كامل الزهيري..الشاعر الذي يبحث عن روح القصيدة
عبدالرضا غالي الخياط / خاص الگاردينيا
تتباين صور الإبداع وتتلون بألوان الطيف لتظهر نماذج جديدة زاهيةً تعكس روح المحبة والتفاني والوئام، ومدى التلاحم والعطاء من اجل خلق تقاليد تؤطر واقع الحياة والثقافة العراقية لكي تزدان الأيام بأحداثها من أجل رفعة هذه البلاد الغنية بتاريخها الأصيل الضارب بعمق الحضارة الإنسانية . وكالعادة ومن هناك..من جنون القلب المعفر بأغاني الحبيبة ومواويل الأمهات المفجوعات بأكبادهن من الأحبة والأولاد والأصحاب. ومن نكهة العمر المكتنز بإسرار الحياة منذ بدء الخليقة ومن بدايات الاستشراف الرابض عند تلك التخوم البعيدة التي لاتبوح بإسرارها قط إلا للشعراء، فهم وحدهم المخولون بالاقتراب منها..ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه في هذا التقديم هو ذلك الشاعر السومري الأصل والمنبت، العراقي الهوى والحلم والمكان، صاحب الحضور الجميل، والموقف الأصيل الذي أنشدنا أغانيه، المسكون بهاجس الشعر ووجع الوطن الجريح، الشاعر الغنائي كامل الزهيري. الذي نقدمه غصناً اخضر لوعد قطعناه منذ ان قرأناه شاعراً مثقفاً وإنساناً طيب القلب، نقي السريرة. فقد أصدر ثلاث دواوين شعرية، الأول جاء بعنوان ( أناجيكِ) 2013، الذي يقول في أول قصيدة له من الديوان،( نحن وهُمْ / هُمْ / منذ بداية التاريخ / منذ هابيل وقابيل / وآلاف العصور/ حاولوا / أن يطفوا ضوء النهار / وأراهم قد بنوا / بين المحبة والمحبة / ألف مليون جدار / وهواهم كله / حب الدمار / وبقايا من شعور / هو تأريخ من العار والشنار / ولهاث وسعار / ما استطاعوا / يحجبوني / فأنا شعلة / نور / منذ آلاف العصور / والهوى / ألبسني أكليل غار). نجد هنا الشاعر يطرح حقيقة لا مراء فيها ولا يمكن لأحد ان ينكرها لما للعراق من مكانة ضاربة في عمق التاريخ والحضارة. كما نقرأ له من نفس الديوان المشار إليه، قصيدة فيها شيء من الحب والعتب،( سأبقى أنادي / وبين المرايا / وبين الحنينْ / دوامات عشق / وسرٍ دفينْ / وعهداً تولى / وصوت الأنينْ / و وصلاً شحيحاً / ويوماً حزينْ / سأبقى أنادي / ولا تسمعينْ ). ومن قصيدة له أيضاً من نفس الديوان نجد الشاعر في موقف حائر لا يحسد عليه، يخاطب حبيبته إذ يقول،( من أنتِ / أناجيكِ أناجيكِ / ومن أنتِ فلا اعلم / ألا يا قلبي المسكين / هل من حبها تسلم / ذبولاً في حنايا الروح / أخافَ عليكَ أن تندم / وبات الفكرُ مشغولاً / وهذا الدمعُ قد سالَ / أقاويلُ أقاويلُ / وصار الصحبُ عذالاً / مراسيلُ من الشوق / ومرسالاً ومرسالاً / ولا رداً ولا خبراً / ولا أدري و لا أفهم / فهل إني على وعيي / تُرى أم أنني أحلم ). والمجموعة الشعرية الثانية جاءت موسومة بعنوان ( وجهكِ عامي الجديد ) 2015، حيث نقرا له في هذا الديوان قصيدة تصور حالة ما آلت إليه بعض مدن البلاد بفعل الذين يتصدون سدة الحكم وزمام الأمور.( أما من ضميرٍ / يهز الشعورَ / أما من صهيلٍ / لنحفظ فيه ماء الوجوهِ / أما من ضميرٍ/ أم هل ْ تراهْ غابَ وولى / وأصبح مثل بقايا قشورٍ / تراه أم عملة نادرة / وتلك المآسي / وكل الأفول / أتلك الروابي / وتلك السهول / وهذا النخلُ / وهذا الفراتُ / تراهُ يصيرُ ؟ / بحكم الزنيمِ / وما أرضعته سوى عاهرة /. وفي ديوانه الثالث خط على غلافه ( الكتابة على جدار القلب) 2015، والذي صدره بإهداء قيم ينم عن وعي بقيمة وأهمية الإنسان في المشاركة الفعالة ودوره في ترسيخ منظومة القيم والعلاقات الإنسانية في الوجود والحياة. حيث نقرأ له في هذا الديوان قصيدة تؤكد ما ذهب إليه الإهداء بوعي عميق راسخ،( إلى كل إنسان يشعر أنه ينتمي إلى فصيلة الإنسان ولا يضع فوارق بينه وبين بقية أخوته من البشر. وإلى أمي وأبي منكما تعلمت حب العراق.) حيث يوجد فيه هذا الكون العظيم الذي يكنى بالعراق. وهي قصائد معظمها تتوزع على هموم الوطن، متوقفاً عند بعض حالاته التي تعيش التمزق والانقسام القسري من قبل أعداء الله والحياة والجمال، ومثال ذلك قصيدته التي يقف بها عند أم الربيعين جوهرة العراق وسوسنه الشمال الحبيب،( أم الربيعيين ياجرحاً تصاحبه / كلّ الجراح وفيك الجرح يبتسمُ / يالوعة التاريخ يا ثقلاً ينوء بهِ / كل العراق اليوم قد صار مٌقتَحَمُ / هذا الذي يهواكِ يا احلى فاتنةٍ / يخشى عليك اليوم في الحبِّ يُقتَسمُ / تلك الذئاب الكشَّرت أنيابها / لم يكفها ما فاتَ تسعى لتنتقمٌ / في حقدها الملعون نارٌ مسعرةَ / قد تنجحُ اليومَ في غدرٍ أعُّد لها / لكنها والله حتماً ستنهزٍمٌ ). كما نقرأ له من نفس المجموعة قصيدة مقفاة طويلة يستحضر فيها تاريخ بطولات الجيش العراقي، نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر بعض الأبيات،( الشعب شعبي والقرار قراري/ هيا استفيقوا ثلة الشرار/ هذا العراق جميعنا أبناؤه / والدار واحدة وذاكَ شعاري/ ما غركم تتطاولون أنا هنا / ثابت ٌ ومكللُ بفخاري / هذا ترابي طاهرُ فلتعلموا / أن مسهُ سوءُ أريكم ناري) إلى ان يُذكر الآخرين بحقيقة ثابتة إلا وهي وان تغيرت بعض الأحوال بفعل العدوان وما جرى على البلاد من مصائب وشجون وأحزان،( أنا أمة وعلى الزمان عصية / والأرضُ أرضي مُنجَم الثوار / مَّرت خطوبُ أثقلتُ ليّ كاهلي / لكن بقيت منارة الأحرار / أنا جيشَ تشرين وكم يشهدُ ليّ / هل تحلمونَ اليوم أخذ الثأرٍ / أم تدَّعونَ الآنَ دينَ مَحَمَّدِ / دين النَّبيَّ الطاهر المُخْتارِ/ كلا وكلا أنتمً ألعوبة / بيدِ الصغار وجوقةِ التجّارِ / أنا أبن هذا البيتِ صنو جبالهِ / ومصاحفاً ثلجي سما ذي قاري / ونخيلُ جنتنا يجودُ بحملهِ / فليفتدي النخلُ ربى الأنباريِ / لا نينوى تنأى ولا منأى لنا / هي خطوةُ والويلُ من أعصاري ). وما بين الهم الوطني لبلد جريح مازال لليوم ينوء تحت جراح فرضت عليه من كل ناحية وصوب، بعد ما عبثت به الكلاب السائبة التي ادخلها المعتوهين والمزورين ممن يتاجرون بالقضية الوطنية.. وكثيراً ما يقدم لنا الشاعر ما يشبه السرد الشعري لحكاية العشق، سواءً عشق الحبيبة أو ما يجسده بصورة عشق الوطن، التي يترجمها في أبيات حولها إلى خزان مشاعر حب فِّياضة وأحاسيس شفافة، رسم الحبِّ لوحة من رغبات وحالات مختلفة تعكس مدى عمق التجربة وسعة الآلام، وبأسلوب يرتكز على الصور الشعرية الرقيقة ذات الوضوح البين، فمازال الشعر إحدى المحطات التي يقف عندها الشاعر ويدخل من بواباتها ليقرأ ثنائية الحياة والموت..حينما يكون البقاء في الحياة الدنيا مرهوناً بالإنسان الفاعل والمحرض على فعل البنّاء والخير. والخلود بعد الموت بفضل ما يقدمه من فعل حسن يرتكز على أحقيقة إنسانية الإنسان. محاولاً فك رموز جدلية الوجود والبقاء، والعبث والعدم، متبصرا دوائر الصراع المحتدم الذي ما أنفك من أن يأخذه إلى حافته الصادمة، مجبراً إياه في اغلب الأحيان الخوض في معترك الصراع القائم، من أجل الثبات على موطئ قدم واثبات موقفه المنبثق عن رؤيته للكون والحياة والآخرين. فالشاعر هنا وان كان محاصراً لايملك من سلاح غير أدواته الشعرية. يحاول جاهداً الدفاع عن روح الحياة والجمال، وما يفيضان به من بهجة ومسرة وعلائق حميمة تربطه بروح الأرض والآخرين..وقد لايستطيع غير الشاعر العراقي الحقيقي ان يعرف حقاً سر إلام القلوب وكنه الأحزان التي تعتصر وحدها أرواح من أصابها ذلك الوجع والحزن.. فإن الطائفية لم تجد لها مكاناً في سجايا العراقيين الخلص، ولا في ديانتهم وان اختلفت مذاهبهم ومشاربهم العامة، وان التعصب قد ذاب بالمرة من نار الجروح. وجميع الذين آمنوا بالعراق أصبحوا عائلة واحدة، ثم ان الاختلاف في الطباع والتوجهات أمر يحدث الاختلاف حيث حرية التفكير وحرية الرأي. الحرية جزء لا تتجزأ من الطبيعة الكونية. فإنسانية بلا حرية تكاد لا تستحق ان تكون إنسانية. لكن ظاهرة الخلاف والاختلاف بين الناس بسبب ما يتمتعون به من الحرية الفردية والتغيير في الطبائع لا يعني التخاصم أو النزاع بينهم. يجوز ان يختلف الناس فيما بينهم في الرأي أو في أسلوب الحياة، أو في تناول الأشياء والنظر إليها، لكن تظل هناك وحدة في الأمور الجوهرية. وهناك قول جميل وصادق يصور هذا الوضع الذي نعيشه : ففي الأمور الجوهرية وحدة. وفي الأمور الثانوية حرية. وفي كل الأمور نجد المحبة. فإن بين العراقيين المؤمنين بوحدة العراق، على اختلاف مذاهبهم، وحدة لا انفصام منها في حب العراق، وهو محط الأنظار وسيظل كذلك في نظر أبناءه النجباء. وان كان الحزن يخيم على قلوبهم النقية. حسبك شاهدت ( ساحة التحرير ) في قلب العاصمة بغداد وما احتشد فيها من الناس على اختلافهم وتعدد مشاربهم وتنوع طوائفهم وقومياتهم، عدا المدن العراقية الأخرى التي كانت تزدحم هي أيضاً باللذين يطالبون بأحقيتهم في العيش بالحياة الكريمة والملاذ الأمن، فقد كانت الجموع حاشدة أحيانا بشكل يصعب ضبطه..وقد عبر الشاعر في بعض قصائده التي هي بين دفتي ديوانه الأخير ( الكتابة على جدار القلب ) والتي لم يتسنى لنا ان نذكرها هنا خشية الإطالة في الموضوع، فقد جسدها في معظم قصائده المغناة في حب الإنسانية والوطن والإنسان.
717 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع