بين حرية التعبير والتزام التقاليد الأكاديمية

                                             

                           د. منار الشوربجي


ضجة كبرى أثارها قرار جامعة برانديز الأميركية، الذي تراجعت فيه عن منح درجة الدكتوراه الفخرية لإيان هيرسي علي، صومالية الأصل، بعد أن كانت الجامعة قد دعتها لحضور حفل التخرج منتصف مايو المقبل، لإلقاء الخطبة الرئيسية والحصول على درجة الدكتوراه الفخرية.

وكانت الجامعة قد تراجعت بعد أن وقع 85 عضواً من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة البالغ عددهم 350، على بيان موجه لرئيس

الجامعة دعوه فيه لامتناع الجامعة عن منح الدرجة للسيدة هرسي علي، وبعد أن قام الآلاف من طلاب جامعة برانديز وغيرها من الجامعات في ولاية ماساتشوستس، بالتوقيع على التماس يطالب بالشيء نفسه. وإيان هيرسي علي، شخصية مثيرة للكثير من الجدل منذ أن تركت بلادها في التسعينات، وبدأت العمل العام في أوروبا ثم أميركا، على أساس من العداء ليس فقط للمسلمين وإنما للإسلام نفسه. فهيرسي علي من أصول صومالية مسلمة، تقدمت بطلب للجوء السياسي إلى هولندا، فحصلت عليه وعلى الجنسية الهولندية عام 1992.

وهي كانت قد بنت طلبها للجوء والهجرة على أساس كونها امرأة مضطهدة في مجتمع مسلم. فهي مضطهدة حتى من جانب أسرتها المسلمة ومن جانب الثقافة الإسلامية السائدة، وتريد الهرب من زيجة مفروضة عليها من جانب الأسرة.

وحين خرجت هيرسي علي فعلاً من الصومال (أو بالأحرى من كينيا كما تبين لاحقاً)، حكت «قصتها الشخصية» وهي في هولندا، فقالت إنها تعرضت للتعذيب وهي في الخامسة من عمرها، عبر عملية ختان أجرتها لها عائلتها، وأنها أقدمت على الهجرة هرباً من زيجة فرضتها عليها الأسرة، وهو ما كذبته أسرتها لاحقاً بالمناسبة.

وقد أعلنت هيرسي علي ارتدادها عن الإسلام، وصارت من أكثر المحذرين من المسلمين المهاجرين إلى الغرب، بل ومن الإسلام نفسه.

وكان من الواضح أن طموح هيرسي بلا حدود، فانطلقت تدخل عالم السياسة وانضمت لأحد الأحزاب الهولندية، ثم خاضت الانتخابات البرلمانية على قوائم ذلك الحزب، ففازت بعضوية البرلمان بالفعل. لكن هيرسي سرعان ما وجدت نفسها في مشكلة كبرى. فقد تبين في عام 2006، أنها كانت قد زورت في وثائق الهجرة، حيث قدمت في وثائق الهجرة اسماً مزوراً وتاريخ ميلاد مزوراً هو الآخر.

ليس هذا فقط وإنما أوحت أيضاً بأنها تعيش في الصومال وسوف تهاجر إلى هولندا من هناك، بينما كانت في كينيا وقت أن تقدمت بطلب الهجرة إلى هولندا. وقد أدى ذلك لمشكلة كبرى لحزبها في البرلمان، كانت ضمن أسباب عدة لانهيار ائتلافه وقتها، وأدى لاستقالة هيرسي من البرلمان والحزب، وأعلنت وزيرة الهجرة وقتها سحب الجنسية منها ثم تراجعت.

لكن قبل أن تتراجع الوزيرة، كانت هيرسي قد بحثت لنفسها عن موطن بديل، ووجدت ضالتها في الولايات المتحدة. وما هي إلا سنوات ثلاث بعد رحيلها، حتى تم سحب الجنسية الهولندية منها بصفة نهائية.

وقد انتقلت هيرسي إلى الولايات المتحدة، حيث التقطها مباشرة المحافظون الجدد، فعملت في معهد إنتربرايز إنستيتيوت «كباحثة» في شؤون الإسلام! وراحت تصدر الكتب وتلقي المحاضرات، سواء باسم المركز أو من دونه، في طول البلاد وعرضها.

وهيرسي لا علاقة لها طبعاً بالبحث العلمي، وإنما هي صاحبة موقف أيديولوجي. فهي ترى أن المشكلة تكمن في الإسلام ذاته، فقد قالت مثلاً: إن «العنف جوهري في الإسلام، فهو عبادة موت مدمرة وعدمية، وهو يعطي الشرعية للقتل..

والمعركة ضد الإرهاب سنخسرها في النهاية، ما لم ندرك أنها معركة ليست فقط مع العناصر المتطرفة في الإسلام، ولكن مع الإسلام نفسه». وهي أيضاً ترى أنه «لا يوجد ما هو معتدل في الإسلام»، وتعتبر أن «الإسلام هو الفاشية الجديدة»، وتقول: «أعتقد أننا في حرب مع الإسلام، ولا بد من هزيمته».

ومثل ذلك النوع من الخطاب السطحي الأيديولوجي الذي لا علاقة له بالحقيقة ولا بالعلم، كان الأساس الذي دعا أعضاء هيئة التدريس والطلاب في جامعة عريقة مثل برانديز، لأن يتصدوا لتكريم هيرسي بالدكتوراه الفخرية. وبالفعل استجابت إدارة الجامعة لندائهم، وأعلنت إلغاء منحها الدرجة، واعترفت بأنها لم تكن تعلم الكثير عنها قبل الإعلان عن منحها درجة الدكتوراه الفخرية.

وبمجرد صدور بيان الجامعة، أقام اليمين الأميركي، وخصوصاً المحافظون الجدد، الدنيا ضد الجامعة واتهموها بالوقوف ضد حرية التعبير. والحقيقة أن ما قالته جامعة برانديز في بيانها ينفي عنها الوقوف ضد حرية التعبير.

فالجامعة لم تمنع هيرسي علي من إلقاء محاضرة فيها، بل على العكس دعتها لذلك صراحة في بيانها، فما امتنعت عنه الجامعة كان فقط منحها الدكتوراه الفخرية. وبيان الجامعة قال نصاً: «نحن نحترم ونقدر عملها للدفاع عن حقوق المرأة والفتاة حول العالم.. ولكننا لا يمكننا غض الطرف عن عبارات قالتها في الماضي، لا تتسق مع القيم الجوهرية لجامعة برانديز..

وهي مرحب بها في حرم الجامعة في المستقبل، لندخل معها في حوار حول تلك القضايا المهمة». ومن الواضح أن الجامعة تعتبر نفسها، ككل الجامعات، مكاناً للبحث الحر عن الحقيقة والحوار بشأنها، عبر السعي للوصول للمعلومات الصحيحة، لا ترديد الأكاذيب دون دليل.

والجامعات لا مكان فيها لمن يدعو إلى حرب مع دين يدين به الملايين حول العالم، ويستخدم التعميم والصور النمطية واليقينيات، في الحديث عن دين وعن كل أتباعه عن بكرة أبيهم. فتلك كلها أمور مناهضة لما تقوم عليه القيم والمعايير الأكاديمية أصلاً.

ما فعلته جامعة برانديز من توجيه الدعوة لهيرسي لدخول الجامعة وإلقاء محاضرات عامة في المستقبل فيناقشها الجميع في ما تقول، مع الامتناع عن منحها الدكتوراه الفخرية، هو في تقديري التوازن بين حرية التعبير من ناحية، واحترام التقاليد الأكاديمية من ناحية أخرى.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1212 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع