هناك دائما ضحايا لفشل السياسيين وتعنتهم وغبائهم ولامبالاتهم، ضحايا نتعرف إليهم مصادفة حين تتصدر ملامحهم وأوجاعم فجأة نشرات الأخبار في التلفزيون والصحف ومواقع الانترنت، فلا نملك لهم سوى تعاطف آني ممزوج بالدهشة وسؤال يستفزنا على الدوام، ترى ماذا لو كنا هؤلاء ومتى سيأتي دورنا ونكون عناوين أخرى لأخبار ستستهلكها نظرات غرباء يطالعون وجعنا بلا مبالاة، ثم يطفئون أجهزتهم المزعجة ليخلدوا إلى النوم من دون أن تعلق بوجوههم دموعنا؟
العرب/ نهى الصراف:بعض الضحايا هم دون شك خلفية أنيقة لصور فشلنا ولامبالاتنا، ولكنها خلفية ناصعة ومشرقة وخربشات بألوان جميلة على صفحة دمار قدّر لها أن تراكم على جدرانها المقيتة في كل يوم المزيد من الأحلام الموؤودة، وتزرع حقدا وكرها وفجيعة.
في السابعة من العمر تعرضت زينب العقابي لحادث انفجار قنبلة كانت متروكة ومهملة في حديقة المنزل الذي انتقلت إليه برفقة عائلتها في بغداد العام 1997، القنبلة كانت من بعض مخلفات حرب الخليج العام 1991.
فقدت زينب جراء الحادث ساقها اليسرى، التي تأثرت بشظايا الانفجار، تبعه تشخيص خاطئ وسلسلة فاشلة من العمليات الجراحية والعلاجات القاصرة. وقدّر للفتاة الصغيرة أن تستيقظ في يوم من الأيام فتجد أن عليها مواصلة حياتها التي كانت في بدايتها، وهي بساق واحدة.
تصف العقابي إحساس هذه الطفلة بأنه كان قاسيا ويصعب وصفه “لم أستوعب ما حدث لصغر سني حينها، وكنت أحمل بعض مشاعر العتاب والغضب لوالدتي التي سمحت للأطباء بأن يدخلوني غرفة العمليات ويأخذوا مني جزءا مهما من جسدي، الساق التي لن أستطيع من دونها بعد الآن أن ألعب وأركض مع بقية الأطفال في مثل سني”.
وتضيف، “كنت أدرك حينها أن هذا الحادث سيغير حياتي ويقلبها رأسا على عقب وأني كأنثى سأواجه متاعب كثيرة بسبب نظرة المجتمع القاصرة إلى الأشخاص من ذوي الإعاقة. ولهذا السبب تحديدا، كنت مضطرة لمواجهة تحد كبير أن أعيش حياتي مثل الآخرين وأن أرضى بما قدره الله
لي، وأن أبحث عن الحلول بنفسي وأفكك الألغاز وأمتلك مفاتيح الصبر والإرادة كي يتسنى لي ممارسة حياة طبيعية مثل باقي الصغار. تعلمت أن أخلق هذا التوازن في حياتي وكان التحدي الأول الذي واجهني في ساحة اللعب مع الصغار هو ركوب الدراجة باستخدام ساق واحدة. نجحت في خلق التوازن لأحظى مثل رفاقي في اللعب بركوب الدراجة وهكذا واصلت حياتي أبحث عن الفرص وأخلق التوازن في الأشياء وأحل الألغاز.
وتعتقد زينب أنها مازالت تخطو بعض الخطوات غير المألوفة، خطوات في اتجاه تحرير رسائل إيجابية لمجتمع مازال ينظر لذوي الاحتياجات الخاصة نظرة شفقة وعدم ثقة ويضعهم في تصنيفات ظالمة ويخنقهم بالكثير من المشاعر المتضاربة التي لا مبرر لها، حيث تراها زينب حواجز وهمية لا بد من كسرها أو تخطيها والنظر بإيجابية إلى شريحة من المجتمع لا تقل أهمية في عطائها عن الآخرين.
وتستخدم زينب ساقا اصطناعية، وهو ما يتيح لها محاكاة الساق العادية، لتتمكن من تجاوز الصعوبات الصغيرة والتكيف مع الجهاز الجديد. لكنها في يوم ما قررت أن تتخلى عن هذا الجزء لتثبت أنه من الخطأ جدا عدم مواجهة الواقع والاعتراف به، وهي تعتبره من أفضل القرارات في حياتها. وتقول زينب إنها لم تكن تعرف أن لديها هذا الخيار بأن تكون من دون هذا الجزء التجميلي.
استغنت عنه ببساطة وجمّلت واقعها بالقوة والثقة في النفس فالمجتمع “بحاجة إلى أن يرانا بعين جديدة، بحاجة إلى أن يرانا على الرغم من اختلافنا المظهري كأفراد عاديين نذهب إلى العمل، نتحرك، نضحك، نمارس الرياضة ونقضي أوقاتا سعيدة مع الأصدقاء، وهي رسائل إيجابية كثيرة نحاول إيصالها يوميا لأصحاب الأعمال ليمنحوا فرص العمل والحياة لمن هم في مثل ظروفي، وهي رسالة أيضا لذوي الاحتياجات الخاصة وأغلبهم ممّن أسهموا في بناء جدران صماء تفصلهم عن مجتمعاتهم وتبعدهم عن ممارسة حياتهم الطبيعية، كي يتقبلوا قدرهم بنفس راضية ويواجهوا خجلهم ويروّضوا استياءهم ونقمتهم على هذا العالم الذي جعلهم مختلفين بعض الشيء عن غيرهم.
الاختلاف عن الآخرين ليس شرا في كل الأحوال، الاختلاف يمكن أن يفتح أبواب أمل واسعة وأن يجعل بعض الناس مصدرا لسعادة الآخرين وثقتهم بالحياة. أنا أرى أن الجزء التجميلي أسلوب حياة خاطئ، وأتمنى أن لا يكون خيارا نهائيا لمن هم في مثل ظرفي”.
وأكملت زينب دراستها في كلية الصيدلة بجامعة الشارقة في الإمارات بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وهي تعمل كمندوبة مبيعات في إحدى شركات الأدوية، ولعل أبرز إنجاز حققته هو اختيارها سفيرة لشركة “Ottobock” الألمانية، التي تعد أحد أكبر المساهمين عالميا في مجال الأجهزة الطبية والأطراف الصناعية لذوي الاحتياجات الخاصة.
وبذلك تكون زينب أول عربية تتبوأ هذا الموقع، ويكون توقيع العقد والحصول على لقب سفيرة تحقيقا لواحد من أكبر أحلامها. وهي تؤمن بأن القدر كان سخيّا معها حين أرسل لها هذه “الهدية”، التجربة التي تعلمت منها كثيرا، تجربة لعبت فيها الخسارة والربح الكابوس والحلم، الخذلان والإرادة، دورا مهما في تشكيل شخصيتها ورسم ملامح فتاة سعيدة جميلة وقوية لا تؤمن بالفشل. ومازالت زينب تكتب يومياتها في صفحتها على فيسبوك التي تحمل عنوان “معاق وافتخر”، تحاول من خلالها إبراز تجربتها وزرع الأمل والثقة في نفوس العشرات ممن يتشاركون معها همومها ويدخلون اختبار الفقدان للمرة الأولى.
وفي إحصائية للأمم المتحدة العام 2014، بلغ عدد المعاقين في العراق قرابة الـ3 ملايين شخص أغلبهم كانوا ضحايا الحروب التي مازالت تهز العراق كل يوم، لكن زينب تعتقد أن الرقم الآن أكبر بكثير من هذا، فالحرب لم تتوقف وسيكون هناك المزيد من الضحايا الذين ينتظرون دورهم ليضافوا إلى قوائم وجع جديدة.
806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع