردي للراوي أوعلي مستوي الحدث والأجواء التي أحاطت به في سبعينيات القرن الماضي والتغيرات التي لحقت بمصر علي مدي الأربعين عاما الماضية، ومن ثم التحولات التي لحقت بشخصية الراوي وبأسباب الأزمة التي فجرتها الدعوة للقاء في فندق واحة الحنين..
يتحول الهاجس المؤرق لكل شخصيات العمل والذي عبروا عنه بصورة أو بأخرى مع تداعى الذكريات بوصول دعوة حضور اللقاء، لواقع صادم ليس فقط عندما يدرك كل واحد منهم من خلال مرايا الآخرين آثار الزمن علي ملامحه وروحه،وكم تبدو اللحظة الآنية مختلفة عما كانت تشى به البدايات، بل أيضا عندما تلوح في الأفق نذر معركة تتدخل جهات رسمية لمنعها فتطلب من صاحب الفندق والدعوة فض الجمع في أسرع وقت وإخلاء الفندق..
ورغم أن صفحات العمل لا يمكن اعتبارها وثيقة علمية تؤرخ للحركة الطلابية في السبعينيات أو للمتغيرات التي لحقت بالمجتمع المصري عبر أربعة عقود من الزمان أو لأدوار لعبتها القوي السياسية خاصة المتأسلمة علي الساحة المصرية قبل وبعد 2011 (وإن عرضت علي عجالة لبعض من عوامل ظهورها في المشهد منذ السبعينيات)، إلا أنها تتماس مع ذلك الواقع علي مستوي رؤية وتحليل الكاتب الذي لا يستطيع أن ينفصم عن مجريات الأمور ولا الرؤية الضبابية التي تعوق البصر والبصيرة وتهدد بمتاهة وضياع يختارهما الكاتب نهاية لسطور عمله..
فبمجرد مغادرة النزلاء الفندق أو لواحة الحنين التي تحولت لنار سعير، أدرك الجميع أن عليهم الإسراع بالفرار منها حتى قبل صدور الأمر بفض جمعهم، يتم أسرهم من قبل جماعة مجهولة.. الجميع بلا استثناء.. السلفي والسفير والناشط الذي تجمدت أفكاره والحقوقي المتلون والثائر الذي تحول لمتحدث ومبرر للنظام و.. و.. الجميع ضاعوا في الصحراء مخلفين وراءهم أكثر من علامة استفهام تتجاوز التساؤلات التي يعبر عنها مدير الفندق الحائر. فالنهاية المفتوحة التي اختارها الكاتب لحكايات مجموعة من البشر، تمثل التضارب النفسي والمادي والتيارات التي يموج بها مجتمعنا، لتبدو شخصيات العمل أشبه بسفن تُبحر في الحياة علي غير هدي بعد أن اختارت بإرادتها أن تحطم بوصلتها، وإن ادعت عكس ذلك، تشي بتساؤلات يتركها الكاتب لقارئه الحصيف الذي يدرك أن النهاية مرهونة بالعثور علي إجابات، من المؤكد لن يكون مكانها واحة الحنين والأوهام أو جهنم تمرح فيها أشباح الماضى..
1344 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع