القدس العربي/ يوسف يوسف:لم أكن قد قرأت شيئا للباحث والأثنولوجي اليهودي إريك باور قبل كتاب 'يهود كردستان' (*). وهذا الكاتب كما يبين رافائيل باتاي في التقديم إلى الكتاب، أحد أبرز الباحثين اليهود في مجال الأثنولوجيا (علم دراسة الانسان ككائن ثقافي) خلال سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي.
ولربما لهذا السبب قام باتاي صاحب الكتابين الشهيرين 'العقل اليهودي' و'العقل العربي' بإعادة الحياة كما يقول إلى كتاب باور، الذي ما كان له أن يرى النور لو لم يكمله باتاي ويصدره بنفسه. صحيح أن نظرة الاعجاب بجهود إريك باور كما يبدو كانت دافعا قويا لباتاي، إلا أن هذا اليهودي ذا النزعة الصهيونية المتطرفة إنما وجد في الكتاب وفي الحدود التي تناقشها كتاباته (الأنثروبولوجيا) ما يدعم مشروع الدولة اليهودية والبحث عن هوية يمكن لليهود أن تلتئم جموعهم المتناثرة حولها، وهم القادمون إلى الدولة من أصقاع وبيئات وثقافات لا يجمعها رابط سوى الدين. وفي معنى آخر فإن باتاي الذي اتجهت جهوده قبل تأثره بصاحب هذا الكتاب نحو البحث في الفولكلور التاريخي لما يقول عنها أنها حقب الكتاب المقدس والتوراة، سرعان ما اتجهت اهتماماته لدراسة الأنثروبولوجيا المعاصرة لأقوام الشرق الأوسط وللمجتمعات اليهودية باهتمام أكبر، وهي الاهتمامات التي دفعته لتأليف الكتابين سابقي الذكر اللذين أثارا حين صدورهما ضجة كبيرة، لما فيهما من الرأي المتطرف والافتراء الكبير على العقل العربي، في مقابل ما يسبغها باتاي من الصفات الحسنة لعقل اليهود الذين يجمع مؤرخون وباحثون كثيرون غربيون وشرقيون على حد سواء، بأنهم إنما عاشوا كمجموعات هامشية وسط الشعوب غير اليهودية في هذا البلد أو ذاك، حتى وإن كان كل من باور وباتاي قد وجدا في يهود كردستان الجذر الذي يمكنهما الحديث عنه، باعتباره أحد الجذور التي ستقوم عليها أسطورة الدولة التي سوف تقوم بسرقة وجودها من ضمير التاريخ الذي إن لم يكن لليهود فيه وجود مؤثر، فإن باتاي الذي أعاد الحياة لكتاب إريك باور بعد كل تلك السنوات التي انقضت على موت الرجل، سيعمل من أجل تزيين صورتهم، وهو يبحث لهم عن هوية ووطن، بعد أن نكون قد رأيناهم في هذا الكتاب الذي ليس هو من كتب السيرة أو الرواية أو غيرهما مما يرتبط بالقص وعالمه، يعيشون في تميز واختلاف عن بقية الكرد من الأكثرية المسلمة كما يسميها، بالنظر إلى أكثر من دالة في مقدورنا رؤيتها بوضوح، على الرغم من الانتقادات التي تقدم لهم هنا وهناك في صفحات الكتاب، والتي سرعان ما تجد تبريرها من خلال إلقاء تبعة ذلك على جيرانهم المسلمين. يقول باتاي في التقديم إلى الكتاب على سبيل المثال 'إن مزودي باور بالمعلومات (كما كانت الحال معي لخمس سنوات بعد ذلك) أوضحوا بجلاء أن اليهود الكرد في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، كانوا يتعاملون مع بعضهم البعض بفظاظة وخشونة وعنف سواء في الجد أو الهزل، فالقوي يضرب الضعيف، والمتنفذ يضرب من هو أدنى منه، والمعلم والوالدان يضربون التلميذ، والنساء يضربن من قبل بعولتهن .. هكذا كانت الحال، والسرقة والتخريب اللذين تحرمهما التقاليد في العادة، كانا من الأمور العادية، وباتت متعة اليهود الكرد منصبة على الجنس والدعارة، وقد انتقل البعض من هذه العادات مع المهاجرين إلى إسرائيل'. ويظهر التبرير الذي يبرئ فيه باتاي بني ديانته على النحو التالي 'وبما أن اليهود كانوا قلة والمسلمين الكثرة، فيمكن أن نتوصل إلى استنتاج أن هذه السمات التي اتسم بها اليهود الكرد ظهرت كنتيجة لتأثيرات البيئة الثقافية التي تشربها اليهود عن الغالبية المسلمة. أي بمعنى آخر فإن لدينا مجتمعا يهوديا تشرب بهذه الصفات الغريبة جدا عن طبائع اليهود من البيئة الاجتماعية غير اليهودية التي عاشوا ضمنها لأكثر من ألفي سنة'.
يقع الكتاب في ستة أقسام. وباستثناء ما يعدها باتاي من النواقص كغياب فصل خاص باللغة، وآخر خاص بالموسيقى اليهودية وغيرهما خاص بالنظام العقائدي لليهود الكرد، إلا أنه يعتبر من الوثائق الهامة التي يمكننا أن نطل من خلالها على الكثير من جوانب حياة اليهود الكرد. وعلى الرغم من الملاحظات التي يمكننا الاشارة إلى أهمها كالتعصب لأبناء الملة، والتحامل على الآخر المسلم، والاكتفاء بالاعتماد على عنصر السماع وعدم المعاينة، وهي من الأمور التي تضعف المنهج وتسحق حيادية ونزاهة الباحث، إلا أنه مما يثري ويضيف لما عند الواحد منا من الخزين المعرفي حول اليهود عموما ويهود كردستان بشكل خاص. صحيح أنه من الصعب وضع حدود تفيد في معرفة ما أنجزه كل من باور وباتاي، إلا أنهما كليهما في ورشة كتابتهما المشتركة، قدما لنا درسا في كيفية ظهور الهويات، ومثله في كيفية تحقيق الانبعاث من تحت الرماد، لتأسيس دولة من العدم، وفي مكان آخر سوء الذي عاشت فيه المجموعات اليهودية باستثناء الفلسطينية منها، وهو المكان الفلسطيني، الذي سيحمل إليه كل من باور وباتاي الفرد اليهودي الذي عاش كما يقول باتاي منذ أكثر من ألفي عام في كردستان، حتى وإن كانت الهجرة من المكان الأصلي إلى الآخر الموعود توراتيا قد وقعت قبل طباعة الكتاب وظهوره للوجود.
سوف نقرأ في المحتوى عن تاريخ اليهود الكرد، وعن تراثهم المادي، والآخر الروحي. وسنقرأ عن العائلة اليهودية وخصائصها المميزة لها عن غيرها. سنقرأ حول الزواج والوفاة وطقوسهما. أيضا سوف نقرأ عن اليهود المزارعين، وعن التجار منهم. سنقرأ الكثير مما يرتبط بأنثروبولوجيا هذه المجموعة من الكرد ذات الديانة اليهودية، وعن الأعياد وما يرتبط بمختلف جوانب تراثهم الثقافي. وفي صريح العبارة فإن رافائيل باتاي الصهيوني إنما يقدم الدرس البليغ أيضا وبالنظر إلى عمله في مواصلة جهد باور الذي مات كما أشرنا قبل أن يكمل الكتاب، لكل من يسعى لمعرفة الكيفية الأفضل للمحافظة على التراث من طغيان الآخر، ولن يضعف من قوة تعصبه لصهيونيته استشهاده برأي لهذا أو ذاك من الرحالة الذين جابوا أرض كردستان وكتبوا عن اليهود الذين شاهدوهم، فذكروا عيوبهم ومساوئهم الكثيرة، كمثل ما يأخذه عن الظاهري في وصفه ليهود كركوك الذين قال عنهم بأنهم رجال خطيئة خليعون فاسقون، وكمثل ما يأخذه عن بنيامين الثاني الذي يقول في يهود بارزان : إن الجهل الذي يعانيه إخواننا اليهود هنا كبير لدرجة أنهم لا يقدرون معه على تلاوة صلواتهم. وعليّ الاقرار هنا متألما، بأني لم أرهم في أي مكان في مثل هذا الوضع المزري غارقين في مثل هذا الفساد الخلقي، كما رأيتهم هنا.
إنها عبارة بليغة هذه التي يقدمها مؤلفا الكتاب : لكن اتجاهات هجرة اليهود متنوعة، فاليهود الكرد (وهو ما علينا تأكيده) ليسوا بشعب متجانس، بل إنهم جاؤوا إلى كردستان في موجات عديدة.
هي بليغة لأنها في جانب منها تؤكد صواب ما أشرنا إليه. وعلى أية حال، فقد اعتاد الكتاب اليهود وباتاي وباور من بينهم على تحويل اللاتجانس إلى تجانس، كما هي الحال في تحويلهم الأرض المليئة بسكانها الاصليين من الفلسطينيين إلى أخرى بلا شعب، تنتظر من يملأها ويحقق فيها تجانسه الذي لا نعتقد بأنه سيتحقق تماما بحيث يصبح على غرار ما هو عليه التجانس عند غيرهم من الشعوب، وهو ما ينذر بزلزال سوف يحدث، إن لم يكن في وقت قريب، ففي زمن لا بدّ ان يأتي.
(*) يهود كردستان، إريك باور، أعاده وأصدره رافائيل باتاي، ترجمة : شاخوان كركوكي وعبدالرزاق بوتاني، دار ئاراس للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 2009
' شاعر وناقد من العراق
1080 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع