عجز العراق الغني بالنفط عن حسم مشكلة نقص الطاقة الكهربائية التي يواجهها منذ سنوات طويلة وتتسبب في غضب شعبي من حكوماته، لا يمكن تبريره بأي عوائق مادية أو تقنية، حيث يبدو السبب الرئيسي سياسيا متعلّقا بوجود قوى ذات نفوذ في الدولة تعرقل تحقيق أي تقدّم في الملف حرصا على استدامة تبعية البلد في مجال الكهرباء لإيران التي ترتبط بها تلك القوى بعلاقة ولاء وتبعية.
العرب/بغداد- أبرزت أزمة الكهرباء التي يواجهها العراق في فترة الشتاء هذه المرّة خارج الزمن المألوف للأزمات المماثلة التي دأب على مواجهتها صيفا، إلى الواجهة مجدّدا قضية ارتهان البلد الغني بالنفط للغاز الإيراني في توفير الكهرباء لسكانّه بشكل منتظم، وذلك لأسباب سياسية بعيدة عن أي عوامل تقنية أو مادية حقيقية.
ومع طول أمد الأزمة وتكرارها منذ سنوات طويلة وتفجيرها موجات غضب شعبي، تكرّرت المطالبات بتقليص الاعتماد على الغاز المستورد من إيران في تشغيل محطات التوليد، وكان من بين المطالبين بذلك خبراء وتقنيون اقترحوا حلولا عملية من بينها استخدام الغاز المصاحب لاستخراج النفط الخام في توليد الطاقة بدل حرقه وإتلافه، وتجديد شبكة نقل الكهرباء المتهالكة بالكامل، لكنّ مثل تلك المقترحات لم تجد طريقها للتنفيذ من قبل الحكومات العراقية المشكّلة أساسا من أحزاب وفصائل شيعية ذات ارتباطات وثيقة بإيران وحريصة على تأمين مصالحها وحماية نفوذها في البلد.
ويقول منتقدون للسياسات الحكومية العراقية في مجال الطاقة الكهربائية إنّ شخصيات نافذة من تلك الأحزاب والفصائل كثيرا ما عرقلت تنفيذ مقترحات لإصلاح القطاع بدعوى عدم جدواها وارتفاع تكلفتها، وذلك بهدف الإبقاء على خيار استيراد الغاز من إيران والذي يستخدم من قبل الأخيرة كسلاح للضغط على بغداد في مسائل سياسية وأيضا اقتصادية ومالية من بينها إلزامه بعدم تطبيق العقوبات المفروضة على طهران من قبل الولايات المتّحدة الأميركية ومواصلة غض سلطاته النظر عن تسرّب جزء من المبالغ بعملة الدولار التي تحصل عليها بغداد من واشنطن، بطرق ملتوية إلى الساحة الإيرانية.
ومع دخول فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة وارتفاع الحاجة للطاقة الكهربائية، باتت السلطات العراقية إزاء أزمة كهرباء جديدة جرّاء التقليص الحادّ في كميات الغاز المستورد من إيران.
وتمّ بادئ الأمر تقديم سبب تقني متمثّل في وجود أعمال صيانة لبنية استخراج الغاز ونقله، لكنّ مصدرا حكوميا وصف الأمر بأنّه عبارة عن عدم التزام إيراني بحصص التوريد المتّفق عليها مسبقا.
وتمّ قبل يومين الكشف عن خروج ثلاث محطات كهرباء هي بسماية والصدر والمنصورية عن الخدمة بسبب انحسار امدادات الغاز الايراني الأمر الذي أثّر على تزويد عدد من مناطق المحافظات الوسطى بما في ذلك العاصمة بغداد.
وقالت وزارة الكهرباء العراقية في بيان إن الجهات المختصّة بادرت إلى تنفيذ خططها الاستراتيجية والطارئة لرفع قدرات المنظومة الكهربائية الوطنية بجميع قطاعاتها، إنتاجا ونقلا وتوزيعا، وإعادة العمل بالمشاريع المتوقفة منذ سنوات عديدة لاستحصال طاقات توليدية كانت ضائعة وغير مستغلة لتحسين الإنتاج ورفع معدلاته بما يناسب واستقرار الإمداد بالطاقة، معتمدة في ذلك على جزء من تشغيل محطاتها الإنتاجية بالغاز المحلي وجزء آخر بالوقود المحلي وآخر بالغاز المستورد، ريثما تكتمل مشاريع الحكومة العاملة على تأهيل حقول الغاز الوطنية.
كما دعا البيان المواطنين إلى “مراعاة الظرف الخارج عن السيطرة والمحافظة على الأحمال لحين إكمال أعمال الصيانة ومعاودة ضخ الغاز بالكميات المطلوبة.”
وبعد تقديم ذريعة الصيانة لتبرير انحسار إمدادات الغاز الإيراني لم تتأخر المواقف الحكومية الغاضبة من السلوك الإيراني في التسرّب كاشفة عن أن وراء تقلص إمدادات الغاز أسباب أخرى غير السبب التقني.
ووصف مسؤول حكومي قرار تقليص إمدادات الغاز الإيراني بأحادي الجانب، موضّحا أنّه جرى بشكل مفاجئ ومخالف للعقد المبرم بين بغداد وطهران ومشيرا إلى أنّ السلطات العراقية طالبت الجانب الإيراني بالالتزام الفوري ببنود العقد، وموضّحا أن وزارة الكهرباء “تحتفظ بكامل حقوقها التعاقدية.”
ونقلت وكالة شفق نيوز الإخبارية المحلية عن المسؤول قوله إن “الوزارة على الرغم من مسعاها المتواصل للنهوض بقطاع الطاقة الكهربائية وتنويع مصادره إلا أن المنظومة الوطنية تتعرض خلال موجة البرد الحالية، إلى تحديات خارجة عن إرادتها، نتيجة إجراءات أحادية من الجانب الإيراني.”
وأضاف أن “الجانب الإيراني قام مؤخرا بتخفيض إمدادات الغاز المشغل للمحطات الغازية رغم أن العقد المبرم بين الطرفين يلزم وزارة الطاقة الايرانية بتوريد خمسين مليون متر مكعب يوميا إلى العراق في فترات الذروة الشتوية والصيفية، ولمدة خمس سنوات، لكن هذا الإجراء المفاجئ أدى إلى فقدان ما يقارب ستة آلاف ميغاواط من الشبكة الوطنية.”
وأشار إلى أن وزارة الكهرباء، إذ تحتفظ بكامل حقوقها التعاقدية، تؤكد أنها تواصل اتصالاتها المكثفة مع الجانب الإيراني وتطالبه بالالتزام الفوري ببنود العقد المبرم وضمان إيصال الكميات المتعاقد عليها لضمان تشغيل المحطات الكهربائية وتوفير ساعات تجهيز موثوقة للمواطنين.”
ويعاني العراق منذ تسعينيات القرن الماضي نقصا في إنتاج الطاقة الكهربائية تظهر حدّته بشكل أوضح في مواسم ذروة الاستهلاك صيفا وشتاء مطلقة موجات احتجاج شعبي.
ولسد العجز يستورد العراق الكهرباء والغاز من إيران بما يتراوح بين ثلث وأربعين في المئة من احتياجاته، لكنه يواجه صعوبة في سداد ثمن تلك الواردات بسبب العقوبات الأميركية التي تسمح لإيران فقط بالحصول على الأموال لشراء السلع غير الخاضعة للعقوبات مثل الغذاء والدواء.
وفي وقت تسلّط فيه الأضواء على تبعية العراق لإيران في مجال الطاقة الكهربائية، وبينما تنصرف جهود بغداد نحو التخفيف من حدّة الارتهان لطهران في هذا المجال، تتعمّق بالتوازي مع ذلك الحاجة العراقية لاستيراد المواد الغذائية الإيرانية بسبب المشاكل المتزايدة التي تشهدها عملية إنتاجها محلّيا جرّاء التغيرات المناخية وندرة المياه المؤثّرة بعمق على القطاع الفلاحي في العراق وتراجع الصناعات الغذائية في البلد.
وأظهرت أرقام إيرانية نشرت في وقت سابق حلول العراق في المرتبة الأولى من حيث الدول المستوردة للمنتجات الغذائية والزراعية الإيرانية.
لا يخلو موضوع تبعية العراق لإيران في مجال المواد الأساسية والسلع الاستراتيجية من بعد سياسي يتمثّل في هيمنة قوى عراقية ذات ارتباطات وثيقة بإيران على مقاليد الدولة العراقية، الأمر الذي يجعل لطهران رعاة أمناء لمصالحها في العراق وعلى حساب المصلحة العراقية بحدّ ذاتها في كثير من الأحيان.
وتفضّل كثير من تلك القوى النافذة مواصلة استيراد مختلف السلع والمواد بما في ذلك ذات الاستهلاك اليومي الواسع، من إيران على إنتاجها محلّيا رغم توفّر الوسائل ووجود الظروف الملائمة لذلك.
وينطبق ذلك كأوضح ما يكون على ملفّ الغاز المستخدم في توليد الطاقة الكهربائية، حيث كثيرا ما توجّه أصابع الاتهام للأحزاب والفصائل الشيعية التي حكمت العراق منذ سقوط نظام حزب البعث في عرقلة مشاريع لاستغلال الغاز المصاحب لاستخراج النفط من الحقول العراقية والذي يتمّ حرقه رغم أن كمياته تكفي لتعويض الغاز المستورد من إيران والاستغناء عنه.
وبات ملف الكهرباء والغاز في قلب الصراع الدائر بين إيران والولايات المتّحدة على بسط النفوذ في العراق. وخلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني إلى واشنطن في شهر أبريل الماضي نزلت الإدارة الأميركية بثقلها السياسي والمالي إلى هذه المعركة لإقناع حكومة بغداد بإطلاق المشاريع المؤجّلة في مجال استغلال الغاز المصاحب وباستخدام خبرة الشركات الأميركية وقدراتها التقنية والمادية في المجال.
وتمّ خلال الزيارة توقيع مذكرات تفاهم في مجال الطاقة والمحروقات بالتزامن مع الكشف عن شراكة عراقية – أميركية ستتيح زيادة إنتاج الكهرباء بمقدار ثلاثة آلاف ميغاواط.
وفي مارس الماضي أعلن العراق عن خط للربط الكهربائي مع الأردن وتدشين خط كهرباء يسمح له باستيراد الطاقة. وكان من المتوقّع أن يتم تطبيق مشروع مماثل مع دول الخليج نهاية العام الجاري مع تدشين خط يربط جنوب العراق بالكويت لاستيراد نحو 500 ميغاواط في مرحلة أولى، بحسب ما أعلنه وزير الكهرباء العراقي في وقت سابق.
ويعني كل ذلك تخفيف ارتهان العراق في مجال الكهرباء للجارة إيران، كما يعني بالنتيجة حرمان الأخيرة من مبالغ كبيرة بالعملة الصعبة وهو ما يفسر استخدام طهران لحلفائها العراقيين في عرقلة مثل تلك المشاريع.
778 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع