د. منار الشوربجي
تزامن الأحداث المتشابهة قد يساعد أحياناً على فهمها، في عالم صار أكثر تعقيداً مما نتصور.
وقد تزامن هذه الأيام ما يمكن أن نطلق عليه "شبه" ثورتين في أوكرانيا وفنزويلا، لأن كلاً منهما ليست صناعة محلية خالصة، وإنما حملت الختم الأميركي بشكل أو بآخر. وأكثر ما يلفت النظر في كلتيهما، هو أنها تعيدنا بجلاء لأجواء الحرب الباردة التي كنا نظن أنها قد انتهت.
ففي أوكرانيا، كانت الولايات المتحدة هي المايسترو وراء الإطاحة بالرئيس يانكوفتش، فهي لعبت دوراً محورياً في دعم القوى المناوئة له مادياً وأدبياً. وكان العالم منذ أسابيع قد استمع لتسجيل صوتى مسرب، يحمل صوت فكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والآسيوية، استخدمت فيه تعبيراً فجاً للغاية في سب الاتحاد الأوروبي، واتهمته بأنه "ليس هجومياً بالقدر الكافي" مع الحكومة الأوكرانية.
لكن أهم ما في ذلك الشريط، كان أن نولاند كانت تدبر بوضوح مع سفير بلادها لدى أوكرانيا، لعملية الإطاحة بالنظام الحاكم هناك. وهي ذكرت في ذلك الشريط الاسم المفضل لدى أميركا لتولي رئاسة الوزراء حال الإطاحة بالرئيس يانكوفتش، وهو الذي تولى بالفعل رئاسة الحكومة الجديدة. ونولاند بالمناسبة هي زوجة روبرت كاغان، أحد ألمع المحافظين الجدد الذين عملوا مع بوش الابن، ونظّروا لمسألة تغيير النظم حول العالم ولو بالقوة، وفق مصلحة الولايات المتحدة.
والولايات المتحدة كانت على اتصال مع القوى التي قادت التمرد على الرئيس يانكوفتش، وتقول التقارير الصحافية إن نولاند نجحت في إقناع أصحاب الأعمال الكبار في حزب الرئيس يانكوفتش وأعضاء البرلمان الأوكراني، بضرورة التخلي عن الرئيس، وإلا تعرضت مصالحهم الاقتصادية مع الغرب للخطر. وبالفعل جاءت لحظة الحسم، وفسر البرلمان دستور أوكرانيا على نحو يسمح له بالإطاحة بالرئيس وتشكيل الحكومة بنفسه.
لكن نجاح عملية الإطاحة بالرئيس يانكوفتش ليست نهاية المطاف، إذ يبدو أنها نقطة البدء التي تفتح مستقبل أوكرانيا على كل الاحتمالات. فخلال أسابيع الثورة على يانكوفتش، كانت القوى التي مولتها أميركا وتواصلت معها قد فقدت السيطرة على حركة الشارع، وصارت الهيمنة لمنظمات عنصرية ومتطرفة تنتمي لتيارات الفاشية النازية الجديدة، ليس فقط الأوكرانية وإنما الأوروبية أيضاً. فقد رصدت تقارير صحافية وجود مجموعات من النازيين الجدد، جاءوا من دول أوروبية "ليحاربوا" في صفوف الأوكرانيين من أجل تحقيق "حلمهم".
ولتلك التيارات وجود لا بأس به في غرب أوكرانيا الذي يميل أكثر نحو الانتماء لأوروبا، بينما يميل الشرق والجنوب الأوكراني بدرجة أكبر نحو روسيا، الأمر الذي قد ينذر بكارثة محققة متى حدث انفصال للجزء الشرقي عن أوكرانيا، أو تدخل روسي رداً على التدخل الأميركي في أوكرانيا، خصوصاً أن حاكم القرم قد طلب رسمياً دعماً ومساعدة من روسيا.
والحقيقة أن رد فعل الاتحاد الروسي الذي وافق فيه على التدخل العسكري في أوكرانيا، لا بد من فهمه في إطار التدخل الأميركي أصلاً. فليس متوقعاً من الروس أن يقفوا مكتوفي الأيدي، بينما الولايات المتحدة قد غيرت نظام الحكم في بلد له أهمية استراتيجية كبرى على حدود روسيا، مثل أوكرانيا. لكن الذي سيدفع الثمن في تلك المعركة الضروس، لن يكون سوى الشعب الأوكراني الذي عانى طويلاً من صراعات الحرب الباردة، التي راحت تطل برأسها من جديد على أراضيه.
والأمر لا يختلف كثيراً في فنزويلا، إذ يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال مصرة على التخلص من اليسار في أميركا اللاتينية. فكما يعلم القاصي والداني، فإن الولايات المتحدة الأميركية دبرت في عام 2002 انقلاباً عسكرياً ضد رئيس فنزويلا الراحل هوغو شافيز، وعزلته فعلاً عن الحكم، ولكنه عاد بثورة شعبية هائلة خلال 47 ساعة.
وخلال الأسابيع الماضية، نشرت الصحف تقارير عن احتجاجات مناهضة للحكومة، اندلعت في العاصمة كاراكاس، يقابلها عنف حكومي فظ. ثم خرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ليعلن أن بلاده "يزداد قلقها" إزاء تلك الأوضاع". لكنك تحتاج أن تبتعد قليلاً عن التصريحات الرسمية الأميركية، وتسعى لتعرف ما يقوله زعماء أميركا اللاتينية أنفسهم، حتى تدرك ما الذي يجري بالضبط في فنزويلا.
فالرئيس موراليس، رئيس بوليفيا، قال صراحة إن تلك ليست احتجاجات ديمقراطية حقيقية، وإنما هي ممولة من أميركا وهدفها الرئيسي هو هدم ميراث شافيز الإنساني. وأرسلت رئيسة البرازيل بياناً للتضامن مع رئيس فنزويلا وشعبها، من أجل "مواجهة الهجوم الغاشم على سيادتها". وقد بعث رئيس كل من الإكوادور ونيكاراغوا برسائل مماثلة لرئيس فنزويلا، تضامناً معه "ضد محاولات أميركا صناعة انقلاب جديد".
الجدير بالذكر، أن الذين ينظمون تلك الاحتجاجات في فنزويلا، معروفون لدى القاصي والدانى. فالجميع يعرف أن هؤلاء من الذين أضيروا بحكم اليسار، وأن واشنطن دربتهم لسنوات طويلة، وهم أنفسهم الذين خطفوا الرئيس شافيز حين تمت الإطاحة به عام 2002. والقصة لا تختلف كثيراً في باقي دول القارة، فواشنطن تستقطب الأثرياء الذين أضيروا من حكم اليسار، وتدربهم لتغيير نظم الحكم في فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وغيرها.
وفي كل ذلك، لا يختلف الأمر كثيراً عن أجواء الحرب الباردة أيضاً. ففي تلك الأيام، كانت الولايات المتحدة تدبر الانقلابات في أميركا اللاتينية. الفارق الوحيد هذه الأيام، هو أنها تقوم بتغيير النظم من خلال مؤسسات مدنية، وبشكل أكثر نعومة من ذي قبل.
1756 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع