وفيق السامرائي
غالبا ما يظن بعض العرب أن ما يحدث من اضطرابات ليس إلا نتاج مؤامرات أجهزة استخبارات خارجية، وهم بذلك يصنعون هياكل من وهم مبالغ فيه إلى حد الأساطير، حيث أثبتت التجارب أن المؤامرات تبدأ في مرحلة لاحقة من الأحداث، مبكرة كانت أو متأخرة.
ففي تونس التي قادت ما سمي «الربيع العربي» بدأت الثورة على الفساد نتيجة احتقان ومشكلات معيشية تفجرت بتصرف فردي، وحتى الآن لا يوجد ما يشير إلى حضور كبير لاستخبارات خارجية على مستوى الأحداث الحالية، التي بقيت ضمن إطار محدد بنطاق خلافات وإمكانات مقيدة بظروف صعبة، لا ثقل فيها لتدفق مالي أو خطوط تآمر نشطة.
الشيء الملموس هو أن شعوب دول عربية وجدت في التجربة التونسية مجالا للتقليد، وعندما تحركت وجدت من يدعمها بوسائل تحرك من أجهزة استخبارات معلومة. وفي هذا المجال تداخلت عناصر الثورة والمطالب المشروعة مع جهد التدخل الخارجي المحسوب ضمن نظريات المؤامرة فعلا. والمشكلة هنا تكمن في ضعف إمكانات عدد من الأجهزة في مجال المتابعة والتحليل والتخطيط، لأن المال وحده لا يمكن أن يؤمن عناصر النجاح اللازمة في عمليات على مستوى الانتشار الذي أصاب المنطقة العربية خلال فترة وجيزة تختلف عن كل ما حدث في أماكن أخرى من العالم.
في مصر، أصابت المخابرات الحربية والمخابرات العامة - على ما يبدو - في قراءاتهما للوضع الداخلي والتشابك الخارجي، وأصابت معهما أجهزة استخبارات الدول التي وقفت إلى جانب الثورة الثانية، على عكس الأجهزة التي عولت على الثقل الشعبي لحركة «الإخوان»، فخسرت طموحها ووجودها الحقيقي في مصر، وهي خسارة مهدت الطريق لخسارات أخرى تدل على تقديرات غير موفقة وقراءات لم تستند إلى متابعات وخبرات كبيرة. وهكذا كان الوضع في ليبيا، بعد أن تحولت الساحة إلى حلبة صراع بصفات التعصب المناطقي القبلي، ولولا السياسة الخارجية الخاطئة لنظام القذافي وتدخلاته في شؤون الدول الأخرى، لاعتبر ما حدث من التجارب غير المدروسة بعناية.
وفي اليمن خاصرة الخليج الهشة، تبدو الصورة أكثر اضطرابا، نظرا للتعقيدات التي يصعب تخيل إمكانية التغلب عليها على المدى المنظور، فكل شيء مضطرب ومتفكك ومتداخل، والحاجة ملحة لتدفق مليارات الدولارات لضمان الحد الأدنى من سيطرة دولة بلا موارد، رغم كل الجهود القريبة والواقعية التي بذلت من قبل جهات عربية لها مصلحة في استقرار اليمن. وقد تراجعت نشاطات بعض أجهزة الاستخبارات التي شعرت بأنها غير قادرة على مواكبة التطورات الكبيرة في الوضع العربي والإقليمي، وجراء المشكلة الكبيرة على الساحة السورية. وليس متوقعا رؤية تطورات واختراقات إيجابية في أحداث اليمن، وستستمر المعاناة وستتراجع أدوار دول أرهقها الوضع السوري المعقد.
ليس غريبا استعصاء الوضع السوري على فهم أجهزة ناشئة حتى لو امتلكت مالا كثيرا، لكن الغريب أن يمثل الجمود التركي انعكاسا واضحا للقراءات الخاطئة لأجهزة الدولة في الشأن السوري، إلى درجة غير معقولة. فكل ما يدور يدل على قراءات خاطئة، فأين خبراتهم وجهودهم ونفوذهم وتحليلاتهم وأموالهم وتصوراتهم وعلاقاتهم؟ لا سيما أن ما يحدث يؤثر على الأمن الاستراتيجي بمستويات لا يمكن التكهن بخطورة أبعادها من كل الاتجاهات الخارجية والداخلية. وحتى لو بدت الحالة الظاهرية مستقرة، فالدول التي تعرضت للاضطرابات كانت أكثر استقرارا من الوضع التركي في مجالات عدة، وخصوم تركيا أكثر شراسة ومكرا ودهاء من خصوم الرئيس مبارك.
ورغم كل ما قيل، لم يظهر ما يدل على أن الاستخبارات الإسرائيلية قد تخطت نشاط المتابعة التقليدية للإحاطة بما يدور، وبقيت مراقبتها دقيقة وهادئة وحذرة، ولم يثبت أنها ضالعة بما حدث إلى المستوى الذي شاركت فيه أجهزة أخرى قد تمتلك خيوطا من العلاقات معها. وعندها تتبلور الخبرات في مستوى الإعداد الفني للأجهزة وعناصر تقدير الموقف، خلاف الحالات التي حاولت أن تشق طريقا ظهر أنه أكثر تعقيدا من آمال الشباب وتطلعات الظهور، ولسوء الحظ فإن الأخطاء تدفع ثمنها الشعوب المعنية والفقراء والأبرياء تحديدا.
ومع كل ما حدث من اضطراب، فإن أجهزة عربية قريبة تصرفت بدراية وحكمة جنبت بلادها إفرازات ما يحدث بنسبة كبيرة من النجاح، في ظرف اتجاه المنطقة بكل تعقيداتها إلى حالة أكثر خطورة من عدم الاستقرار.
1594 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع