يا عود دندن حزن

د. فاضل البدراني

يا عود دندن حزن

قبل أن تحدّق العيون ببعضها وتزيل ما خلفته مدة البُعد التي دامت 90 يومًا من وجع الاشتياق، ذاك الوجع الذي لم تُترجمه أبلغ كلمات الأدب والشعر ولم تصل إلى عمقه، في حالة فُراق تحصل لأول مرة بين الطفل وأمه، في قصةٍ أصبح وجعها حديث الناس.

عندما سافرت الأم إلى شقيقها في محافظة أخرى تبعد عن محافظتها 360 كم، رفض طفلها الوحيد المدلل مرافقتها، لأنه يحب اللعب مع أطفال المنطقة، ولا يروق له الذهاب إلى مكان آخر لا أصدقاء له فيه، ولا ذكريات، ولا بساتين نخيل بدأ رُطَب التمر الزهدي، والأشرسي، والخستاوي، والبريم، بالنضج فيه، وهو ينتظره بعد أن حلّ شهر تموز، شهر الثورات والعنف في تاريخ العراقيين، والانفجار الحراري في الطقس.

يقضي الطفل، البالغ من العمر سبع سنوات، ساعات يومه مع أطفال الأقارب والجيران بلا مشكلة، بعيدًا عن أمه المدلّلة، التي لطالما رعته جدته المعروفة بحنانها، وكذلك خالاته في بيت الحنان الذي نشأ وترعرع فيه على أنه بيت الأهل. هذا الطفل، الذي لم يرَ والده منذ وُعي على الدنيا، بعد أن غضبت أمه من بيت الزوجية وعادت بطفلها إلى بيت أهلها لأسباب وخلافات اجتماعية، فقدت على أثرها والدها، الذي طُعن بخنجر من شقيق زوجها وأودى بحياته، في خلافات تعكس تركة الماضي العشائري المتخلّف، تلك التركة التي ما تزال تُشكّل سِمةً من سِمات كثير من العائلات العراقية حتى وقتنا الحالي.

ذات يوم، وبينما كانت الأم تغطّ في نوم عميق قبل الفجر، وهي التي تفصلها عن طفلها 360 كم، ذاك الطفل الذي يشكّل عندها موطن حنانها، وعنصر سعادتها، وريحانة حياتها، وقطعة من أحشائها، ونقطة ضعفها في خوفها عليه من أية حجارة، أو طير، أو غرق في النهر، أو لدغة حشرة، أو جوع، أو عطش، أو حتى حالة مرضية طارئة بسبب حرّ الطقس أو برودته، نهضت مفزوعة من نومها، تصرخ: “ابني، ابني، ابني!” وتُناديه باسمه. نهض على صوتها أفراد الأسرة: شقيقها وزوجته. قالوا لها: “خير، ما بكِ؟ ماذا جرى؟ قولي، احكي، ماذا حصل؟ ابنك بعيد عنك، لماذا تنادينه بهذا الفزع؟” قالوا: “لعلها أصابها الجنون، أو فقدت عقلها!” فردّت: “لستُ مجنونة، ولكن قلبي يخاطبني أن طفلي في مصيبة. إما تعرض للغرق في النهر، أو دهسته سيارة ومات، أو، أو، أو…”

قالوا: “ومن قال لك ذلك؟”
قالت: “رأيته في الرؤية. لقد حصل له أمر غير محمود.”

وبينما تركوها وعادوا إلى فراش نومهم، بقيت تلك الأم المسكينة يرتجف جسمها. بسطت السجادة وصلّت، ودعت لطفلها أن لا يمسه سوء أو شر، وقرأت من آيات القرآن، لكن قلبها لم يهدأ، وظلّ نبضه متسارعًا. بقيت في محنتها حتى الصباح، لم تغمض لها عين، فقررت السفر إلى محافظتها لتصل إلى أهلها وتعرف مصير طفلها الوحيد، ذاك الذي هو حصيلة علاقة زوجية لم تدم سوى أقل من ثلاث سنوات، قبل أن يحصل الفراق والطلاق.

في ذلك الزمان، الذي يبعدنا عنه أكثر من خمسة عقود، لم يكن الحال كما هو اليوم. لا هاتف أرضي، ولا موبايل، ولا وسائل تواصل، فالمعلومة تبقى حبيسة الصدور حتى اللقاء المباشر. ورغم صعوبة التنقل، وقلة وسائط النقل، وظروف الحياة المادية القاسية، فإن إصرار الأم فرض نفسه، حتى أيقن الجميع أن للطفل شأنًا خطيرًا، وأن القدر واضح في عيون الأم، وتخطّه دموعها التي لم تنقطع ثلاثة أيام.

جاءت السيارة، وتجهز المسافرون، وكانت الأم المكلومة أول الصاعدين إلى مقعدها. بدأت الرحلة باتجاه “الديرة”، حيث بيت الأهل، وهناك بقايا طفلها، نور عينيها. لم يشغلها سوى ما رأته في حلمها، والذي صار مصدر قلق لا يهدأ. انطلقت السيارة، والأم تعاتب عجلاتها على البطء، فهي من نوع لوري (باص فولفو)، ولمسافة تستغرق أكثر من خمس ساعات. توقفت المركبة عند مطعم، ونزل منها الركاب لتناول الكباب، إلا الأم، فقد بقيت في مكانها، متظاهرة بالاعتراض على كل دقيقة تأخير تفصلها عن لقاء مرتقب.

رفعت يديها تدعو الله أن يحمي طفلها، وصورته لا تفارق عينيها. في الطريق، كانت تستحضره، تحاكيه، تبتسم له، تناقشه عن حاله، وسرعان ما يهاجمها الخوف عندما تستفيق من خيالها، فتهذي بصوت عالٍ كالمجنونة: “لا، لا، لا! إنه ميت!”، ثم تذرف دموعها وتضرب يداً بأخرى وتكلمه مع نفسها: “يا وليدي، عيشتك بحضني وتاليها تروح مني؟ انت غريق الماء؟ كيف حالك؟ ليش خنت وصيتي وذهبت للنهر؟ ألا تعلم أني بدونك لن أعيش؟ ألا تعلم أني بدونك أصير مجنونة؟”

قلب أم يحترق بنيران القلق والخوف.

وصلت الأم إلى دار الأهل، ونزلت من السيارة، وفي رحلات سابقة، كان طفلها يهاجمها كالعصفور، يقفز من عشه ليحضتن أمه، يشم عطرها من القرنفل والسعد، و”ملفَعها” أو فوطتها. لكن هذه المرة، نزلت الأم ودقات قلبها تتسارع، وحضر شقيقها الصغير راكضًا، بينما غاب طفلها. صاحت بأعلى صوتها باسمه، وأخذت تتوارى بالتراب، دون أن يخبرها أحد بأي شيء.

حتى شقيقها الطفل وقف أمامها وأخذ يصرخ، ونحيبه صار يعلو. هنا، تيقنت الأم أن فلذة كبدها مات فعلًا، ولكن بأي سبب؟ هل الغرق؟ أُغمي عليها، قبل أن تصل حتى إلى البيت، وأمام أنظار الناس الذين تجمهروا حولها، وجوه تتلفّت، وعيون تغرق بالدموع.

القلوب تعرف، لكن الشفاه لا تقول.

سقطت الأم على الأرض، ركعت، ثم بدأت تضرب التراب بيديها:
– “وينه؟ وين ابني؟ يا ناس ردّوا عليه… وليدي! وينه؟!”
لم يردّ أحد.
الجميع ينظر.
الجميع يبكي.
لكنها وحدها كانت تحتضر واقفة.

دنت منها أمها، وحضنتها، وقالت:
– “يا بُنيتي، ابنك حيّ يُرزق، لكنه…”

ثم سكتت وبكت، فنظرت ابنتها وصرخت:
– “أمي، بروح والدي، وين ابني؟”

قالت الأم العجوز:
– “أخذوه أهله.”

ففهمت أن ولدها حيّ يُرزق، لكنه أصبح وديعة عند أهله الذين لم يلتقِ بهم يومًا، ولا يعرف أشكالهم، وفعلتهم هذه كانت انتقامية.

قالت الأم بصوت منكسر:
– “يا يمّه، خذوه غصبًا… ما كدرت أقاوم، ما عندي حيلة… جوي ناسهم، وكالوا ابنهم، وإنتِ مو موجودة، وأنا چنت أخاف يصير شي أكبر.”

لامت ابنتها: “ليش سمحتي لهم يأخذوه؟”
فقالت الأم العجوز: “يا بُنيتي، الندم ما ينفع.”

أدركت الأم أنها دخلت في ورطة جديدة، قد يطول فيها زمن اللقاء بطفلها الذي لا تعرف كيف حاله، كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ من يغسل له جسمه وملابسه؟

قالت، وهي بحالة يُرثى لها، ولم يعد بإمكانها البكاء، وقد ضعفت وذوت قواها:
– “أريد ابني.”

جاءت وعود الناس جميعهم، وهم يبكون:
– “سنأتي به، تطمني.”

ثم سحبوها إلى البيت، وحملتها أخواتها وأمها على الأكتاف، كجثة حيّة شبه فاقدة للوعي.

عند دخول غرفتها، بدأت ثانيةً ملحمة النحيب.

في الداخل، لا شيء يُسلي.
لا رائحة طفلها.
لا قميصه
لا صوته.
فقط غرفته الفارغة، والزاوية التي كانت له…
الزاوية التي فقدت رائحتها.

وفي المقابل، كان هناك قلب طفل يتفطّر بالحنين، وينبض بالشوق الذي تراكم عليه حتى لم يعد يقوى على تحمّله.
كان يستشعر كل آهات أمه، فيلوذ بالزوايا البعيدة، خارج البيت وداخله، ليبكي ويبكي حتى تجفّ شفتاه، وتتحوّل عيناه إلى قطعتي ملح من شدّة الدموع.

يدندن حزنًا، ويُلهج باسم أمه بحرقة، لكن بهدوء وصوتٍ خافت، كي لا يسمعه أحد من حوله؛ إذ يعدّهم غرباء، لا يعرف أسماءهم، ولا يطيق الحديث معهم، رغم حفاوتهم واهتمامهم به.

كان يمسك بعودٍ يشبه عودًا رآه في بيت أمه، ويُردّد:
يا عود، دندِن حزن…
ثم يهمس:
“ماما… وينك، ماما؟”
فتفيض عيناه بالدموع، قبل أن يغسل وجهه وعينيه، ويكفكف دموعه بيديه، محاولًا إخفاء كل معالم جراحه النفسية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

579 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع