د. محمد عياش الكبيسي
الفكرة الأولى التي يستند إليها التكفيريون قديماً وحديثاً هي فكرة سياسية متعلقة بنظام الحكم وعلاقته بالشريعة الإسلامية، وكان خلافهم الأول مع الخليفة الراشد علي بن أبي طالب وخروجهم عليه لأنه رضي بتحكيم البشر! وهو في نظرهم مناقض لصريح القرآن:
"وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" المائدة 44، وقد كشف لهم ابن عباس أن تحكيم البشر وارد في القرآن نفسه من مثل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ" المائدة 95، و"وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا" النساء 35.
لقد كشف ابن عباس في هذه المناظرة أن هناك مساحة لا يمكن للوحي أن يتدخل في تقديرها مثل تحديد النفقة والفدية والعوض، وتقدير المواقف والمفاسد والمصالح، ونحوه اختيار الولايات والكفاءات والوظائف العامة والخاصة، وهي مساحة لا تقل أهمية عن الحكم الشرعي نفسه، وهذه كلها تحتاج إلى الخبرات البشرية، والخبرات هذه لا تكتسب الصيغة الملزمة بذاتها ما لم توضع في قالب تشريعي، وهذا هو معنى التحاكم إلى البشر الذي أنكره التكفيريون على علي بن أبي طالب، وهذه المسألة بالذات تتطلب فقهاً دقيقاً ووعياً بفلسفة التشريع الإسلامي لضبط العلاقة بين مساحة (الحكم الإلهي) ومساحة (الحكم البشري) ضمن الدائرة الأوسع وهي مساحة (الحكم الشرعي)؛ لأن الحكم الشرعي لا يمكن فهمه على أنه مجموعة من النصوص الإلهية المقدسة فحسب بل فيه قدر كبير من الاجتهاد والتقدير البشري، وهذا هو الذي يفسر ظهور المذاهب الفقهية المختلفة في آلاف المسائل الفقهية (الفقه)، بل وفي قواعد الاستنباط أيضا (أصول الفقه).
لقد تمكنت مناظرات ابن عباس ثم الجهود العلمية الكبيرة في تاريخنا الإسلامي المديد من محاصرة ظاهرة التكفير وربما القضاء عليها، لكن الذي حدث أن البنية الثقافية والمعرفية للمجتمع الإسلامي قد تخلخلت بعد سقوط الخلافة وظهور انعكاسات الغزو الثقافي الغربي على شكل أحزاب أو تيارات تنادي صراحة بعزل الشريعة الإسلامية والاعتماد على منجزات الخبرة البشرية المعاصرة، وهذا التطور الخطير والذي طال بالفعل قواعدنا الداخلية في التعليم والإعلام وصولاً إلى هرم الحكم كان لا بد أن يقابل بردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فكانت الفتاوى بتكفير الدعوات العلمانية والتغريبية، ثم تبلورت هذه الفتاوى على شكل نظرية أو نظريات ظهرت في كتابات المودودي وسيد قطب وتقي الدين النبهاني وغيرهم، وربما كان كتاب (جاهلية القرن العشرين) العنوان المعبر عن هذه النظرية، فهو قد استعار معركة الإسلام الأولى مع الجاهلية ليقول لنا: إن المعركة قد عادت من جديد.
تأثرت سريعاً الشام ثم العراق ثم المغرب العربي بهذه النظرية، وأنتجت فعاليات ثقافية وتنظيمية مختلفة، بيد أن من المفارقات الغريبة أن تتأخر الجزيرة العربية وهي مهبط الوحي وتركيا وهي عاصمة الخلافة! ويبدو أن الجزيرة لم تكن متناغمة تماماً مع مركز الخلافة بل كانت هناك خلافات مذهبية وسياسية وصلت إلى حد الصدام المسلح، وبالتالي فلم تكن ردة الفعل على سقوط الخلافة بمستوى المناطق الأخرى، كما أن الجزيرة لم تتأثر بموجة التغريب التي شهدتها مصر والشام والعراق، وهذا عامل آخر، أما تركيا فيبدو أن الشعب التركي لا يتحرك بردود الأفعال السريعة كما هو حال العرب، ومن الواضح من كتابات سعيد النورسي وفتح الله كولن وسياسات أربيكان ثم أردوغان أنهم يحاولون الجمع بين مشاريعهم الإسلامية من ناحية ووحدة النسيج التركي واستقرار الدولة من ناحية أخرى، وهذه خبرة يفتقر إليها العرب بلا شك.
حافظت النظرية لعقود طويلة على سمتها السلمي سوى بعض الخروقات هنا أو هناك، إلا أن التطور الخطير قد جاء من هناك من جبال تورابورا، حيث تهيأت الظروف لتعانق طويل بين النظرية والسلاح، وهناك نستطيع القول: إن النظرية لم تتطور تطوراً طبيعياً ومدروساً بل تعرضت لانقلاب حاد، فأسامة بن لادن والذي أخذ النظرية عن أحد رجالات الإخوان وهو الشيخ عبدالله عزام قد انقلب بعد شيخه على رموز النظرية ودعاتها ودخل في حرب ضروس مع سياف وحكمتيار ورباني، ثم انقلب على جزيرته العربية ليؤسس لنظرية جديدة تعتمد على مقولتين (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) و(شرك القصور أشد من شرك القبور) ثم تعقدت الأمور أكثر على يد الظواهري ثم البغدادي، والذي أعلن انشقاقه عن الظواهري؛ لأن الأخير ما زال متأثراً برواسب سايكس بيكو ويرى فصل الجهاد في العراق عن الجهاد في الشام!
إن الصراع لم يعد منحصراً بين (دعاة الحاكمية) و(دعاة العلمانية) بل تعداه إلى صراع داخل مدرسة (الحاكمية) نفسها، ومن قتل في أفغانستان في صراع القاعدة وطالبان من جهة والجماعات الجهادية الأخرى ربما لا يقل عن من قتل من الإسلاميين كلهم على يد الحكم الشيوعي الموالي للسوفيت، كما أن من قتل من الإسلاميين العراقيين على يد القاعدة يفوق بأضعاف كثيرة من قتل منهم على يد الحكومات العلمانية منذ سقوط الخلافة وحتى سقوط بغداد!
إن هذا الاحتراب له أكثر من تفسير، وقد يكون الاختراق الأجنبي وارداً بقوة، لكن هذا لا يلغي أصل الخلاف، فـ(الحاكمية) أجابتنا عن حق الله في الحكم، وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، لكنها تركت فراغات واسعة وتساؤلات ميدانية ملحّة دون حل مثل:
1 - هل يمتلك الإسلاميون صلاحية فرض الحكم الإسلامي بالقوة؟ أو لابد من التدرج في الخطوات وسلوك الطرق الدعوية والتربوية لإصلاح المجتمع، ومن ثم ننتظر التغيير الطبيعي، حيث إن المجتمع الصالح سيفرز بالضرورة حكومة صالحة؟
2 - وإلى أن يتم التغيير بالقوة أو بغيرها، وهذا قد يتطلب عقوداً من الزمن، كيف يتعامل المسلم مع نظام الدولة وقوانينها؟ وهو لا يمتلك إلا واحدة من اثنتين؛ الالتزام بالنظام أو التمرد والفوضى؟
3 - إذا سمح النظام للإسلاميين بمشاركته في السلطة، أو بمنافسته عليها في صناديق الاقتراع، هل يجرب الإسلاميون حظهم أو أن هذا معناه تحاكم إلى الطاغوت، وعرض لحكم الخالق على تصويت المخلوقين؟ ولو أنهم وصلوا بالفعل فهل يجوز لهم فتح المنافسة من جديد والتي قد تهدد بوصول خصومهم العلمانيين وضياع الفرصة لبناء الدولة الإسلامية أو الخلافة المأمولة؟
4 - إذا نجح الإسلاميون في تشكيل دولتهم الإسلامية، فكيف سيتعاملون مع المجتمع الدولي والأعراف السياسية العالمية، هل سيطبقون ما قرره الفقهاء من تقسيمات لدار الحرب ودار الإسلام أو أنهم سينتجون فقهاً جديداً يتواكب مع متطلبات العصر؟
5 - إذا اختار الناس حاكماً أو حزباً لا يحمل المشروع الإسلامي، فما حكم هؤلاء الناس؟ وكيف نتعامل معهم؟
6 - في الدول (الكافرة) التي يعيش فيها المسلمون كجالية أو أقلية كيف يتعاملون مع سياساتها وقوانينها؟ وما انعكاسات ذلك على وجودهم ومستقبلهم؟
7 - وأخيراً فهل الخلاف حول هذه الأسئلة وتفريعاتها يعد خلافاً اجتهادياً يدور بين الصواب والخطأ؟ أو هو خلاف عقدي يدور بين الإيمان والكفر؟
إن هذه التساؤلات ونحوها تشكل أساساً كبيراً للتمايز بين التوجهات الإسلامية المعاصرة، وحينما نفتقد لغة الحوار والبحث العلمي الموضوعي، فستظهر الحلول الأخرى بالسباب والشتائم أو بالعبوات والمفخخات
1747 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع